العنوان النظام الاقتصادي الإسلامي
الكاتب إبراهيم الغيص
تاريخ النشر الثلاثاء 05-يوليو-1977
مشاهدات 13
نشر في العدد 357
نشر في الصفحة 22
الثلاثاء 05-يوليو-1977
الصراع العالمي الذي يضطرم اليوم بين الطبقات، ويثور ملتهبًا بين أكبر معسكرين شهدهما التاريخ، إنما يرتكز ويستمد الحيوية والطاقة والحرارة من اختلاف الفلسفة الاقتصادية للنظم السائدة هنا وهناك.
والحوار والجدل بين الأفراد والجماعات والحوار والجدل بين الشعوب والأمم، إنما يدور محوره أول ما يدور، حول التفاضل بين الألوان المختلفة للمذاهب الاقتصادية التي تحكم العالم وتهيمن على مقدرات أفراده وجماعاته.
ولعل أعظم كارثة أصيب بها العالم العربي والإسلامي، هي فناء روحه في هذا الصراع، وفقدانه لذاتيته الأصيلة لعقيدته وفكرته العامة عن رسالة الإنسان وأهداف الحياة.
ولقد خدعتنا الحضارة الأوروبية ببريقها وضجيجها وبأسها الغضوب حتى أنستنا أنفسنا وأنستنا ذاتيتنا فرضينا بأن تكون من الأذناب الذين يعيشون عالة على ما تفكر، وعلى ما تؤمن، وعلى ما ترسم من برامج ومناهج أيًا كان لونها وصبغتها .
لقد نسينا في وهج البريق والبأس الشديد أننا نمثل في هذا الكوكب الأرض القوة الربانية الإيمانية، وأن من خصائص هذه القوة الربانية الإيمانية أنها لا تذوب في غيرها من مذاهب الجاهلية ومناهجها، وأن من خصائص هذه القوة أيضًا، أن كل شيء في حياتها يجب أن يتكون بألوان عقيدتها، وأن يسمو بسمو إيمانها، وأن يخضع لمثلها الخلقية المساعدة. التي تحرص أول ما تحرص على تكوين مجتمع تتحلى فيه الرحمة، وتسوده المحبة، ويقوده التعاون- ويرفرف عليه الاطمئنان والسلام .
نسي العرب والمسلمون كل هذا، فأخذوا في محافلهم وصحفهم يتخاصمون ويتجادلون لحساب قوانين أمم أخرى، قد يكون في تصوراتها عن الحياة ومثلها، وفي تصوراتها عن صلات الأفراد والجماعات وحقوقها، ما يضاد الروح الإسلامي وما يناقضه ويحاربه، وينال من فلسفته ومثالياته .
بل إن الكثرة الساحقة من الجماهير العربية والإسلامية التي تعيش وعلى آذانها دوي الطبول الأوربية الهائلة، لا تكاد تتصور أن الإسلام أنظمة اقتصادية شاملة لكل شئون الحياة، ومناهج اقتصادية شامخة، تسابق المناهج الأوروبية وتفضلها بما فيها من خير وتعاطف وتراحم لا يجعل الفرد فريسة للمجموع كما في النظام الشيوعي، ولا المجموع ضحية الفرد كما في النظام الرأسمالي، بل منهجًا وسطًا وميزانًا قسطًا لا يميل ولا يهيف.
يقول أحد العلماء- مولاي محمد علي- في كتابه الإسلام والنظام العالمي الجديد- ص ٥٨ بعد حديثه عن النظام الاقتصادي لدول الغرب، هذا النظام الذي انتهى إلى طرفي نقيض بسبب عجزه عن سد حاجات المجتمعات، فهو إما حرب رأس المال ضد العمل- أي حرب البرجوازيين ضد الدهماء- أو حرب العمل ضد رأس المال- أي قتال الدهماء البرجوازيين..يقول هذا العالم: ..
إذا ما أردنا أن نوقف هذه الحروب إلى الأبد، وجب علينا أن نتلمس الوسائل وطرق العلاج بين هذه الطبقات المتحاربة في العالم أجمع، وما المسيحية- كدين، ولا المدنية المادية التي أنجبتها المسيحية- بمستطيعة أن تقدم مثل هذا الإصلاح المرجو، إذن فاقتراحات السلام في هذه الحالة أيضًا في يد الإسلام مرة أخرى، لأن النظام الاقتصادي الذي جاء به الإسلام وحده هو الذي يوفق بين رأس المال والعمل، وهو الذي يقدم الإصلاح المنشود فيسود السلام الحقيقي الأرض الطيبة .
ويقول العلامة الأوربي- جيب- في كتابه «حيثما يكون الإسلام»: ما يزال الإسلام يحفظ التوازن بين الاتجاهين المتغالبين المتقابلين في دنيا الغرب، فهو يساوي ويوائم بين الاشتراكية القومية الأوروبية، وشيوعية روسيا، فلم يهو بالجانب الاقتصادي من الحياة إلى ذلك النطاق الضيق الذي أصبح من مميزات أوروبا في الوقت الحالي، والذي هو اليوم من مميزات روسيا أيضًا. فالإسلام هو الصراط المستقيم والنهج الوسط بين الرأسمالية وبين الشيوعية.
يقول عالم آخر أوربي إن لدى الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدد في تحقيق فكر المساواة، وذلك بفرض زكاة يدفعها كل فرد لبيت المال وهو يناهض عمليا المبادلات التي لا ضابط لها، وحبس الثروات، كما يناهض الديون الربوية والضرائب غير المباشرة التي تفرض على الحاجيات الأولية الضرورية، ويقف في نفس الوقت إلى جانب حقوق الولد والزوج، ويشجع الملكية الفردية ورأس المال التجارى، وبذا يحل الإسلام- مرة أخرى مكانًا وسطًا بين نظريات الرأسمالية البرجوازية، ونظريات البلشفية الشيوعية.
وعلى ذلك فالإسلام هو بمثابة خالق السلام بين النظم الاقتصادية المتنازعة في دول الغرب المختلفة، فلنظامه الاجتماعي خصائص لا نجدها في غيره، فهو لا يدع العوامل الاقتصادية تشغل الذهن البشري بحيث تنسيه القيمة العالية للحياة، لأن من أول ما يتلقاه المسلم من الدروس هو أن واجب الله مقدم على كل واجب سواه وأن عليه أن يترك العمل الذي يباشره مهما عظم- إذا ما دعاه المؤذن للسجود لبارئه، وهذا النداء لا يجلجل في المبكور فقط، ولا في العشي عندما يأوي الإنسان إلى فراشه، بل يتردد أثناء انهماك الإنسان في عمله اليومي، وأنه ليعلم أن عليه أن يركز كل انتباهه في عمله ليكسب عيشه، ولكنه يعلم في نفس الوقت أن الإنسان لا يعيش بالخبز فقط وأن للحياة قيمة أعلى، تتداعى أمامها كل قيمة مادية، وما لم نعلم هذه الحقيقة فستجلب المنافسة الاقتصادية بين الأفراد والشعوب الويل والدمار بدل الهناء وراحة البال.
نسيت الشعوب المتحضرة في تسابقها من أجل المنافع الاقتصادية هذا الدرس، ولذا فإن كلًا منها يسعى لتدمير الآخر والقضاء عليه .
الإسلام هو خالق السلام بين النظم الاقتصادية المتنازعة في دول الغرب المختلفة، ولنظامه الاجتماعي خصائص لا نجدها في غيره فهو لا يدع العوامل الاقتصادية تستعبد الذهن البشري وتسترقه بحيث تنسيه القيمة العالية لمثاليات الحياة.
ذلك هو الفيصل بين النظام المالي في الإسلام والنظم الغربية في ظل تشتيت ألوانها وصورها.
فإن الإسلام ليستهدف في كل نظمه الأخلاق وكرامة الإنسان وعدالة الإيمان ولهذا لم يعرف الإسلام يومًا حرب طبقات وهي شعار الغرب الدائم- ولا المجال الحيوي الاستعماري- وهو طابع الحضارة الغربية – ولم يعرف تلك الرأسمالية المتحكمة السيدة، ولا تلك الشيوعية الكافرة الجاهدة ولا هذا السحت الربوي المدمر المذل.
لقد أدار الإسلام نظامه المالي على هدي تعاليمه، فارتكز صرحه أول ما ارتكز، على أن المال هو مال الله:
﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ﴾ (النور: 33)
﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ﴾ (الحديد: 7)
المال مال الله، والفرد مستخلف فيه، وكلمة الاستخلاف هنا عظيمة الدلالة، محددة الغاية، لأن الاستخلاف غير التملك، ومن هنا تحددت علاقة المال بصاحبه، فهو مستخلف فيه لخير المجموع وصالحه، ولهذا فإن الصبي أو الرجل المبذر السفيه يحجر عليه- ويمنع من التصرف في ماله..يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ (النساء:5)
فأضاف الله جل جلاله مال السفيه إلى المسلمين باعتبارهم وحدة متماسكة، ومنع السفيه من التصرف فيما يملك خوفًا من إساءة استعماله لماله كما منع الصبي لعدم اكتمال عقله .
كنز المال أيضًا لا يجيزه الإسلام ولا يعترف به، لأن الواجب المفروض هو توظيفه وتداوله- ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ (التوبة: 34-35)
ويقول الامام ابن عقيل إن حبس المال عن التداول في كل ما يعود على المسلمين نفعه، ينطبق عليه الكنز، لأن العمل لغير المسلمين هو في سبيل الله، وهو الأصل في المال.
ومن هنا كان الاحتكار في الإسلام يصاحب الكفر، كما يقرر الرسول صلوات الله وسلامه عليه- في حديث رواه أبو داوود في سننه عنه إنه قال: من احتكر طعامًا أربعين يومًا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، لأن فيه التضييق على المسلمين وفيه الاستغلال والتحكم .
فإذا أوضحت تلك الكليات الكبرى في أفق الاقتصاد الإسلامي، وضحت تبعا لذلك رسالة المال في الإسلام وضوحًا يجعل المشرع الإسلامي يبني تشريعه المالي على أعلى وأخلد النظريات الاقتصادية الرحيمة العادلة، النظريات الاشتراكية الكاملة المبرأة من الظلم والجور، المال مال الله، فلا تفاخر به، ولا تقاتل عليه، ولا استغلال له، ولا تهالك وفناء في سبيل جمعه وكنزه، وإنما هو أداة لخير المجموع وسعادة الأمة وعزتها، وكل فرد من أبنائها فيما يملك إنما ينوب عن أمته .
والمال لا يجب أن يكنز أو أن يدخر ليتراكم في الخزائن والمصارف، وإنما يجب أن يتداول في الأسواق، كما يجب أن يزكي وأن ينفق منه للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين وفي سبيل الله، وفي كل ما يعود على أمته نفعه حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء فحسب، بل دولة بين أفراد الأمة جميعًا: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم.
ومن هذه الأفق، وفي هذا الضوء جاءت القواعد التي يرتكز عليها المشرع الإسلامي، فملكية الأرض مثلًا تسقط إذا تركها صاحبها ثلاث سنوات دون إحياء:- أي دون زرع- عملًا بالحديث المأثور ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين ثم تأتي بعد ذلك القاعدة الأخرى: من أحيا أرضًا مواتًا فهى له-. ويؤجرها لغيره الذي يكدح طوال حياته والثمرات تجبى للمالك.
ثم تأتي الناحية الاجتماعية في دستور الدولة المالي. وهو أعلى دستور اجتماعي تكافلي عرفته الحياة، فالدولة أولًا مسئولة عن كل فرد من رعاياها يقول البلاذري: كان عمر بن الخطاب يفرض للمولود مائتی درهم، فإذا بلغ زاده وكان إذا أتى باللقيط فرض له من بيت المال، أي فرض له رزقه ثم يأخذ وليه كل شهر بقدر ما يصلحه، ثم ينقله من سنة إلى سنة، وكان يوصي بهم خيرًا، ويجعل رضاعهم ونفقتهم من بيت المال .
وجاء في كتاب السياسة الشرعية لابن تيمية في باب وجوه صرف الأموال ومن المستحق ذوو الحاجات.فإن الفقهاء قد اختلفوا، هل يقدمون في غير الصدقات والفيء وغيره على غيرهم.؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، منهم من قال يقدمون ومنهم من قال المال استحق بالإسلام فيشتركون فيه كما يشترك الورثة في الميراث، والصحيح أنهم يقدمون، فإن النبي كان يقدم ذوى الحاجات كما قدمهم من مال بني النضير، قال عمر: ليس أحد أحق بهذا المال من أحد، وإنما الرجل وسابقته، والرجل وغناه، والرجل وبلاؤه، والرجل وحاجته، فجعلهم عمر أربعة أقسام..
الرجل وحاجته، قاعدة أصيلة في النظام المالى الإسلامي، كل رجل لا يملك شيئًا ولا يجد عملًا، فالدولة كفيلة، إما بإيجاد العمل له، أو بسد حاجته.
وكتب والى العراق إلى عمر بن عبد العزيز، فإنه قد اجتمعت عنده أموال عظيمة فأمره بأن يوسع بها على المسلمين وذراريهم في أرزاقهم، فكتب إليه إنه قد فعل وحصلت أموال، فأمره أن يزوج أبكار النساء أبکار الرجال، فكتب إليه إنه قد فعل وحصل مال، فكتب اليه أن يقوي أهل الذمة على العمارة ويجعله سلفًا عليهم .
ويقول ابن حزم في كتابه- المحلى-: فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان في ذلك إن لم تقم الزكوات ولا فيء المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من المطر والشمس وعيون المارة .
ويقول عمر بن الخطاب: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء وقسمتها على الفقراء .
ويقول على بن أبي طالب: إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء وما جاع فقير إلا بما متع به غني .
ومن منشورات خالد بن الوليد إلى أهل الشام: أيما شيخ عجز عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًا فافتقر، إلا طرحت جزيته إن كان ذميًّا، وطرحت زكاته إن كان مسلمًا، وأعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن اقضوا عن الغارمين، فكتب إليه، إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس، وله الأثاث في بيته فكتب عمر لا بد للرجل من المسلمين من مسكن يأوى إليه رأسه، وخادم يكفيه مئونته. وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين.
وبجوار الواجب الحكومى يقوم الواجب العام المفروض على كل فرد من أبناء الأمة الإسلامية المتضامنة المتكافلة .
عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن مع النبي في سفر، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال الرسول من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فيعد به على من لا زاد له.قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل .
روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بينهم في واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم .
وجاء رجل إلى النبي فقال: اكسنى يارسول الله، فقال له: أما لك جار له فضل ثوبين؟..قال: بلى غير واحد.قال: فلا يجمع الله بينك وبينه في الجنة .
- مكانة النظام الاقتصادي بين النظم الاقتصادية العالمية.
لكل نظام اقتصادي عرفته الإنسانية، فلسفة خاصة به استوحاها من سیاسته ورسالته.
ولكل نظام اقتصادی عناصر يتميز بها ويقوم عليها، ومن مجموع هذه الفلسفة وهذه العناصر، يتكون النظام الاقتصادى، ويأخذ الاسم الذي يتفق مع هذه الفلسفة، ويتسق مع هذه العناصر.
فلسفة النظام الرأسمالي تتمثل وتتجسد في الفردية، فهي تمهد للفرد سبل الاستغلال، وتمنحه ما يشاء من ربح وتضخم وثراء واحتكار.
ومن هنا يرتكز هذا النظام على الملكية الفردية والحرية الفردية ويتجه إلى تحقيق الفلسفة الفردية المطلقة التي يقوم عليها، ويؤمن بها غير ملتفت إلى مصلحة الجماعة ولا مقدر لها.
وللنظام الشيوعي فلسفته وعناصره التي تخدم رسالته التي يقوم عليها والتي تتمثل في عدم الاعتراف بالفرد وحريته والإيمان بالجماعة إيمانًا يمنحها دكتاتورية مطلقة.
الجماعة التي تملك أموال الإنتاج- وتملك رأس المال، وتملك كل شيء في الأرض وجو السماء، حتى الضمائر والعواطف والمشاعر.
فالفرد آلة مسخرة، وليس له أن يفكر، بل ليس له أن يختار ما يعمل وما يأكل وما يرتدى .
والنظام الاقتصادى الإسلامي الذي انبثق من الرسالة الكلية الإسلامية لا يستمد فلسفته من الفرد فحسب، مهددًا مصلحة الجماعة، كالنظام الرأسمالي، ولا يستمد فلسفته من الجماعة فحسب مهددًا مصلحة الفرد وحريته وملكيته.
وإنما يقوم ويرتكز نظامه على أصلين أساسيين جمع فيهما أصلح ما في النظامين الرأسمالي والشيوعي.
أولهما: الاعتراف بمواهب الفرد وحقه المقدس في ثمرات كفاحه وعمله، وهذا هو الأساس الذي بنى عليه النظام الرأسمالي العالمي.
ثم تقرير حق المجتمع في كسب الفرد ووجوب التكافل بين أبناء الأمة، وهو الأساس الذي بنى عليه النظام الشيوعي الدولي.
وبذلك المزج، اختص الإسلام بأفضل ما في النظامين، وقدمه رحمة وهدى للإنسانية، في صورة اشتراكية اجتماعية إيمانية، جوهرها الأخوة الإنسانية الرحيمة، والمبادئ الخلقية الرفيعة، قبل أن تعرف الدنيا فلسفة النظامين بأربعة عشر قرنًا.
وبذلك تخلص النظام الإسلامي الاقتصادي، من أنانية الفرد وطغيان رأس المال وجبروته واستبداده، وإهداره لكل القيم الأخلاقية والإنسانية في سبيل مطامعه ومغامراته وجشعه وشهواته .
كما تخلص من دكتاتورية الجماعة وطغيانها، وإهدارها لحق الفرد وتذكرها لذاتيته، وقتلها لمواهبه ونشاطه .
ثم يأتي الروح الإسلامي العام، يضفى على الاقتصاد الإسلامي نسمات من روح الله وهداه. فالنظام الاقتصادي الإسلامي «تنفصل نظمه وقواعده عن الشعور والسلوك والضمائر والوجدانيات والقيم». وتلك هي ميزة الاقتصاد الإسلامي الكبرى.
إنه اقتصاد يفي بحاجات الناس- ثم تتوجه إنسانية فاضلة، واقتصاد أسس على الأخلاق. وعلى التقوى وعلى التراحم، فهو ليس بمواد جافة بل هو حياة حية.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾.. (النساء:29-30) وهذه الآية ترشدنا إلى روح مبين من فلسفة هذا النظام، فقد اشترطت مشروعية التجارة بأمرين .
الأول: أن تكون هذه التجارة عن تراضٍ بين الفريقين.
الثاني: ألا تكون منفعة فريق قائمة على خسارة الفريق الثاني.
فمؤدى تلك الآية، أن كل من يضر غيره لمنفعته الشخصية، فكأنه ينزف دمه، ولا يفتح طريق الهلاك إلا على نفسه في نهاية الأمر.
وحينما تنظر الرأسمالية إلى الإنسان كسلعة، وتنظر الشيوعية إلى الإنسان كآلة مسخرة. وينظر الإسلام إليه كروح وحس وشعور ورسالة سماوية.
وحينما تعبد الرأسمالية الدولار وتوابعه، وتفسر الشيوعية التاريخ والدين بالاقتصاد وضروراته، ينظر الإسلام إلى المادة كشيء مسخر لخدمة الإنسان.
لقد فقد الإنسان في النظامين- الرأسمالي والشيوعي ذاتيته وحريته وكرامته واستعبد ذليلًا مهينًا لسطوة المال، وسخر عبدًا رخيصًا لمغامراته وأهدافه.
لقد قيم كل شيء في الفلسفتين بالمال، وأصبح الإنسان أرخص هذ القيم وأحقر هذه السلع.
من هنا كانت الفروق الأساسية، النفسية والجذرية بين النظم الاقتصادية العالمية، والنظم الاقتصادية الإسلامية، واضحة وضوحًا مبينًا في روحها وأهدافها.
فالحياة الاقتصادية في نظر الإسلام، حياة تراحم وتعاون وتكافل ورحمة حياة إنسانية لها مثل عليا تستمدها من رسالتها وعقيدتها ...
بينما هي في النظرة الرأسمالية والشيوعية على السواء، حياة صراع وتقاتل وسيطرة واستعباد، صراع تحترق فيه وتفنى كافة القيم العليا.
لتبقى قيمة واحدة حية مهيمنة: قيمة رأس المال الفردي أو الجماعي.
إن الإسلام في كافة نظمه وتشريعاته، هو توازن وتعادل، فلا روحانية حالمة تحلق بعيدًا عن واقع الحياة، ولا مادية مظلمة جشعة حقودًا، تتنكر للروح والفضيلة
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (سورة الكهف: 46)
لقد اتهم الإسلام في العصر الحديث بأنه خلو من التفكير الاقتصادي، بل اتهم بالرجعية الرأسمالية، وأنه استغلال للطبقات المستضعفة من الكادحين كافة.
وسر الاتهام الجهل بالإسلام ونظمه وروحه ورسالته.
لقد جاء الإسلام دعوة تحريرية بكل ما في التحرر من معانٍ واسعة عريضة بل جاء ثورة إلهية- إن جاز التعبير- على الجمود والضعف والرجعية المادية والعقلية.
جاء في نظامه الاقتصادي تأسيسات رشيدة هادفة تحقق التعاون بين الطبقات في ظل المحبة وتكفل التطور الهادف في نطاق كليات مرنة تتسع آفاقها لكل خطو بشري واتجاه حضاري .
وبهذا كله تمشي النظم الإسلامية حية نامية متطورة محتفظة بفاعليتها و إيجابيتها وصلاحيتها الخالدة، غير منعزلة عن خطو التاريخ ولا متخلفة من موكب الحضارة.
تمشي وبيدها مشعلها ورسالتها، التي تصنع بحق خير أمة أخرجت للناس..
عن جريدة الاتحاد العدد ١٧٣٩ بدولة الإمارات
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل