; تركيا: حصـاد الانقلاب في ذكـراه الأولى | مجلة المجتمع

العنوان تركيا: حصـاد الانقلاب في ذكـراه الأولى

الكاتب د. سعيد الحاج

تاريخ النشر الثلاثاء 01-أغسطس-2017

مشاهدات 95

نشر في العدد 2110

نشر في الصفحة 36

الثلاثاء 01-أغسطس-2017

حرم الإسلام الخيانة والغدر، وجعلهما من كبائر الذنوب والآثام لما لهما من آثار اجتماعية مدمرة، وتزداد هذه الآثار إذا تعدت الأفراد إلى الحكومة والنظام القائم؛ حيث تكون الآثار أكثر خطورة على الدولة، ولعل من مظاهر الخيانة التي شددت الشريعة الإسلامية على إنكارها ما عرف بفكرة الانقلابات العسكرية المسلحة كما حاول البعض القيام به في تركيا مؤخراً.

ففي الخامس عشر من يوليو 2016م، واجهت تركيا محاولة انقلابية دبرتها مجموعة في الجيش تنتمي لجماعة «كولن»، وفي الخامس عشر من نفس الشهر في هذا العام أحيت فعاليات ضخمة وحاشدة في كافة محافظات تركيا احتفالاً بفشلها، أو بالأحرى بإفشالها.

 سنة ألقت بظلالها على تركيا في جميع المجالات ورسمت المشهد التركي الحالي إلى حد بعيد.

الانقلاب الخامس

عرفت تركيا الحياة البرلمانية ومستوى معيناً من الديمقراطية منذ نهايات الدولة العثمانية، لكن طريقها لم يكن دائماً معبداً بالورود بل أعاقت طريقَها عدةُ عثرات أهمها أربعة انقلابات عسكرية؛ اثنان منها دمويان عامي 1960 و1980م، وآخران «أبيضان» عامي 1971 و1997م.

أسهمت إنجازات العدالة والتنمية في تركيا منذ عام 2002م في صنع التفاف جماهيري حول الحكومة وإحداث وعي شعبي بأهمية المنجزات وخطورة الانقلاب عليها وإعادة البلاد عشرات السنين للخلف كما حصل مع كل انقلاب عسكري سابق، بهذا المعنى كان الانقلاب العسكري مستبعداً جداً في الحالة التركية، لكن الكيان الموازي بزعامة “كولن” كان له رأي آخر.

تختلف المحاولة الانقلابية العام الماضي عن سابقاتها من عدة زوايا، فقد نفذتها مجموعة داخل المؤسسة العسكرية وليس قيادتها، وكانت دموية جداً حيث أسقطت 249 شهيداً وآلاف الجرحى خلال ساعات، وقد وُوجهت بموقف شعبي حاسم تبلور في مواجهة الانقلاببين في الشوارع، فضلاً عن مواجهة الحكومة ومؤسساتها الأمنية للانقلاب، وأخيراً - وفي المحصلة - فشلها في مقابل نجاح كل الانقلابات السابقة.

ولقد فشلت المحاولة الانقلابية بسبب تضافر عدة عوامل مهمة؛ في مقدمتها عدم اجتماع رأي المؤسسة العسكرية بكاملها خلف الانقلاب، ومواجهة الشرطة والمخابرات والأجهزة الأمنية للانقلابيين ميدانياً، إضافة لعاملين آخرين لا يقلان أهمية؛ وهما الموقف الشعبي وقيادة الرئيس “أردوغان” للجماهير، فضلاً عن توحد الأحزاب السياسية وأغلب وسائل الإعلام التركية على موقف رافض للانقلاب وداعم للمؤسسات المنتخبة من قبل الشعب.

ما بعد الانقلاب

لم يكن الانقلاب الفاشل حدثاً سهلاً أو عادياً في التاريخ التركي الحديث، لا من حيث نتائجه المباشرة وخسائره البشرية والاقتصادية، ولا من حيث دلالاته، ولا حتى من حيث فشله في تحقيق أهدافه.

لقد ساهمت هذه المحاولة الفاشلة في كشف الوجه القبيح لجماعة “كولن” أو ما يسمى بـ”الكيان الموازي” أمام عموم الشعب، وهو ما ساعد الحكومة في مكافحتها ومحاولة “تطهير” كافة مؤسسات الدولة منها، حيث تغلغلت لعشرات السنين بمختلف الأساليب المشروعة وغير المشروعة، كما وجد قرار الحكومة بفرض حالة الطوارئ لمواجهة الحدث الاستثنائي دعماً شعبياً لا بأس به.

عملية “التطهير” رافقتها عملية إعادة هيكلة لمؤسسات الدولة المختلفة سيما العسكرية، بحيث كان توقيف عدد كبير من قيادات الجيش والتحقيق معهم بتهمة الاشتراك في الانقلاب مدخلاً مهماً لإعادة الجيش لمهمته الأساسية؛ أي حماية الحدود والبلاد من الأخطار الخارجية، وترك التدخل في السياسة بل وخضوعه لقرار القيادة السياسية.

ورغم الأزمة الكبيرة التي عانت منها المؤسسة العسكرية من خلال تلوث اسمها مرة أخرى بانقلاب عسكري دموي، والحرج الكبير الذي تسبب به لها وتراجع ثقة الشارع التركي بها وفقدانها لحوالي ثلث قياداتها الكبيرة، واهتزاز صورة رئيس الأركان الذي اعتقِل ليلتها، رغم كل ذلك فقد بدأ الجيش التركي عملية “درع الفرات” في سورية بعد شهر تقريباً من الانقلاب، وحقق نجاحات بقدر معقول على الأقل.

كما تأكد للكثيرين هشاشة النظام السياسي وضرورة تغييره، وهو ما دفع إلى إعادة إحياء فكرة النظام الرئاسي التي كان العدالة والتنمية قد أجلها مرحلياً، فوافق الشعب في شهر أبريل الماضي على تعديل دستوري تضمن تغيير نظام الحكم في تركيا من “برلماني” إلى “رئاسي”، على أن يدخل حيز التنفيذ مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في نوفمبر 2019م.

تركيا الجديدة

وككل الأحداث المفصلية المهمة، ألقى الانقلاب الفاشل بظلاله على الأوضاع في تركيا بشكل ملحوظ وعميق؛ داخلياً وخارجياً، وساهم في صناعة مرحلة جديدة لها مفرداتها وسياقاتها الخاصة بها.

ولربما كان التأثير المباشر والأهم أن تركيا أغلقت باب الانقلابات مستقبلاً إلى أجل غير مسمى، وهذا لا يعني أن الباب قد أوصد تماماً وأنه لا احتمال أبداً لأي انقلاب عسكري مستقبلي، فالمؤسسات العسكرية في التجارب الديمقراطية الفتية تبقى غير مأمونة الجانب، لكن ذلك يعني أن الأمر بات أصعب بكثير.

ولعل أهم أسباب ذلك هو ما أبداه الشعب التركي من تصميم وإصرار وشجاعة ميدانية لافتة (بالاختلاف عن الانقلابات السابقة)؛ بما يعني أن أي انقلاب مستقبلي - لا قدر الله - سيواجه الشعب لا محالة حتى لو كان أحكم تخطيطاً وأعلى فرصاً للنجاح.

من جهة أخرى، فإن إخضاع المؤسسة العسكرية للقرار السياسي المدني المنتخب وعمليات إعادة الهيكلة وتغيير منظومة الأفكار المنتجة للانقلابات فيها، فضلاً عن اهتمام قيادة الجيش بتغيير الصورة النمطية السلبية التي تكونت عن المؤسسة، كلها عوامل تساهم أيضاً في تصعيب مهمة أي طرف قد يفكر في القيام بانقلاب عسكري، وتدفعه لإعادة التفكير بذلك مرات ومرات.

المتغير الثاني متعلق بالوعي الشعبي في حد ذاته، الذي كان أحد أهم أسباب فشل/إفشال الانقلاب، لكنه أيضاً كان أحد أهم نتائجه على حد سواء، ضمن إطار معادلة تأثر وتأثير ثنائية الاتجاه؛ فقد عايش الشعب التجربة وساهم بنفسه في منع نجاحها وأدرك عملياً - أكثر من أي جهد سياسي أو نظري - المخاطر الكبيرة التي تنتظر البلاد في حال نجح الانقلاب، فازداد تمسكاً بخياره الديمقراطي ومؤسساته المنتخبة وإنجازاته المدنية والسياسية والاقتصادية والإصلاحية.

في المقام الثالث تأتي سياسة تركيا الخارجية التي تغيرت جزئياً بعد الانقلاب، بعد أن كانت بطيئة ومتحفظة في كثير من الملفات.. بعد الانقلاب مباشرة، وفي شهر أغسطس 2016م، أطلقت تركيا عملية “درع الفرات” شمال سورية ضد “داعش” والمنظمات الكردية المسلحة، في افتراق واضح جداً عن سياساتها المتحفظة فيها منذ عام 2011م، كما تعدُّ اليوم لعملية عسكرية محتملة وشبيهة في شمال غرب سورية ضد المنظمات الكردية في عفرين تحت اسم “سيف الفرات”.

ولعل تسريع البرلمان التركي التصويت على إرسال جنود أتراك إلى قطر خلال الأزمة الخليجية دليل بارز أيضاً على تحول السياسة الخارجية التركية لشيء من الحيوية والمبادرة لم تكونا معهودتين عنها قبل الانقلاب كثيراً.

في المحصلة، ورغم آثاره السلبية المباشرة، فإن الانقلاب الفاشل في تركيا أفادها على المدى البعيد في عدة سياقات تصب كلها في خدمة التجربة الديمقراطية في البلاد، وهو ما يزيد من مسؤولية الرئيس التركي وحكومته، خصوصاً فيما يتعلق بقضايا الانقلاب والكيان الموازي التي تخللها عدد كبير من الموقوفين للتحقيق والموقوفين عن العمل، فضلاً عن استمرار حالة الطوارئ حتى اليوم.

فالمطلوب هو الحسم والسرعة والقوة في مواجهة الأخطار، لكن أيضاً من خلال الالتزام الشديد بحقوق المواطنين وحرياتهم، وهي معادلة صعبة جداً ولا شك في ظل المعطيات الحالية لكن لا بد منها من أجل تركيا وسمعتها ومستقبلها.

الرابط المختصر :