العنوان بين السنة الماضية والحاضرة
الكاتب جاسم المسلم
تاريخ النشر الثلاثاء 16-سبتمبر-1980
مشاهدات 12
نشر في العدد 497
نشر في الصفحة 36
الثلاثاء 16-سبتمبر-1980
ما من عمل هام إلا وله حساب يضبط دخله وخرجه وربحه وخسارته وكذلك حياة المسلم العقائدي الذي اتصل بالله تعال في كل صغيرة وكبيرة. والإنسان العاقل يحكم حسابه لنفسه هو الذي لا يلقي بنفسه ما يواجه من مشكلات على الغير بل يلقيه على نفسه، وقد قال، نابليون في منفاه بجزيرة القديس «هيلانة» لا أحد سواي مسؤول عن هزيمتي!!
فكن واعيًا لهذه المسألة عند جلستك مع نفسك للحساب وإياك أن تلقي اللوم على غيرك فإن ذلك بداية الوهن، ثم بعد ذلك أعلم أخي أن عمارة دار جديدة على أنقاض دار قديمة، لا يتم طفرة، ولا يتم في ارتجال وإهمال...
هذا بالنسبة لبناء بيت فكيف لبناء النفس... وإن اليوم أخي المربي قد بدأت بإنشاء نفوس جديدة تعمل معك، وبدأت بتربية نفسك على أنماط إيمانية جديدة لم تكن قد تعودت عليها، فلا تستعجل النتيجة ولا تطلب الثمر قبل أن ينضج فتحصد مرًا، وتجني خسارة، ولكن تنكر أننا نريد بالمكث ما نريد بالحث، فاعقد النية أخي المربي على أن تبدأ صفحة جديدة من حياتك عنوانها الهمة والجهاد المتواصل الذي لا هوادة فيه، واجعل ذلك ينبع قبل كل شيء من داخل نفسك المتقدة بالإيمان إن شاء الله وابتعد عن التسويف فإن الموت يأتي بغتة... واعلم «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» وما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين وأن يرسل نظرات ناقدة في جوانبها ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات القصيرة المدى، والطويلة المدى، ليتخلص من هذه الهفوات التي تزري به. والإنسان المسلم أحوج الخلائق إلى التنقيب في أرجاء نفسه وتعهد حياته الخاصة والعامة بما يصونها من العلل والتفكك. وصوت الحق يهتف في كل مكان ليقرر حقيقة التوبة، وتجديد الحياة، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم «إذا مضي شطر الليل، أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطي؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له حتى ينفجر الفجر.»
فهيا أخي بادر إلى توبة يقول الله في صاحبها «وإني غفار لمن تاب وآمن وعمل صاحًا ثم اهتدى».
واعلم أن حياتك من صنع أفكارك فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعود أعرابيًا في مرضه يتلوى من شدة الحمى فيقول له مواسيًا ومشجعًا «طهور» فيقول الأعرابي هي حمى تفور على شيخ كبير لتورده القبور. فقال له صلى الله عليه وسلم «فهي إذن» وحتى تبين هذه القاعدة إليك هاتين الآيتين ﴿وَمِنَ ٱلْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ ٱلْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِ ۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ﴾ (التوبة:98- 99)
هؤلاء وأولئك يدفعون المال المطلوب هؤلاء يتخذون غرامة مؤذية مكروهة ويتمنون العنت لقابضيه وأولئك يتخذونه زكاة محبوبة تطيب النفس بأدائها وتطلب الدعاء الصالح بعد إيتائها.
وشؤون الحياة كلها لا تعدو هذا النطاق فكن أخي صاحب الآية الثانية في تحركك وبيعتك وإنفاقك وعملك. وإن كل إنسان غاد فبائع نفسه فمعتقها أو مهلكها، وإن جميع الناس في كدح ونصب ولكن كدحًا في الجنة وكدحًا في النار.
واعلم أن الإنسان عندما يرتفع عن سطح الأرض تتغير الأشكال والأحجام في عينه وتكون نظرته إلى ما دونه أوسع مدى وأرحب رفقًا ونحن في عملنا بحاجة إلى سعة النظرة وقوة الإدراك حتى نضع الموازين في محلها ونضع الإجابات الصحيحة عند علامات الاستفهام التي تطرح من قبل الدعاة فعليك أخي بزيادة الصلة بالله والتعلق بما عنده من جنة ورضوان وتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بين حقيقة من يتعلق بالآخرة ومن يتعلق بالدنيا بأن من جعل الدنيا همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن جعل الآخرة همه جمع الله
عليه شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة... وفكرتنا إنما تنجح إذا قوي الإيمان بها وتوفر الإخلاص في سبيلها وازدادت الحماسة لها ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها ... فجددوا أيها الدعاة إيمانكم، وجددوا غايتكم وأهدافكم وأول القوة الإيمان ونتيجة هذا الإيمان الوحدة وعاقبة الوحدة النصر المؤزر.
فآمنوا وتآخوا واعملوا وترقبوا بعد ذلك النصر، وبشر المؤمنين فلستم أضعف ممن قبلكم ممن حقق الله على أيديهم هذا المنهج فلا تهنوا ولا تضعفوا وضعوا نصب أعينكم قوله تعالى
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (سورة ﺁل عمران:30).
وإياكم والسمع للمعوِّقين الذين قال لهم الله ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّة عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ (سورة الأحزاب: 18- 19)
وردوا عليهم بقوله تعالى ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ ﴾(القصص: 55) واحرصوا على أن تجعلوا أعمالكم تتحدث عن خطواتكم وصلوا خطواتكم اللاحقة بخطواتكم السابقة في هدوء وسكون ومن غير هذا الفاصل الذي تحد به سَنَة عمل إسلامي مضت لنستأنف سَنَة جديدة أخرى من سنوات الجهاد الدائب في سبيل تحقيق فكرتنا السامية.
أيها الدعاة... ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأَبرزوا أشعة العقول بلهب العواطف، والزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمُعَلَّقة ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلَّابة ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد.
أيها الدعاة اسمعوها صريحة داوية في بداية سَنتنا هذه ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ .﴾(سورة المدثر: 1-3) فشمروا بعد سماع هذه الآية ليكون النظام الداخلي للحكم يتحقق به قول الله تبارك وتعالي ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾(سورة المائدة: 22) ونظام للعلاقات الدولية يتحقق به قول القرآن الكريم: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ﴾ (سورة البقرة: 142) ونظام عملي للقضاء يستمد من الآية الكريمة ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (سورة النساء: 65) ونظام للدفاع والجندية يحقق مرمى النفير ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (سورة التوبة: 9).
ونظام اقتصادي أساسه قوله تعالى ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ (سورة النساء: 4) ونظام للثقافة والتعليم يطابق جلال الوحي في أول آية من كتاب الله ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (سورة العلق: 1) ونظام للفرد في سلوكه الخاص يحقق الفلاح المقصود بقوله تعال ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ (سورة الشمس: 9) وشعور روحي عام يهيمن على كل فرد في الأمة من حاكم أو محكوم قوامه قوله تعالي ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ﴾
المحن لا تزيد الداعية إلا ثباتًا
أما بعد... أخي الحبيب
فإيمان الداعي العميق ثابت لا يتزعزع مهما صادفته محنة أو شدة ومهما كانت حاله من ضعف وقلة، ومهما كان حال الكفرة من قوة ومنعة، حتى لو بقي وحده في الأرض، وهكذا كان إيمان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحوالهم يوم كانوا في مكة محاصرين يعذبهم الكفرة، ويوم
هاجروا فارين بدينهم إلى الحبشة ويوم هاجروا إلى المدينة ويوم انتصروا في بدر وانكسروا في أحد وحوصروا في الخندق، إنهم في جميع تلك الأحوال التي تقلبوا فيها لم يتزعزع إيمانهم ولم يتسرب إلى قلوبهم ذرة من الشك في كونهم على الحق وموصولين بالحق ويدعون إلى الحق وأن الكفرة في ضلال أخي في الله إن مثل هذا الإيمان إن العميق ضروري لكل مسلم، وهو للداعي أشد ضرورة في الوقت الحاضر الذي ضعفت فيه كلمة
الإسلام وعلت فيه كلمة الكفر ونضب معين من الإيمان في النفوس، وازدادت محن المسلمين، وصال الكفرة عليهم وجالوا، وصارت لهم دول كبار تحميهم وتقذف بالباطل وتثير الشبهات والشكوك حول أحقية الإسلام، ومع هذا فإن المسلم ولا سيما الداعي المسلم الصادق يجب ألا تدهشه هذه المحن.
وهذه الأحوال يجعله دافعًا للمزيد من بناء الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله وتلمس الدواء والعلاج لما آل إليه آمر الإسلام... وألا يبقى مفتوح العين محدقًا بالكفرة إعجابًا بهم وإكبارًا لهم فإنهم والله على ضلال مبين، يحتاجون إلى تقويم وتهذيب وتأديب لا إلى تعظيم وتفخيم وليستحضر الداعي المسلم في ذهنه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري، قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا حديثًا عن الدجال، فكان فيما حدثنا به أنه قال: يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل، وهو خير الناس أو من خير الناس فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيقول الدجال أرأيتم قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني الآن، قال فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه. هذا هو الإيمان، فالحق هو الحق والباطل هو الباطل مهما أوتي من خوارق، وبالتالي يظل المسلم على إيمانه وإن كان وحيدًا لا حول له ولا قوة ولا ناصر... (١)
(1) أصول الدعوة / زيدان 3٢2- 324 باختصار٢
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل