العنوان الإسلام دستور الحياة الفاضلة.. ولكن!!
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر الثلاثاء 24-سبتمبر-1996
مشاهدات 39
نشر في العدد 1218
نشر في الصفحة 51
الثلاثاء 24-سبتمبر-1996
لم أتصور أبدًا حتى في صغري أن الإسلام مبتوت الصلة بالحياة، أو مقطوع الوشائج بالمجتمعات أو مفصول العرى بالفكر الإنساني، أو بالحضارة العقلية، أو العمرانية، أو العلمية.
ولم أتصور أبدًا أن يبلغ الجهل بالمسلم إلى الحد الذي يجعله لا يفرق بين الإسلام وبين المسيحية أو نحل أخرى.
ولم أكن أتصور كذلك أن تشارك السلطات، بل تلح في تجهيل المسلمين بالإسلام، وتحاول مستميتة أن تفصل بينه وبين الحياة، وتعمي على المسلمين تعاليمه المنظمة للمجتمعات، والقائدة للنهضات، وهذا كان من نحس الأمة ومن بلائها المضاعف في عصور الضعف التي أحاطت بها أزمنة طوالًا، ولقد عاشت الأمة طوال أزمنتها الممتدة حوالي أربعة عشر قرنًا تفهم طبيعة دينها، وتعي تعاليم قرآنها بأنه نظام شامل يهتم بأمور الحياة كلها، ويقود الإنسان فيها على صراط مستقيم بقيادة وسلطان وقانون وحكومة، ولهذا يقول الإمام «الغزالي»، رضوان الله عليه: «الدين أس والسلطان حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع»، وأما المحاولات البائسة من أعداء الإسلام في الداخل والخارج، والتي تتهم الإسلام بأنه قد خلا من مظاهر الحكم وتنظيم الدولة، فغير صحيحة أولًا، ومتهافتة ثانيًا، وغير منتجة ثالثًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سارع فور هجرته إلى المدينة الجديدة للمسلمين، فكتب الوثيقة المعروفة بدستور المدينة وأقام على أساس مبادئها المدونة دولة، بالمعنى الكامل لهذا المصطلح عند أهل الاختصاص ومارس فيها فعلًا أمور الحكم والرئاسة، وكانت الشورى أصلًا من أصولها، والعدل أساسًا من أسسها، ومسؤولية الرعاة والرعية كانت مبدأ من مبادئها، وكانت الأبنية التنظيمية الأخرى على ما هو مقرر ومعروف تزداد مع الزمن، فكان هناك نظام للتعليم والقيادة والمال والولاه … إلخ، وذلك لأن طبيعة الزمان والبيئة والواقع ما كانت لتسمح بمزيد من التركيب والتعقيد في بناء أجهزة الحكم وضبطه أكثر من ذلك.
وقد ازداد هذا النظام وضوحًا عند اتساع رقعة الدولة زمن الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم، وأسس الفقهاء المسائل، وفرعوا الفروع بناء على الأصول في الكتاب والسنة حتى كانت الثروة الفقهية التي نظمت الحياة والمجتمعات يوم كانت الدنيا ترزح في الجهالة والعماية والفوضى والظلم، هذا وبينما نجد أن هذا الفريق المعادي قد انكبت بالأدلة الدامغة الكثيرة التي أظهرتها المؤلفات الطوال في هذا المجال ترى فريقًا آخر يلوك شبهة أخرى ويتفرس بمقولة مختلفة، يصف فيها الحكم الإسلامي بالثيوقراطية، وهي كلمة تعني عند الغرب أن الحاكم ينفرد بتلقي الشريعة من الله، وله في رقاب الناس حق الطاعة بمقتضى حق الإيمان، وليس بمقتضى البيعة والعدل وحماية الحوزة، يقصدون بذلك أن يصفوا الإسلام بانه حكم جبري يقهر الناس على الإيمان والخضوع للحاكم الذي يحكم بالحق الإلهي وليس للناس دخل في توجيهه أو الاعتراض عليه أو عزله، وهذه مقولة خاطئة مثل سابقتها، وأكثر تهافتًا وضلالًا منها، لأن الإسلام لا يقيم حكومة دينية، لأن رضاء الشعب المسلم هو مصدر شرعية السلطة في المجتمع المسلم، وأن الحكومة الإسلامية على هذا هي حكومة مدنية، وليست حكومة دينية، أما النظام القانوني الذي يخضع له المجتمع المسلم فهو نظام قانوني إلهي المصدر، لأن مصادره العليا الأساسية ترجع إلى الوحي الإلهي، وقد خلط الجاهلون بين سند السلطة وطبيعة النظام القانوني، ولعل الخفاء الذي أحاط بهذه الحقيقة راجع إلى أن الحكم الإسلامي قد بدأ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم كان حاكمًا سياسيًا، ولكنه قبل ذلك كان رسولًا نبيًا، ولا ينطق عن الهوى وإنما يوحى إليه، ويحكم بين رعيته بما أراه الله، ومهما كان من أمر بشريته التي حرص القرآن على تأكيدها، وحرص هو على تذكير الناس بها، فإن نبوته واتصاله بالملأ الأعلى وتلقيه الوحي عن الله وعصمته حقائق لا يجادل فيها مسلم مؤمن، ولكن خلفاءه ﷺ من بعده قد انتفت عنهم العصمة فليس لأحدهم مرتبة خاصة إلا شرف الصحبة له ﷺ والتلقي عنه، وكان تنصيب هؤلاء الحكام بالبيعة، ورضاء المسلمين، واختيارهم وتفضيل أحدهم على الآخر شأنًا من شؤون المجتمع المسلم، وكانت محاسبتهم ومراقبتهم وعزلهم أمرًا يخص المجتمع، ويترتب على هذا الأصل نتيجة لازمة، وهي أن سلطة الحكم تستند إلى الشعب وتستمد من عقد البيعة أيًا كانت صورة تلك البيعة ووسائل تنصيب الحاكم تستند أولًا وأخيرًا إلى رضا الرعية وموافقتها، ولقد أسهم في وقوع هذا الخلط بعض الاستدلالات الموهمة في السباق المتداخل المركب في مثل قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ ﴾. (يوسف:٤٠)، وقوله تعالى ﴿ لَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾. (الأعراف: ٥٤)
وهذه النصوص وأمثالها تدل على مصدر التشريع الذي تخضع له الجماعة، ولا تعلق لها بالأمر الثاني، وهو أساس السلطة، الذي يتم بالبيعة واختيار الرعية، وهو سند شرعية الحكم في المجتمع الإسلامي، والبيعة إحدى الصيغ التنظيمية التي تعبر عن هذا الرضا وقد تتعدد الصيغ، وقد تعددت في اختيار الخلفاء بعد رسول الله ﷺ، ولهذا يجب أن تميز بين المبدأ من ناحية وبين وسائل وضعه موضع التنفيذ من ناحية أخرى، حتى لا يتعلق بالناس بصيغة واحدة يرونها جزءًا من أجزاء المبدأ، وركنًا من أركانه، هذا وإذا تعدينا وتجاوزنا هذه الأقوال الجاهلة الحاقدة وجلنا إلى العلماء نجد أن عالمًا مثل «مارسيل بوازر» يقول في كتابه «إنسانية الإسلام»، ص ٣٦٥: «من نوافل القول رفض الادعاء المتكرر آلاف المرات في الغرب عن عجز الإسلام عن تنمية نظام سياسي دينامي، لأن التاريخ يكتب ذلك تكذيبًا أمرًا وقاطعًا، لأن الإسلام قاد البشرية إلى الإخاء والاستقرار على مدار عصوره»، ويقول «جوزيف شاخت» -الأستاذ في عدد من الجامعات الألمانية، وأستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد ١٩٤٨م، ولندن ١٩٥٤م، وكولومبيا ١٩٥٧م-: «من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضر قانونه الديني الذي يسمى «بالشريعة »والشريعة الإسلامية تختلف اختلافًا واضحًا عن جميع أشكال القانون إلى حد أن دراستها أمر لا غنى عنه لكي تقدر المدى الكامل للأمور القانونية تقديرًا كافيًا، فإن الشريعة الإسلامية شيء فريد ورائع في بابه، وهي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية عظيمة، وأخيرًا يقول «ليوبولد فايس»: «إن أي إنسان لديه أدنى قسط من العلم يعرف أن الإسلام دين الحياة الفاضلة، نقول نعم: ولكن هل هناك من يسمعون أو يفهمون أو يعقلون؟