العنوان بين الاحتجاجات الشعبية والانقلابات العسكرية..
الكاتب روضة علي عبدالغفار
تاريخ النشر الثلاثاء 01-سبتمبر-2020
مشاهدات 21
نشر في العدد 2147
نشر في الصفحة 45
الثلاثاء 01-سبتمبر-2020
بين الاحتجاجات الشعبية والانقلابات العسكرية..
ماذا يحدث في مالي
الرئيس أعلن استقالته وحل البرلمان وأكد أنه لا يريد إراقة الدماء مقابل بقائه في السلطة
كوني: الانقلاب تتويج لحراك الشعب منذ أشهر الذي استنجد بالعسكر للتدخل وإيقاف قتل المدنيين
الاتحاد الأفريقي أدان أي محاولة لمخالفة الدستور ودعا العسكريين للعودة لثكناتهم وعلَّق عضوية مالي
باحث أفريقي: هناك تقاطع مصالح بين الشعب والعسكر لكن غير معروف إلى أي مدى سيستمر توافقهما
الوجود الفرنسي بالمنطقة يشكّل إرث الماضي الاستعماري إضافة إلى المصالح الاقتصادية الكبيرة
أكثر السيناريوهات ترجيحاً استمرار الاضطرابات والفوضى السياسية وتصاعد وتيرة انعدام الأمن
في العاصمة المالية باماكو، تتسابق الأحداث بوتيرة سريعة، تحمل موجات من الترحيب وأخرى من القلق والتنديد؛ فهنا شعب يحتفل، وهذه قوى دولية غير راضية، وهذا رئيس معتقل، وعسكر يتقلد زمام الدولة.. فماذا يحدث في دولة مالي الواقعة غرب أفريقيا؟ وكيف تصاعد الحِراك حتى وصل لانقلاب عسكري؟ وما سيناريوهات المشهد المالي بعد الإطاحة بالرئيس؟
في هذا التحقيق نسلط الضوء على هذه القضايا.
شهدت مالي مؤخراً أزمة سياسية حادة؛ حيث طالبت المعارضة باستقالة رئيس البلاد إبراهيم أبوبكر كيتا، كشرط لأي تسوية سياسية، وتصاعدت الأزمة في يوم الثلاثاء 18 أغسطس الماضي، حيث قام عدد من العسكر بتمرد لوحدات من الجيش في ثكنة قرب العاصمة المالية، وتم إطلاق نار كثيف في قاعدة «كاتي» العسكرية، على إثرها هدأت الاشتباكات وألقي القبض على عدد من الوزراء وكبار المسؤولين وضباط بالجيش، من ضمنهم وزيرا الخارجية والمالية ورئيس البرلمان.
بعد ذلك بفترة وجيزة، شرع المتمردون في اعتقال الرئيس ورئيس وزرائه، وتم اقتيادهم بعيداً إلى بلدة كاتي، التي تبعد 15 كيلومتراً عن العاصمة باماكو، وأعلن «التلفزيون المالي» الرسمي، في الساعات الأولى من الأربعاء 19 أغسطس، استقالة رئيس البلاد أبوبكر كيتا، الذي قال في كلمة مقتضبة أذاعها التلفزيون الرسمي: إنه يستقيل من رئاسة البلاد، ويحل البرلمان، وأضاف: «لا أريد أن تراق الدماء لإبقائي في السلطة».
وبعد أكثر من ثلاث ساعات على إعلان الرئيس أبوبكر كيتا قراره مغادرة منصبه، ظهر المتحدث باسم العسكريين إسماعيل واغي ليعلن تشكيل «لجنة وطنية لإنقاذ الشعب»، مؤكداً أنهم يريدون القيام بانتقال سياسي مدني، وأن تتم انتخابات عامة خلال مهلة معقولة، مُعرباً عن احترامهم للاتفاقات الدولية بما في ذلك اتفاقية السلام في الجزائر بين الفرقاء، مطالباً الجيش البقاء بالجبهات.
كما أعلن أنه اعتباراً من يوم 19 أغسطس 2020م، سيتم إغلاق جميع الحدود الجوية والبرية في البلاد حتى إشعار آخر، وتم فرض حظر تجول من الساعة 9 مساءً حتى الساعة 5 صباحاً، كما دعا المجتمع المدني والحركات الاجتماعية والسياسية للانضمام معاً؛ لخلق أفضل الظروف لانتقال سياسي مدني، يؤدي إلى انتخابات عامة ذات مصداقية للممارسة الديمقراطية التي ستضع الأسس لدولة مالي الجديدة.
ويقود الانقلاب في مالي العقيد مالك دياو، نائب القائد العام في معسكر كاتي، وقائد آخر هو الجنرال ساديو كامارا، والجنرال شيخ فانتا ديمبيلي.
تتويج لحراك الشعب
وعن موقف الشعب المالي إزاء الانقلاب، يؤكد الأكاديمي والناشط المالي إلياس كوني، لـ»المجتمع»، أن هذا الانقلاب تتويج لحراك الشعب منذ أشهر، وأن الشعب استنجد بالعسكر للتدخل وإيقاف قتل المدنيين، اعتقاداً منه أن النظام لن يُركعه سوى الجيش، كما أن المفاوضات والوساطات التي تقودها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا اتسمت بالانحياز لصالح النظام وفرنسا، المتورطين في تأزم المشهد المالي، وأضاف أن تدخل العسكر كان عاملاً حاسماً في نجاح الحراك ضد النظام، وأن الشعب رحب به ترحيباً ممزوجاً بالفرحة والابتهاج والانتصار.
بينما يرى الباحث في الشأن الأفريقي عباس صالح أن المعارضة راهنت على قوة الشارع وليس تدخل العسكر، لكن هناك تقاطع مصالح بين الطرفين، وتكمن مصلحتهما المشتركة في إجبار الرئيس كيتا على مغادرة السلطة، والبحث عن نظام سياسي جديد، ولكن غير معروف إلى أي مدى سيستمر توافق الطرفين ومتى سيفترقان.
في المقابل، أعربت العديد من القوى الإقليمية والدولية رفضها لانقلاب مالي، ودعت إلى عودة الحكم المدني وإطلاق سراح قادة البلاد، فقد أدانت الأمم المتحدة الانقلاب، وتقرر عقد جلسة طارئة مغلقة لمجلس الأمن الدولي لبحث الأزمة في مالي، بطلب من فرنسا والنيجر التي ترأس حالياً المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، كما علقت مجموعة «إيكواس» عضوية مالي، الثلاثاء 18 أغسطس.
وأعلن الاتحاد الأفريقي أنه يدين بشدة أي محاولة لمخالفة الدستور في مالي، ودعا العسكريين الذين أعلنوا التمرد للعودة إلى ثكناتهم، وتم تعليق عضوية مالي في الاتحاد الأفريقي إلى حين استعادة النظام الدستوري، كما أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن إدانته لمحاولة التمرد المستمرة في مالي، وقال وزير خارجيته: إن فرنسا ستواصل دعمها لسيادة وديمقراطية مالي.
وفي هذا الصدد، قال إلياس كوني، لـ «المجتمع»: إن الإدانات الدولية متوقعة؛ لأنها تأتي في إطار المعاهدات والمواثيق الدولية؛ فلا عجب أن تتسارع الدول والمنظمات إلى ذلك، غير أنه مع الأيام سوف تتضاءل القلاقل الموروثة جراء الثورة على النظام الحاكم، مع الحراك الدبلوماسي المكثف الذي سيتوالى هذه الأيام؛ علماً أن هذه ليست أول ثورة تطيح بالنظام في تاريخ جمهورية مالي، فالشعب وقادته خبراء بالتعامل مع مثل هذه الظروف واجتيازها للوصول إلى تفاهمات مع القوى الداخلية والخارجية.
حِـراك متصاعـد
منذ يونيو الماضي، يخرج عشرات آلاف المتظاهرين إلى شوارع بماكو، مطالبين كيتا بالاستقالة، لاستيائهم من مواقف نظامه إزاء قضايا كثيرة، على رأسها تدهور الوضع الأمني، وعجز حكومته عن وقف العنف في البلاد، إضافة إلى الانهيار الاقتصادي، وفشل خدمات الدولة، وتفشي الفساد، وشهدت مالي موجات متتالية من المظاهرات بقيادة حركة «5 يونيو» المعارضة وعدد من المستقلين، منذ إعلان نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في مارس الماضي، وفاز فيها حزب الرئيس كيتا ورفضتها المعارضة.
تم انتخاب أبوبكر كيتا رئيساً لمالي عام 2013م، وفاز بولاية رئاسية ثانية عام 2018م مدتها 5 سنوات، وفي هذا الصدد، يقول الباحث عباس صالح لـ»المجتمع»: «صحيح أن الرئيس كيتا هو رئيس منتخب عبر الشعب، ولكنه بممارساته وسوء إدارته خان ثقة الناخبين وخذل تطلعاتهم؛ حيث جعل الشارع يتحرك ضده، ويقبل بأي تحرك ما دام سيطيح به وبنخبته الفاسدة».
وقد تشكلت حركة «5 يونيو» في يونيو الماضي، وكانت عبارة عن جبهة معارضة واسعة دعا إليها الإمام محمود ديكو، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى في مالي، وكانت الاستجابةُ واسعة وكبيرة؛ والتفَّت حوله أحزاب وقوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني تجمعها جميعاً نفس المطالب السابقة تحت غطاء وزخم شعبي كبير.
ولم تلبث حركة 5 يونيو كثيراً حتى أصبحت محطَّ أنظار العالم، وشخصيتها المقدمة والمؤثرة الإمام محمود ديكو، حتى جاء يوم 10 يوليو الماضي، وهو اليوم الذي امتزجت فيه القضية والمطالب بدماء الشباب المالي، وأخذت بُعدًا آخر، وهو الثورة على النظام الذي يقتل المواطنين.
وكانت أبرز مطالب الاحتجاجات الشعبية: استقالة الرئيس وحل الحكومة والبرلمان، وحل المحكمة الدستورية وتعيين أعضاء جدد، والانتقال إلى فترة انتقالية يتم تنظيم خلالها انتخابات رئاسية وبرلمانية، وانطلقت دعوات إلى السيطرة على مقرات الحكومة والدخول في عصيان مدني.
وأرسل اتحاد غرب أفريقيا مبعوثاً خاصاً لحل الأزمة، وهو الرئيس النيجيري السابق جودلاك جوناثان، لكنه لم يستطع تقريب وجهات النظر؛ نظراً لانحيازه للحكومة والرئيس؛ مما دفع حركة المعارضة إلى رفض خطته لحل الأزمة وباءت مساعيه بالفشل.
فرنسا ولعـبة المصالح
في عام 2013م، جاءت قوات دولية إلى مالي، على رأسها فرنسا، وكانت محل ترحيب من الشعب المالي؛ نظراً لأن البلاد كانت على المحكّ، نتيجة اشتباكات حادة بين الحركات الانفصالية، التي أعلنت استقلال منطقة أزواد والسيطرة عليها تحت اسم «جمهورية أزواد»، وبين الجيش المالي الذي يحاول السيطرة على المنطقة المنفصلة، ونتج عن ذلك تشريد 200 ألف من سكان الإقليم، ومقتل المئات وارتكاب مجازر مُروِّعة بحق الأهالي، وهدم للأضرحة والآثار، ونشاط غير مسبوق للجماعات المسلحة والمتطرفة والانفصالية.
ومنذ دخول فرنسا، ومن ورائها قوات أوروبية أخرى؛ لم تتحسن الأوضاع في مالي، رغم أنه كان مُرَحَّباً بها في البداية، وكان الغرض هو حفظ الأمن والاستقرار، وتبلغ عدد القوات الفرنسية في مالي أكثر من 4000 جندي، وزاد العدد ليصبح 5800 جندي حالياً.
ويعلق الناشط إلياس كوني على تدخلات فرنسا، أنه لا أحد ينكر العلاقة الإستراتيجية بين الدولتين والمصالح المشتركة بينهما قديماً وحديثاً، ورغم أن تدخل فرنسا في عام 2013م كان له دور كبير في ردع الجماعات المسلحة، والحيلولة دون سقوط العاصمة والدولة؛ غير أن الفرحة بتدخل فرنسا لم تدم طويلاً بعد إدراك الشعب أن فرنسا متورطة في دعم بعض تلك الحركات بالمال والعتاد والجنود لمصالحها في الشمال، وتدخل فرنسا وتوغلها في قضايا الدولة لمصالحها هي حقيقة ماثلة، لذا لا عجب في عدم التفات الشعب إلى تنديدات فرنسا وتهديداتها.
إن الوجود الفرنسي في المنطقة يشكّل إرث الماضي الاستعماري، إضافة إلى المصالح الاقتصادية الكبيرة في غرب أفريقيا، حيث تسعى فرنسا للحفاظ على حصتها من الذهب، في هذا البلد الذي ينتج ما يقارب 50 طناً سنوياً، وهناك مئات المناجم من الذهب والبوكسيت وغيرهما من المعادن، وكذلك تعزيز وجودها في الأماكن التي يُرجَّح أنها تحتوي على احتياطيات هائلة من النفط والغاز في شمال مالي، من خلال القوات الفرنسية المرابطة في الشمال.
في حين يرى الباحث عباس صالح أن التدخلات الفرنسية هي لصالح باريس فحسب، وهي لا ترى في الفاعلين المحليين إلا أن يكونوا تابعين لها أو خادمين لمصالحها، وتعتبر التدخلات الفرنسية أحد أسباب الغضب الشعبي في الشارع المالي ضد كيتا، لا سيما أن فرنسا رغم تدخلها في شمال البلاد، فشلت هي الأخرى في إرساء الأمن والاستقرار واستعادة النظام.
ماذا بعد الإطاحة بالرئيس؟
أعلن قادة الانقلاب في مالي أنه سيتم تنصيب رئيس انتقالي للبلاد، وسيكون مدنياً أو عسكرياً، على أن يترأس مجلساً لإدارة البلاد خلال فترة 9 أشهر، وقال المتحدث باسم الانقلابيين العقيد إسماعيل واغي: إنهم على اتصال مع المجتمع المدني وأحزاب المعارضة والأغلبية، لمحاولة ترتيب الانتقال، كما أضافت اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب -التي شكلها قادة الانقلاب- أن المجلس الانتقالي يضم 6 عسكريين و18 مدنياً، على أن يتم انتخاب رئيس المجلس من قبل أعضائه، وأوضحت اللجنة أن رئيس المجلس الانتقالي سيتولى منصبي رئيس الدولة، وقائد المرحلة الانتقالية.
ويرى الناشط المالي إلياس كوني أن العسكر صادقون في تسليم السلطة؛ لأن تدخلهم كان للحيلولة دون انهيار الدولة، وإنقاذها من الأزمات المعقدة التي تعيشها، وأضاف أن التدخل العسكري جاء بمناشدة الشعب ومباركته، مما يوحي باستعدادهم الكامل لرد السلطة إلى المدنيين.
بينما قال الباحث عباس صالح لـ»المجتمع»: إن أكثر السيناريوهات ترجيحاً هو استمرار الاضطرابات والفوضى السياسية، وتصاعد وتيرة انعدام الأمن في البلد وفي الإقليم بشكل عام، خاصة إذا مضت حكومة الإنقاذ الوطني، التي شكلها الانقلابيون، في نفس الطريق الذي سلكته الحكومات السابقة وآخرها نظام كيتا، ولكنَّ هناك متغيراً جديداً هو صحوة الشارع، بجانب احتمالات انقسام مكونات الحراك الجماهيري.
وكان ائتلاف «5 يونيو «المعارض قد أشاد بما سماه التدخل العسكري الذي جاء ليكمل مسيرة الشعب المالي وتطلعاته إلى دولة ديمقراطية مدنية وعلمانية، وحثَّ المجتمعَ الدوليَّ على النظر إلى قضية مالي بعيداً عن منطق العقوبات، وأنهم يعملون حالياً مع العسكريين الذين تولوا السلطة.
وبالسؤال عن دور القوى الثورية والمعارضة لضمان انتقال سلمي للسلطة، أضاف إلياس كوني، لـ»المجتمع»، أنه يجب على القوى المدنية والسياسية أن تبلور موقفاً موحداً؛ للتعامل مع الظرف الحالي وقيادة المرحلة بشكل سياسي ديمقراطي، كما على القوى العسكرية تكثيف المساعي مع جميع التيارات المختلفة بالدولة، وأن تمهد الطريق أمام التوصل إلى تفاهمات داخلية وخارجية لضمان سلاسة الانتقال السلمي للحكم.
وبين كل هذه الاضطرابات التي عاشتها مالي وما زالت تعيشها، هل يصبح الانقلاب العسكري هو يد العون التي أنقذت الشعب حقاً، أم تكشف الأيام عن جديدٍ ليس في الحسبان