العنوان الهضيبي «قضى نحبه» وجاء دور «من ينتظر»
الكاتب عمر بهاء الدين الأميري
تاريخ النشر الثلاثاء 25-ديسمبر-1973
مشاهدات 14
نشر في العدد 181
نشر في الصفحة 24
الثلاثاء 25-ديسمبر-1973
احملوا الدعوة- لكي تواصل قافلة الإيمان مسیرتھا
• اقتراح: بإنشاء «موسوعة» تنظم «كل شيء» عن الإخوان
نشرت جريدة الأهرام القاهرية في زاوية صغيرة لا تلفت النظر من ركن الوفيات في عددها الصادر يوم السبت ١٦ من شوال ۱۳۹۳- ٣١٧٤٦ خبرًا صغيرًا قد يكون جل الذين يطلعون على الجريدة، ولا سيما في أنحاء العالم العربي، لم يلتفتوا إليه وهذا هو الخبر بنصه:
"فقيد الإسلام والعروبة
ودعت أسرة الهضيبي بعرب الصوالحة أمس عميدها المرحوم المجاهد الكبير الأستاذ حسن الهضيبي، واقتصر العزاء على تشييع الجنازة تحقيقا لرغبة الفقيد، وإنا لله وإنا إليه راجعون".
وهكذا مر الخبر دون أن تتحدث عنه الإذاعات وتكتب عنه كبريات الصحف والمجلات العناوين الضخمة في صفحاتها الأولى. ولولا الصدفة لما اطلعنا على هذا الخبر الصغير في ألفاظه الكبير جدًا في معناه العظيم في موضوعه ومغزاه!
• حسن الهضيبي هو المرشد العام للإخوان المسلمين الذي خلف الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس الجماعة وأول مرشد عام لها. وقد ولد في مدينة عرب الصوالحة من منطقة الشرقية القريبة من القاهرة. من أسرة دين ووجاهة. ومحيط كرم وشهامة وقد بدأ دراسته في بلدته.
ثم انتقل إلى القاهرة وفيها درس الحقوق. ونال إجازتها بتفوق، وعين قاضيا، حيث لبث يرتقي في مناصب القضاء معروفا بشدة النزاهة والتحري في إحقاق الحق، محفوفًا بالتقدير والإكبار من زملائه ورؤسائه حتى ارتقى إلى مرتبة مستشار ممتاز. وهو المنصب الذي كان يشغله في عام ١٣٧٠ من الهجرة- ١٩٥٠م- حيث انتخب وبويع مرشداً عاما للإخوان المسلمين، واستمر يشغل هذا المقام حتى انقضى إلى الرفيق الأعلى، رضي الله عنه وأرضاه.
• تاريخ دعوة الإخوان المسلمين، كبرى الجماعات الإسلامية خلال ربع القرن الأخير: تاريخ ضخم خطير كبير لا تستوعبه سطور ولا تفيه ولو جزءًا يسيرًا من حقه معالجة سريعة، بمناسبة هذا الفقد الأليم. ولا بد للأقلام مع الأيام أن تنصف الحق وتسجل بتحر وصدق هذه الحقبة من تاريخ الدعوة الإسلامية، وجهادها المقدس- وأننا لنرسلها بهذه المناسبة أهلية مخلصة ملحة إلى كبار أبناء هذه الدعوة البررة للمبادرة بالقيام بهذا الواجب، وإصدار موسوعة دعوة الإخوان المسلمين يسهم فيها كل من أعضاء الجماعة بما عنده من حقائق ووثائق.
والذي نريد أن نسجل اليوم -مع أصدق دعائنا إلى الله أن يجزي الراحل الغالي أحسن الجزاء عن جهاده الصادق وأن يعوض الأمة الإسلامية عنه خيرا- اعتراف بالحق وشهادة لا نبتغي فيها إلا وجه الله، وتسجيل المواقف البطولية والإيمان الصابر المثابر والحكمة العاقلة العاملة، وحسن التدبير، والرضى والشكر لله جل جلاله في السراء والضراء والسلامة واللاواء، مما هو من أخلاق رجال الله الصالحين والصديقين الصامدين، وإن كل ذلك كان يتحلى به المرشد الفقيد الأستاذ حسن الهضيبي أكرم الله مثواه.
• كان حسن الهضيبي رحمه الله مقدرا مرموقا مستريحا لعمله في القضاء، مستشارا في أرقى مناصب الدولة. وكان سعيدًا بوئامه مع أسرته ونجابة أبنائه، والكفاية الكريمة في رزقه.
وقد كان صديقا حميمًا ومستشارًا ناصحًا حكيمًا للأستاذ الإمام الشهيد حسن البنا شخصياً دون أن تكون له سابقة علاقة أو انتساب لجماعة الإخوان المسلمين..
وهي في عنفوان نفوذها وتسابق كبار الناس على خطب ودها والاعتزاز بإعلان الانتماء إليها بشكل أو بآخر. يبدو أن الأستاذ الهضيبي لبث في أجوائه الخاصة. مؤثرًا أن يعمل لله من خلال أسرته ووظيفته في بيئته وعزلته.
ولما وقع اختيار الإخوان المسلمين عليه. وفاوضوه في قبول مقام الإرشاد العام، اعتذر بعدم معرفته السابقة بتشكيلات الجماعة وبما يعتقده في نفسه من عدم الجدارة وما هو في طبيعته من العزوف عن المواقع العامة والجماهيرية التي هي بالضرورة مستلزمات قيادة الجماعة الإسلامية.
ولما أصر عليه كبار الإخوان وطالبوه بأن يقبل الاضطلاع بمهام هذا المقام، لإلحاح الحاجة إليه، ولأداء حق الله فيه مهما كلفه ذلك من تضحيات استجاب لداعي الله وترك ما كان فيه من حياة مطمئنة مستقرة لا عنت فيها ولا إرهاق وقال: إنى أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استشهد قائدها الأول قتلا واغتيالا، وعُذب أبناؤها وشردوا وأوذوا في سبيل الله، وإني على ما أعتقده في نفسي من عدم جدارة بأن أخلف إماما مصلحًاً مثل حسن البنا- رحمه الله- لأقدم وأنزل عند رغبة الإخوان أداءً لحق الله جل وعلا لا أبتغي إلا وجهه، ولا أستعين إلا بقدرته وقوته.
• كانت قوى البغي والطغيان بمختلف أجنحتها من صهيونية واستعمار صليبي غربي، وماركسي شرقي قد أدركت أن دعوة الإخوان المسلمين هي الخطر الحقيقي الأكبر على بغيها وعدوانها، لأنها امتداد من أصالة الإسلام على سنن الراشدين والمصلحين وأن فيها روحًا من سلفية ابن تيمية وابن عبد الوهاب، فأجمعوا كيدهم على محاربتها والقضاء عليها، وهكذا بدأ المرشد العام حسن الهضيبي حياته الجديدة في مكابدة لا تهدأ ومعاناة لا تنقطع، وقد امتحنت الجماعة وهو على رأسها مرات، وسجن وعذب وحكم عليه بالإعدام ثم بدل ذلك بالأشغال الشاقة وأجبر على ممارستها فعلاً وهو يسمع ويرى إعدام وتعذيب كبار أعوانه وإخوانه وأبنائه وأحبائه، وقد رغب إليه أن يتهاون في حق الدعوة أو يهادن وهو في ذروة المحنة، فرفض بإباء وصبر في مضاء، ومرض بالذبحة الصدرية فأُخرج للعلاج ثم أعيد للاحتجاز ومرت فترة المحنة الأولى فأطلق سراحه وعاد إلى العمل الجاد والجهاد الصادق، وجرت معه مفاوضات ليتراضى ويلين، فما زاده ذلك إلا ثباتًا في الحق وإمعانا في الجهاد يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة لم يهن ولم يستكن ولم يبدل تبديلا. وكانت المحنة الثانية فجاءت أشد ضراوة وأكفر عداوة، وكان قد شاخ وأضر به المرض ومشقة السعي في طريق محفوفة بالمعارك والمواثر، وحكم عليه من جديد بالسجن بالأشغال الشاقة وأعدم وعذب أعوانه وإخوانه بین سمعه وبصره وهو هو كالطود الذي لا يتزعزع، واشتد عليه المرض فطلب إليه إطلاق سراحه استثناء، فأبي وطلب أن يعم الإنصاف سائر المعذبين والمعتقلين من أبناء الجماعة المؤمنة الصابرة.
ودار الدهر دورته وأخذ الله من قضى عدله أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأطلق الهضيبي وجماعته فوجًا بعد فوج، وكان إعدام العلماء الأعلام والمجاهدين الصادقين أمثال عبد القادر عودة، ومحمد الفرغلي، وسيد قطب وما لقيه الإخوان من اضطهاد وتعذيب وما كان منهم من صبر واحتساب وصمود، أكبر عامل على نشر الدعوة وتعلق الشعب المصري بأهداب الإسلام، وإقباله على الله ومطالبته لحكامه أن ينطلقوا به من قواعد دينه وإيمانه، وساعد على ذلك ما وجده الناس في الإخوان وقادتهم من أسوة حسنة، وما وقع في الأمة الإسلامية ومصر من نكبات في ظل الحكم الذي حجز الإسلام عن المعركة، حيث كانت النكبات لا فقط في فلسطين، بل في كل دنيا العروبة والإسلام يوم استبعد الله من الميدان، ولم يمكن جنوده المؤمنون من خوض الحرب.
وفي عام ۱۳۹۲ كتب الله لحسن الهضيبي أن يعد بالحج والتقى بمحبيه ومكبريه في رحاب المشاعر المقدسة، وقد أنهكته الشيخوخة وترك العذاب والمرض في جسمه أقوى الآثار وأصبح مجرد فكر وقّاد، وروح مشرق ومثل حي للمجاهد المؤمن الأبي... وکان يحمل حملا إلى مجالس محبيه ومريديه فنعموا منه بالتحية المباركة والكلمة الطيبة والدعاء الصالح... وعاد إلى مصر من حجه المبرور يربض في عرينه كالأسد الهصور لم تفارقه البسمة ولا خبت إشراقات روحه وفكره ساعة..
وكانت معركة رمضان المبارك.. وأكرمه الله أن يسمعها تخاض بجند الله وفي سبيل الله، ونشيدها وترديدها: العزة لله، والله أكبر ولله الحمد.
وفي يوم الجمعة وبدر شوال في كبد السماء يصل بنوره بين رموس الشهداء ومنازل الأنبياء، فاض الروح الطهور، وانطلق حسن الهضيبي إلى الرفيق الأعلى يهلل له ويتلقاه في أعلى عليين شهداء المسلمين في الفردوس الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر..
وفي الأرض يأبى حسن الهضيبي أن يقام بمناسبة وفاته أي عزاء إلا تشييع الجنازة وفق السنة الشرعية، ويجري العمل بوصيته ونحن على يقين أنه لو فسح المجال وخلي بين أبناء هذا الجيل من المؤمنين الصادقين وما يريدون لما تخلف منهم واحد عن أن يشيع هذا الجثمان الغالي، ولكن هكذا كانت رغبة الفقيد، وهكذا تم الأمر ووصل إلينا النبأ صدفة عن طريق إعلان صغير في ركن الوفيات من جريدة الأهرام..
إنها أخلاق الأئمة الشهداء والصديقين الصالحين ففي كنف الله ورحمته ورضوانه أيها الأخ الكبير الحبيب والمجاهد الجليل العظيم، وفي حمى الله وتسديده وتأييده دعوة الإسلام الخالدة.. وعزاء يا رجال الدعوة ومضاء مضاء.. نرفع بالتي هي أحسن وندعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. لا يلتوي بنا درب ولا يعوقنا خطب إلى أن نلقى الله على الإيمان والإحسان وهو عنا راضٍ…
وعزاء يا إخواني أبناء الفقيد وأسرته، وإننا جميعا لأبناؤه وأسرته، ووداعا أبا إسماعيل إلى أن نلتقي على وعد الله وعهده وإنا لله وإنا إليه راجعون...
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل