; الإسلام والأغنية العاطفية | مجلة المجتمع

العنوان الإسلام والأغنية العاطفية

الكاتب منير الغضبان

تاريخ النشر الثلاثاء 12-أكتوبر-1976

مشاهدات 27

نشر في العدد 320

نشر في الصفحة 28

الثلاثاء 12-أكتوبر-1976

الإسلام والأغنية العاطفية

للأستاذ: منير الغضبَان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:- 

الحديث عن موضوع الغناء في الإسلام لا بد أن يتم من خلال نقطتين اثنتين:

أولًا هما: النصوص التي وردت في هذا الموضوع؛ فهي التي تحكم المسلم في كل تصرفاته، فلا جدال في النص، والجدال لا يعني إلا فقدان المسلم لهويته الإسلامية.

﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65).

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (الأحزاب: 36).

وما نشتجر فيه اليوم ونختلف على حكمه فنرده إلى الله ورسوله ليحكم فيه وإلا، فلسنا مؤمنين. 

وثانيهما: بعد الالتزام بالحكم الإسلامي، فلا بد من الوقوف على حكمته وأثره، ومواطن العظمة فيه؛ لأن الإسلام والقرآن كما علمنا الله- هدى للذين آمنوا- وهو- خير وأحسن تأويلًا- و- لعلمه الذين يستنبطونه منهم- و- شفاء ورحمة للمؤمنين-.

ومن خلال هاتين النقطتين يمكن الحديث عن سماع الغناء والموسيقى اليوم.

من جانب النصوص:

أ- في كتاب الله.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ، أولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (لقمان: 6).

وقد انصب التفسير المأثور لهذه الآية عن الصحابة والتابعين أن لهو الحديث هو الغناء وشراؤه.

اقتناء قينات الغناء ﴿وَأَنتُمْ سَامِدُونَ (النجم: 61) إذ كان تفسيرها في المأثور كذلك: وأنتم لاهون مغنون، وهي في لغة حِمْيَر الغناء ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ(الإسراء: 64)، وصوت الشيطان هو الموسيقى المصاحبة للغناء، وبالرجوع إلى أمهات كتب التفسير يتضح هذا الموقف بجلاء.

ب- في سنة رسول الله:

۱- روى الترمذي عن جابر رضي الله عنه:أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجرة فبكى، فقال له عبد الرحمن أتبكي، أو لم تكن نهيت عن البكاء فقال: لا، ولكنني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة، خمش وجوه وشق جيوب، ورنة شيطان.

۲- وروی البزار والضياء عن أنس مرفوعًا: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة.

٣ - وروى أبو داود عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع صوت زمارة راعٍ فوضع أصبعين في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع فأقول: نعم فيمضي حتى قلت: لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راعٍ فصنع مثل هذا.

٤- وروى ابن ماجه، وابن حبان عن أبي مالك الأشعري مرفوعًا: «يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير». 

٥ - وروى البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تستحل أمتي الحر، والحرير، والخمر، والمعازف».

مع حكمة النصوص:

وننتقل من النصوص إلى الوقوف أمام حكمتها وأسرارها، وعظمة هذه الأحكام: فالفطرة البشرية تتنازعها عوامل الخير والشر؛ عوامل الخير تدفعها لتأدية الواجب الملقى عليها، وعوامل الشر تدفعها للاستسلام للدعة، والهوى، والعاطفة المنحرفة. 

ولا بد من الإشارة في بداية الحديث إلى أنه يتناول الأغنية العاطفية لا الأغنية الدينية التي تتمثل في صورة الحداء، والرجز لإثارة المشاعر الإسلامية العظيمة. 

 

والله لولا الله ما اهتدينا 

ولا تصدقنا، ولا صلينا 

فانزلن سكينة علينا 

وثبت الأقدام أن لاقينا 

وكل ما في هذه الصور المُنمية للحب العظيم للإسلام وشرعته، ولحب الله ورسوله.

ونعود بعد هذه الملاحظة إلى الأغنية العاطفية المثيرة للغريزة الجنسية، 

والمستمع للغناء يبدأ من نقطة انحراف صغيرة، وتكبر زاوية الانفراج حتى تبعد به نهائيًّا عن الطريق في مراحل متلاحقة يسلم بعضها رقاب بعض. 

فالخطوة الأولى على الطريق: تكمن في ما يعانيه المستمع للغناء من تضارب بين دافعين، هاتف الشيطان الذي يدعوه إلى اللذة الناشئة عن تحرك العواطف الهادئة، وإيقاظ المشاعر الغالية، واضطراب الأحاسيس المضبوطة بميزان الله. 

فقد ينصرف، أول الأمر مستجيبًا للنصوص التي تمنعه عن الاستسلام للهوى، ولكن الشيطان لا يدعه ينتصر بهذه السهولة، فلا بد أن يرد عليه من المنافذ جميعًا- ﴿ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ(الأعراف: 17) 

والباب الخلفي الذي ينفذ منه الشيطان أن النفوس إذا استمرت على رتابة واحدة ملت، وكرهت، وسئمت فلا بد من الترويح عنها، والتخفيف من أعبائها بهذه التسلية القصيرة، والبريئة، والخفيفة.

والموقع الذي ينطلق منه الشيطان في بداية الأمر موقع سليم، بل له ما يسنده من نص غير أن النص يوضع في غير محله، ويضعه حول الحمى يوشك أن يقع فيه عند الشبهات، ومن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ويصبح المستمع أقرب فأقرب إلى مواقع الشيطان. 

ويمر الزمن لتبدأ الخطوة الثانية، ويبدأ الشيطان جولته من جديد، إنه يجد في الغناء لذة واضحة، ويسرح فيها مع متعة حالمة، فيضطرب المؤشر الزمني الذي يحدد له الوقت وتصبح السفينة عرضة لرحمة الرياح، وأعني يصبح المستمع تحت رحمة عاطفته التي خرجت من إطارها المرسوم، ويسير في هذه الهوة فينتقل من الموقع الأول- موقع اللحظة البسيطة للتخفيف عن النفس- إلى الموقع الثاني- موقع الاستمتاع بالغناء والسماع-، يجد بهذه اللذة هربًا من الواجب ويتخذ بها هربًا من المسؤولية.

وعندما يصل إلى هذا الحد تبدأ الخطوة الثالثة، ويعود الشيطان ليمارس جولة أخرى جديدة.

يعود ليثير في نفسه هذه التساؤلات لم حرم الإسلام السماع؟ لم حظر الإسلام على الإنسان هذه المتعة؟ أليست هذه العاطفة بحاجة إلى تلبية وتصريف؟ هل يريد الإسلام منا الكبت؟ ولا يزال مع تساؤلاته هذه حتى يفقد موقعه الثاني، وينتقل إلى موقع ثالث من مواقع الشيطان جوهره أن يرى المستمع في الإسلام خطأ هذا الحكم؟

وهذه بداية الانهيار.

 أن يبدأ ليرى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا. 

ولا يقف الشيطان عند هذا الحد، فلا بد أن يقوده إلى قاع الانحدار بعد أن وصل إلى الحافة يأتيه بالتفاف عجيب ويريد به أن يغير فكره كله، وهي الجولة الأخيرة له، والخطوة الرابعة يعود به إلى الإسلام من جديد، ويؤكد له أن الإسلام لا يكبت النفوس، ولا يحارب العواطف، ولا يرفض الغناء، أو ليست هذه النفوس من عند الله؟ والعواطف قد كوَّنها الله؟ والصوت الجميل هبة من الله؟ ولا يعقل أن يحرم الله شيئًا وضعه بيده، وإذن الإسلام لا يحارب الغناء العاطفي، والذين يدعون ذلك هم متعصبون، وعندئذ قد انتهى به إلى قاع الضلال، فبعد أن يصبح المنكر عنده معروفًا والمعروف منكرًا، يبدأ مهمته الجديدة الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف.

هذا التسلسل في الواقع ليس صورة أدبية، بل هو عرض نفسي قدمه رسل الله صلوات الله عليه ابتدأ به من مواقع الشيطان يفضحها واحدا بعد الآخر.

« كيف بكم إذا طغى نساؤكم، وفجر شبابكم، وتركتم جهادكم؟، قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟ قال نعم والذي نفسي بيده، وأشد منه سيكون، كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟ قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف؟ قالوا وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟ قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون»

 

ماذا يريد الغناء من الإنسان؟ 

يريد من الفتى والفتاة أن تتحرك عواطفهم المشبوبة وتستثار. 

لماذا؟ وإلى أين؟ نحو أي اتجاه؟ ليس أمامهم إلا الاتجاه المحرم للتعبير عن هذه العواطف المتصاعدة، ولكن المحرم ممنوع، والصلة بين الفتى والفتاة محظورة في المجتمع الإسلامي، فليفكر إذن .. يتجاوز هذا المحظور. 

قد يكف قليلًا حين تهدأ عاطفته، لكن الأغنية العاطفية تعود لتجدد السعار من جديد، وتشعل اللظى من جديد، ولا بد لهذا اللظى من أن ينطفئ، ولا بد لهذه الطاقة من التصريف فكيف؟ 

لا يجد السبيل، فيفكر في إيجاد السبيل، وتجاوز منطقة الأمان إلى منطقة الخطر، وتجاوز حرمات الله ليقع في الحرام.

«الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ألا وأن لكل ملك حمى، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه، ألا وإن حمى الله محارمه». 

لقد هيأ الإسلام الطريق النظيف والعفيف لتلبية هذه العواطف عن طريق الزواج، وجعل من كل فتاة حمى الله، وغيرة الله أن تنتهك محارمه. 

أما العواطف التي يريدها الإسلام أن تنمو، والتي يريدها أن تكون مقود الحركة للمسلم هي عواطف الارتباط بالله، حب الله، وحب رسوله ابتغاء مرضاة الله، فهي المؤشر الدقيق للسلوك، كما يقول رسول الله صلوات الله عليه «من أحب لله، وأبغض الله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان». 

إنها عاطفتان متصارعتان الهوى، وعلي رأسه عاطفة الاستسلام للمشاعر الجنسية التي تلصق الإنسان بالأرض، وعاطفة الانقياد لله والاستسلام له حتى وهو يمارس عاطفته الجنسية عن طريق الزواج يمارسها بإذن من الله يباشرها بأمره حبًا لله وطاعته.

إن الإسلام الذي حرم النظرة؛ لأنها سهم من سهام إبليس فلا غرو أن يحرم الأغنية المائعة الماجنة التي تفعل في النفس أشد من فعل النظرة. 

وكلتاهما- أي النظرة والأغنية- هي السلاح الفعال بيد الشيطان يصطاد ضحاياه بها.

أختي المسلمة.. إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًّا.

ماذا تريد الأغنية العاطفية المثيرة منك؟ تريد أن تتحركي نحو المحظور، أو تعاني الضغط العنيف على عواطفك، وإن التزمت بشريعة الله فدعي هذه الهوة وسيرى على هدى الله.

يريد منك الله أن تكوني عند قواعده، وأن تكوني ضمن حصونه بحمايته وكنفه، فلا تسلمى نفسك للعراء حين تحركين عاطفة أراد الله لها طريقًا واحدًا، وأباحه وهو الزواج، لا تثيرى حربًا داخلية عليك من كلمات الأغنية العاطفية المائعة إن كنت تريدين الجنة فألجمي هواك، وفري إلى الله، ولا جنة بدون ضبط، ولا نعيم بدون قيد حتى يغدو القيد نعمة ورحمة بعد ذلك ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (النازعات:37-41).

يريد الإسلام منك أن تكوني قائدة لهواك لا مقوده، وضابطة لعواطفك لا مسلوبة؛ 

لتصبح العواطف بعد ذلك تنهل كلها من معين الله، من معين الإيمان «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».

الأغنية هي الباب المفتوح لاضطرام العاطفة، واضطرام العاطفة هو المحرك الرهيب لتصريفها في غير ما أحل الله، أو لكبتها ضمن ما شرعه الله، فلنبتعد عن كل ما يثير في نفسنا هذا الأوار، هذا التناقض والصراع، هذا التعقد والانهيار.

الأغنية هي الأداة التي يحملها الشيطان ليدفعك بها مطرودة من حظيرة الله، ولا وسط بين الطرفين.

إما الهدى وإما الضلال فإما الحق و إما الهوى، وإن لم تستجيبي للحق فقد استجبت للضلال ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص: 50)، والحمد لله رب العالمين. 

الرابط المختصر :