; تراجم: العالم المجاهد الشيخ محمد محمود الصواف | مجلة المجتمع

العنوان تراجم: العالم المجاهد الشيخ محمد محمود الصواف

الكاتب محمود الخطيب

تاريخ النشر الثلاثاء 07-أكتوبر-1997

مشاهدات 729

نشر في العدد 1270

نشر في الصفحة 50

الثلاثاء 07-أكتوبر-1997

في يوم الجمعة ١٢ ربيع الثاني ١٤١٣هـ الموافق ٩ أكتوبر ١٩٩٢م كان العلامة المجاهد الشيخ محمد محمود الصواف على موعد للقاء ربه في مطار إسطنبول وهو يستعد للعودة إلى جدة، كانت لحظات رحيل الشيخ الصواف عن دنياه تلخيصا لكُنه الحياة التي عاشها واختصارًا لأكثر من ستين عامًا قضاها في الدعوة والحركة والجهاد، فقد كان الشيخ يجلس في قاعة المسافرين بانتظار إقلاع الطائرة وكانت تجلس في المقعد المجاور له فتاة سودانية فحدثها عن السودان البلد الذي زاره وأحبه وصار بأسلوبه المحبب وكلامه الجزل يحثها ويوصيها بالتزام الحجاب والدوام على الصلاة وطاعة الله عز وجل، وفجأة سكت الشيخ وسقطت منه الحقيبة التي كان يحملها وأسلم الروح بهدوء!

كنت قبلها بسنتين قد جاورته لبضعة أيام في إحدى القرى التركية الجميلة التي كان الشيخ أبو مجاهد يحب قضاء الصيف فيها فلمست سحر الرجل في نفسي وأسرني منطقه وخطابه، ورأيت كيف كان أهالي القرية ورواد الجامع الصغير فيها يتسابقون للسلام على الشيخ وتقبيل يده، وكان رحمه الله يجلس بعد صلاة العصر لاستقبال زواره في ديوانيته ومعظمهم من السياح العرب الذين يأتون للسلام عليه وسماع حديثه المشوق فيحدثهم عن رحلة حياته الطويلة ورحلاته مبعوثا خاصًا للملك فيصل-رحمه الله- إلى ديار المسلمين وعن جهاد الإخوان في فلسطين.

ولد الشيخ- رحمه الله- في مدينة الموصل شمال العراق في أوائل شوال عام ١٣٣٣هـ «حوالي عام ١٩١٥م»، ومنذ نشأته أظهر الشيخ حرصًا على طلب العلم وحبه فتتلمذ على يد عدد من شيوخ السلف وعلى رأسهم الشيخ عبد الله النعمة الذي أجازه عام ١٩٣٦م، وعندما أسس الشيخ النعمة «جمعية الشبان المسلمين» كان الشيخ الصواف أصغر أعضائها سنًا.

وسافر الأستاذ الصواف إلى الأزهر الشريف بالقاهرة في بعثة علمية لدراسة علوم الشريعة، وهناك التقى الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس دعوة الإخوان المسلمين وانضم إلى الإخوان المسلمين قبل أن يعود إلى بغداد عام ١٩٤٦م بعد أن حصل على درجة الأزهر، وفي بغداد عمل أستاذًا في كلية الشريعة، ثم أبعد عن التدريس بعد أن لاحظ حاسدوه تأثيره على الطلبة الذين التقوا حول أستاذهم الذي كان يحمل فكرًا حركيًا يتميز عن غيره من الأساتذة، ونقل للعمل مفتشًا في وزارة المعارف.

وفي بغداد عاد الشيخ إلى عمله الدعوي بحماس أكبر وكانت قضية فلسطين قد بدأت تظهر كقضية عالمية ساخنة وقضية العرب الأولى، وعندما صدر قرار تقسيم فلسطين في عام ١٩٤٧م أنشأ الأستاذ الصواف برعاية علامة العراق الشيخ أمجد الزهاوي- رحمه الله- «جمعية إنقاذ فلسطين» وصار يجوب مدن العراق الواحدة بعد الأخرى يُعدُّ كتائب المجاهدين لقتال عصابات اليهود ويجمع الأموال للجهاد، وكان- رحمه الله- ذا صوت جهوري وخطيبًا مفوهًا، فلم يكن أحد يستمع إليه إلا وشده إليه، وقاد الشيخ المظاهرات في بغداد مرفوعًا على أكتاف مؤيديه يهتف لنصرة أرض الإسراء والمعراج، ولم يكن أهل العراق وقتها معتادين على رؤية شيخ بالجبة والعمامة الأزهرية يقود المظاهرات ويخطب خطبًا سياسية ويعمل لقضية فلسطين.

لم يكن الأستاذ الصواف من الذين يخضعون لترغيب أو ترهيب، فقد رفض دعوات الحكومة العراقية له للسفر إلى سورية والدعوة إلى الوحدة بين البلدين بعد أن اشتم رائحة مؤامرة سياسية من وراء تلك الدعوة فكان ذلك سببًا في طرده من وظيفته، لكن الشيخ اعتبر فقدانه للوظيفة فرصة للتفرغ لهموم أمته والتحرر من عتق الوظيفة الحكومية، الأمر الذي منحه حرية واسعة للسفر والعمل العام، وقد دون الأستاذ الفاضل الدكتور نعمان السامرائي المدرس في إحدى الجامعات السعودية بعضًا من اللمحات عن حياة الشيخ الصواف وجهاده ولم يبخل عليَّ بها وأرسلها إليَّ فجزاه الله خيرًا، ومما ذكره في هذا المجال أنه عندما قام الشيوعيون والقوميون بثورتهم وأطاحوا بالنظام الملكي أصبح الإسلاميون وعلى رأسهم الشيخ الصواف هدف النظام، فقد اقتحم الشيوعيون جمعية إنقاذ فلسطين التي أسسها الصواف وسرقوا ونهبوا معظم محتوياتها قبل أن يشعلوا النار في المبنى، ولم تقف أحقادهم عند ذلك، بل اقتحموا مسجد أبي حنيفة في بغداد، حيث كان الشيخ الصواف يلقي درسًا دينيًا وأطلقوا النار داخله، ثم اعتقلوا الشيخ بتهمة إطلاق النار، وقد ذاق الصواف- رحمه الله- من ألوان العذاب على أيدي الشيوعيين ما لا يتحمله بشر فكان يؤخذ بعد المغرب ولا يعود إلا مع الفجر وهو متورم القدمين وآثار التعذيب على جسده، وكانوا محمود الصواف يقولون له «سنفعل بك كما فعل عبد الناصر بالإخوان» ويوهمونه بأن الحكومة قد أصدرت أمرًا بقتله.

وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن، وظل في سجن «بعقوبة» قرب بغداد إلى أن استدعاه عبد الكريم قاسم وأطلق سراحه بعد أن اطمأن على حكمه من الشيوعيين، ثم قرر الشيخ الصواف الخروج من العراق، فغادر إلى دمشق متخفيًا ثم توجه إلى المدينة المنورة واستقر به المقام في مكة المكرمة أستاذًا بكلية الشريعة فيها.

وفي زمن حكم الملك فيصل- رحمه الله- انتدبه مبعوثًا خاصًا له يحمل رسائله إلى الحكومات العربية والإسلامية، وقد ألف- رحمه الله- كتابه «رحلاتي إلى الديار الإسلامية» الذي جمع فيه مذكراته عن زياراته إلى الدول المسلمة في إفريقيا وآسيا ومقابلاته مع رؤساء وزعماء تلك الدول.

وكان الشيخ يُكنُّ مودة خاصة للملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز وهو الذي سماه شهيد القدس، وأذكر أنه في إحدى الجلسات التي جمعتني معه في تركيا أقسم بالله بأن الملك فيصل- رحمه الله- لم يأكل طعامًا لثلاثة أيام عندما علم بسقوط القدس في أيدي اليهود في يونيو عام ١٩٦٧م، كما أخبرني بأن الملك فيصل كان يحدث نفسه بتشكيل جيش الجهاد لتحرير القدس الشريف، وهو الموقف الذي أصر عليه إلى أن دفع حياته ثمنًا له بعد ذلك بثماني سنوات تقريبًا.

كان الأستاذ الصواف سخيًا كريمًا، وكان في سنواته الأخيرة التي قضى كثيرًا منها في تركيا يجمع التبرعات من التجار والمحسنين لينفقها على مدارس تحفيظ القرآن الكريم في مختلف المدن التركية، وقد أحبه الأتراك وبجَّلوه وعندما توفي في مطار إسطنبول أراد الأتراك دفنه عندهم في مقبرة «فاتح» في إسطنبول، لكن الشيخ-رحمه الله- كان قد أوصى بأن يدفن في مكة المكرمة وهو ما كان، وفي أواخر حياته اشتغل الشيخ الصواف في الصلح بين فصائل المجاهدين المتنازعة، وقد اتصل تليفونيًا بابنه الدكتور مجاهد من مطار إسطنبول قبل دقائق من وفاته قائلًا له: «أتكلم من مطار إسطنبول وبعد قليل سنصعد إلى الطائرة وبعد ساعات سنكون عندكم بإذن الله، ودبر الأمر لأسافر إلى كابول»، وعندما قال له ابنه بأن الوضع في كابول خطير بسبب اندلاع القتال بين «المجاهدين»، أصر الشيخ قائلًا: «لهذا أنا حريص على السفر هناك فورًا».

وقد تبدى حب الشيخ الصواف للجهاد وحرصه على الإصلاح بين المسلمين وجمع كلمتهم في تسميته لأبنائه، فللشيخ- رحمه الله- خمسة أولاد أسماهم مجاهد ومصلح ومنقذ وموحد ومرابط، وله أيضًا ست بنات جعلهم الله جميعًا قرة عين له في دار الحق والخلد، كما ترك- رحمه الله- وراءه كنزًا ثمينًا من الكتب التي نسأل الله تعالى أن يجعلها صدقة جارية في ميزان حسناته، ومن تلك الكتب: المسلمون وعلم الفلك، المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام والمسلمين، رحلاتي إلى الديار الإسلامية، القيامة رأي العين، تعليم الصلاة، الصيام، زوجات النبي الطاهرات، إضافة إلى بعض الكتب التي تناولت تفسير بعض سور القرآن الكريم.

لقد أحببت الشيخ أبا مجاهد كما أحبه الملايين من المسلمين في كل أصقاع الدنيا، وأسأل الله أن يدخلني الجنة بحبي له، رحم الله أبا مجاهد وأسكنه في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.

الرابط المختصر :