العنوان النهضة المرتقبة بين الهواة والحواة
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر الثلاثاء 11-يناير-1994
مشاهدات 13
نشر في العدد 1083
نشر في الصفحة 37
الثلاثاء 11-يناير-1994
مشاريع النهضة ليست هزرًا او لعبًا أو أحلامًا ليقظة يلهو بها المهازيل، كما أنها ليست سرابًا في عيون نائمة أو ثرثرة في حلوق فارغة أو «فهلوة» أو استعراضًا أو معلمة، لفتية عابثة وإنما هي أعمال كبار، وتحد وكفاح وعدة، وصدق الله ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ (التوبة:46) ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ (النساء: 123)
وذلك لأنها:
1- نتاج دراسات عقول مبدعة وتجليات أفكار مستقرة ونظرات طبائع هادئة عميقة قادرة على الضبط والتنظيم وحساب الخطوات وحصر التوقعات وتقليص دائرة المصادفات والمفاجآت، وقراءة لغة التجديد حسب مناظير الظروف والطبائع والاعصار، وإيجاد الحلول العملية لما يطرحه الواقع المعاش من قضايا ملحة لرفعة الأمة
۲- مشاريع النهضة نتاج لهضم قدرات عقلية لتاريخ أمة ووعى لدورها النهضوي في فقه لمشروعها الحضاري الآتي المعاصر، ولا يكفى في نهضتها اليوم استلهام أنموذج غريب لبناء ذات حضارية سفاحًا من أمة أخرى، وإنما الأنموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء ذاتنا نحن وتحصينها وتلقيحها ضد الذوبان والاندثار والاستلاب ينبغي أن يكون مشتملًا على جماع التجربة التاريخية لامتنا مع الاستفادة من التجارب والوسائل التاريخية العملية والعلمية لأمم ناضلت مثلنا وتناضل من أجل النهوض والتقدم، ومن تجارب الأمم العلمية المعاشة والتي تفرض تقدمها العلمي على البشرية اليوم ولكن يظل لنا مرجعيتنا العقائدية والثقافية الدافعة والموحدة للأمة فكرًا وجهدًا وضميرًا لأن ذلك كله هو عماد النهضة، وكما يحدث دائمًا فإن الآراء المنقولة والثقافات المستوردة من بيئة فكرية واجتماعية إلى بيئة أخرى لا تتمكن دائمًا من استقطاب ما يكفى من الأنصار ولا تستطيع قطعًا تحريك ما يكفى من الحماس الجماهيري كما تتحول إلى قوة مادية حضارية فاعلة في الأحداث والتاريخ، بل جل ما يحدث غالبًا هو أنها تبقى لمدة من الزمن -إذا ما كتب لها البقاء- طافية على السطح منعزلة في بعض الهوامش من المهرجين أو المخدوعين إلى أن تنمحي وتزول، وهذا ما شوهد في الوطن العربي من تجارب ماثلة كاستيراد الاشتراكيات والماركسيات في الأمة الإسلامية والذى كان من نتائج ذلك تفكيك الأمة ثقافيًا واجتماعيًا وحضاريًا، مما ستظل تعانى منه الأمة لعقود قادمة. وكان ذلك نتاج أفكار شردت فضلت وهوت ودمرت.
٣- مشاريع النهضة تحتاج إلى رجال يعرفون كيف يواجهون المصاعب ويقبلون التحدي ويعرفون لغة الكفاح ويعايشون لهيب المحن ويقفزون فوق المصاعب لا أن يمتصوا دماء الآخرين، ويأكلوا أجساد الناس حتى النخاع ويتسلوا بآلامهم وأحزانهم، بل يسيرون بالناس جسدًا واحدًا ونفسًا واحدة لبذل الجهد والطاقة، وقد سمعنا الشعوب غير المسلمة تردد قولة التحدي لشكسبير نكون أو لا نكون، فكانوا ونهضوا وسمعنا آباءنا يرددون قول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران:٢٠٠) وسمعناهم يرددون: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران:١٤٠) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ (آل عمران:١٧٢) فكانوا وفازوا وصعدوا.
٤- مشاريع النهضة تحتاج إلى قلوب حانية وجوانح رحيمة ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ ﴾ (الفتح :٢٩) ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء:٢١٥) عقول لها حلوم وأفهام، أناس لا يتقنون فنون الجلد والتعذيب أو أساليب التحقير والتوهين لهذه الأمة. يقبلون الرأي الآخر ويفتحون صدورهم للنصيحة ويقدرون على إثارة دوافع الخير في الناس، يجمعون ولا يفرقون نفوس تخلت عن الأحقاد والضغائن وشغلت بالأعمال والأفعال.
٥- مشاريع النهضة تحتاج إلى إحياء دور المثقف المتفتح الذي يجعل التنمية هي ثقافته، والعمل هو مشروعه والتطور هو هدفه والتخطيط منهجه، والتقدم دأبه، والثورة العلمية والتقنية حلمه، والسلوك السوي والاتجاه الرباني زاده حينئذ يكون المثقف قوة دافعة لنظام اجتماعي وفكري وروحي وعقلي وحضاري منضبط ومتناغم مع نهضة علمية وتكنولوجية إنسانية فريدة يحتاجها العالم اليوم من خير أمة.
أما أن تكون النهضة جملة من المفارقات والتناقضات فتكون سيارة فارهة يركبها صاحب سلوك معين ما زال مظهره ومخبره بعيدًا عن التفكر في تقنيتها ويماثل تمامًا راكب الفرس أو الجمل في سلوكه المتباهي والمتغطرس أو أن تكون النهضة تلاعبًا بالألفاظ وتعالمًا باللسان وتغابيًا بالقوانين وتباهيًا بالألقاب والأموال أو تكون تكديسًا لمنتجات مستوردة أو استقدامًا لآلات الترف والزينة والراحة والاستمتاع، أو تكون تجميلًا للطرقات والعمارات والمساكن، أو تدشينًا للآلات الاستهلاكية والجمعيات أو تأنيقًا للحلل وإباحة للعرى واستجلابًا للعادات والتقاليد والنظم وتشبهًا بأمراض الحضارات ووقوعًا في حماة الأرجاس والضلالات الفكرية والاجتماعية، فهذه نهضة إلى الجحيم لا يقول بها إلا الهواة المجانين أو الحواة الدجالون.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
مستقبل المشروع الإسلامي (2) منظومة القيم: الدين كفكرة مركزية في مشاريع النهضة
نشر في العدد 2191
15
الأربعاء 01-مايو-2024