; تركيا والقدس.. استنفار شعبي ورسمي | مجلة المجتمع

العنوان تركيا والقدس.. استنفار شعبي ورسمي

الكاتب د. سعيد الحاج

تاريخ النشر الاثنين 01-يناير-2018

مشاهدات 15

نشر في العدد 2115

نشر في الصفحة 34

الاثنين 01-يناير-2018

أدى قرار الرئيس الأمريكي «دونالد ترمب» اعتراف بلاده بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونيته نقل سفارتها إلى القدس قريباً إلى ردود أفعال غاضبة وعارمة على امتداد العالمين العربي والإسلامي، ولم تكن تركيا -الرئيس الدوري لمنظمة التعاون الإسلامي- استثناءً في هذا الصعيد، بل لعلها قادت منظومة العمل الرسمي في مواجهة قرار «ترمب» إضافة للبعد الشعبي المتفاعل بقوة مع القضية.

تصوغ تركيا مقاربتها للقضية الفلسطينية وفق عدة محددات؛ في مقدمتها البعد الديني والتاريخي، والتعاطف الشعبي الكبير، وخلفية العلاقات بينها وبين دولة الاحتلال، وعلاقاتها الغربية أمريكياً وأوروبياً، وسقف الحل دولياً (حل الدولتين)، وعربياً (المبادرة العربية للسلام)، وغيرها.

بيد أن القدس تحديداً تحظى باهتمام تركي خاص بسبب رمزيتها الدينية والتاريخية والسياسية البارزة، ونظر تركيا لنفسها كوريثة للدولة العثمانية التي كانت آخر دولة ذات سيادة على القدس قبل احتلالها، وبالتالي يستشعر الأتراك ما يسمونه مسؤولية تاريخية تجاه المدينة كما أعرب عن ذلك مثلاً «إبراهيم كالين»، الناطق باسم الرئاسة التركية.

ولذلك، ورغم عودة العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة و»تل أبيب» بعد اتفاق تطبيع العلاقات في يونيو 2016م، لم يعد الجانبان لما سبق من تحالف إستراتيجي كان قائماً بينهما في تسعينيات القرن الماضي، الأمر الذي تبدى واضحاً في التراشقات الإعلامية بين الطرفين، وفي عدد من التصريحات الرسمية الصهيونية؛ منها تصريح رئيس «الكنيست» بأنه «رغم عودة العلاقات، لكن «أردوغان» يبقى متطرفاً إسلامياً لا نثق به»، كما أن تطبيع العلاقات بين الجانبين لم يؤد لسكوت تركيا عن التجاوزات الصهيونية بشكل عام وفي القدس على وجه التحديد كما حصل إبان هبة باب الأسباط ومواجهة المقدسيين لمحاولات الكيان المحتل فرض البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى.

الهبة الشعبية

تختلف التيارات السياسية والمجتمعية التركية على كل شيء وتتفق على التضامن مع القضية الفلسطينية، باختلاف المستويات والمقاربات والسقوف، كلٌّ من زاوية نظره وبما يتفق مع خلفيته الفكرية واتجاهاته السياسية، ومنذ إعلان «ترمب» عن قراره يوم الأربعاء في السادس من ديسمبر الماضي، تحركت مختلف الأطراف والمؤسسات والفعاليات المجتمعية والشعبية التركية بشكل لافت، ولعله يكون سابقاً ومتقدماً على تحركات سابقة لعناوين مختلفة تتعلق بالقضية الفلسطينية وغيرها.

سريعاً، باتت المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات خبراً يومياً في الصحافة التركية، خصوصاً في المدن الكبرى كإسطنبول وأنقرة، ولكن أيضاً في عموم المحافظات التركية جميعها، ولعل من اللافت في هذه المظاهرات، وبما يختلف عن مظاهرات سابقة في تركيا، العدد الكبير من مؤسسات المجتمع المدني الداعية لها والمشاركة بها أولاً، والحضور الرسمي فيها ثانياً، وسقف خطابها المرتفع ثالثاً.

ففي مظاهرات أنقرة وإسطنبول تحديداً وفي عدد من المحافظات الأخرى، شارك وزراء ونواب من حزب العدالة والتنمية في الفعاليات الاحتجاجية، بل وشارك متحدثون باسم الحزب ربما لأول مرة في فعاليات مشابهة، إلى جانب متحدثين رسميين ومسؤولين في أحزاب السعادة (الإسلامي)، والاتحاد الكبير (الإسلامي القومي)، والدعوة الحرة (الإسلامي الكردي).

سقف الخطاب الشعبي والنخبوي كان مرتفعاً أيضاً، بالتوازي مع السقف الرسمي للدولة التركية، مطالباً بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني وإعلان السفيرين الأمريكي و”الإسرائيلي” شخصين غير مرغوب بهما على الأراضي التركية، والتراجع عن اتفاق تطبيع العلاقات مع “تل أبيب” وتفعيل قضية “مافي مرمرة” ضد القيادات العسكرية الصهيونية.

تنوعت الفعاليات الشعبية التركية بين مظاهرات واحتجاجات في الميادين الرئيسة للمدن وأمام الممثليات الأمريكية، وبين ندوات وورش عمل ومَعارِض، إضافة للفعاليات التي استهدفت رفع وعي الشعب وخصوصاً فئة الطلاب بخصوص القدس والقضية الفلسطينية، وقد بدأت الفعاليات بزخم كبير وبشكل متزامن على مستوى كل المحافظات، ثم اتجهت مع الوقت للتتابع والتكامل حرصاً على الديمومة والاستمرارية.

تركيا الرسمية

كما تقدم، اضطلعت تركيا الرسمية بدور واضح وملموس في قضية القدس ومواجهة قرار الرئيس الأمريكي، على مستوى الخطاب والممارسة على حد سواء، أولاً لاعتبارات تتعلق بالنظرة التركية للقدس والقضية الفلسطينية، وثانياً ضمن نطاق مسؤولياتها كرئيس دوري لمنظمة التعاون الإسلامي، التي كانت قد أنشئت عام 1969م على هامش إحراق المسجد الأقصى بما يحمّلها مسؤولية أخلاقية وسياسية وأدبية تجاه القدس.

“القدس خط أحمر بالنسبة لتركيا والعالم الإسلامي” كان الشعار الذي نظم عقد الموقف السياسي الرسمي التركي في مواجهة القرار الأمريكي، الذي تبدى في عدة صياغات وتمظهرات على ألسنة كافة المستويات السياسية، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء إلى وزير الخارجية إلى رؤساء الأحزاب السياسية كافة إلى مختلف الوزراء والنواب وغيرهم.

ولأول مرة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو 2016، وفي حالة نادرة في المشهد السياسي التركي الداخلي مؤخراً، اجتمعت الأحزاب السياسية الأربعة الممثلة تحت قبة البرلمان، العدالة والتنمية، والشعب الجمهوري، والحركة القومية، والشعوب الديمقراطي، على بيان مشترك يدين القرار الأمريكي ويرفضه ويدعو لعدم تغيير الحالة القانونية للمدينة بقرارات أحادية الجانب.

قاد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” الخطاب الرسمي التركي، الذي وصم الكيان الصهيوني أكثر من مرة بأنه “دولة احتلال” و”دولة إرهاب”، كما عكف في كثير من خطاباته الرسمية والشعبية على شرح محطات تاريخية في احتلال فلسطين مستعملاً الخرائط والإحصاءات الرسمية، وهو بُعد جديد في الخطاب الرسمي التركي.

تحدث الرئيس التركي عن ثلاث خطوات رئيسة في مواجهة القرار الأمريكي: الدعوة لعقد قمة طارئة لمنظمة التعاون الإسلامي، وتحريك الشارع العربي والإسلامي، وبدء خطوات على صعيد مجلس الأمن والأمم المتحدة، وقد دعا “أردوغان” للقمة التي انعقدت في إسطنبول في غضون أسبوع من إعلان “ترمب”، ودعت -في مواجهة القرار- إلى الاعتراف بدولة فلسطين وإلى “القدس الشرقية” عاصمة لها.

قبل القمة وبعدها، استمر التواصل مع مختلف رؤساء الدول، إما اتصالاً أو استقبالاً، وفي مقدمتهم الرئيس الفلسطيني والعاهل الأردني ورؤساء كل من روسيا وألمانيا وفرنسا وبابا الفاتيكان، لحشد موقف دولي ضاغط على الولايات المتحدة.

تقدمت مصر -نيابة عن المجموعة العربية والإسلامية- بمشروع قرار في مجلس الأمن، وهو القرار الذي استخدمت واشنطن في مواجهته حق النقض (الفيتو)، الأمر الذي أحال القضية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد نسقت تركيا كرئيس دوري لمنظمة التعاون الإسلامي مع اليمن الرئيس الدوري للمجموعة العربية في الأمم المتحدة، وقدمتا مشروع القرار الذي يرفض تغيير الصفة القانونية للقدس ويرفض أي قرارات أحادية تعارض القرارات الدولية بهذه الشأن، وهو القرار الذي مر بموافقة 128 دولة مقابل 9 وامتناع 35 دولة عن التصويت، وقد حرصت تركيا على أن يكون لها دور واضح وبارز في هذه العملية، حيث استقبل وزير الخارجية التركي “مولود تشاووش أوغلو” نظيره الفلسطيني “رياض المالكي” في إسطنبول قبل أن يسافرا معاً على طائرة واحدة.

وقد برز حرص تركيا على استضافة عدد من الشخصيات الفلسطينية التي تعرضت للاعتقال أو التنكيل على يد قوات الاحتلال، مثل الطفل محمد الطويل المصاب بمتلازمة “داون”، وعم الشاب فوزي الجنيدي الذي اعتقله عشرات الجنود “الإسرائيليين”، والذي شارك -أي عمه- متحدثاً في بعض الفعاليات الاحتجاجية في تركيا.

بعد الأمم المتحدة

لا يعتبر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ملزماً للولايات المتحدة، لكنه يضغط عليها سياسياً وقانونياً ويحصّن -ما أمكن- الوضع القانوني للمدينة، وبالتالي يعتبر صفعة سياسية للإدارة الأمريكية الجديدة؛ وعليه، اعتبرت تركيا الرسمية أن القرار موقف دولي واضح ينبغي أن يدفع بواشنطن للتراجع عن قرارها، كما أعلن «أردوغان» عن استمرار العمل على إفشال القرار الأمريكي.

في التحليل، يمكن إرجاع هذا الموقف المتقدم رسمياً وشعبياً في تركيا، الذي تناغم مع موقف عربي وإسلامي متماسك ضد الخطوة الأمريكية، إلى أربعة أسباب رئيسة:

الأول: مكانة القدس بالنسبة لتركيا قيادة وشعباً، دينياً وسياسياً وتاريخياً، وهو أهم الأسباب.

الثاني: التوتر التركي - الأمريكي مؤخراً الذي ساهم بطبيعة الحال برفع سقف الخطاب التركي.

الثالث: انعكاسات قضايا السياسة الخارجية التركية الشبيهة بشكل إيجابي على المشهد الداخلي التركي.

الرابع: أهمية موقف الرئيس “أردوغان” في تشكيل المشهد النخبوي والمجتمعي والشعبي إلى حد ما، بحيث ساهم سقفه المرتفع أكثر هذه المرة بإعطاء زخم إضافي للفعاليات التركية تجاه القدس.

في الختام؛ لا يمكن القول: إن مؤتمر القمة الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي ومشروع قرار الجمعية العامة والجهد المبذول رسمياً من كل الدول خطواتٌ كافية لردع المسار الأمريكي، لكنها خطوات يمكن البناء عليها، وستكون ذات فائدة أكبر إذا ما استمرت وتوبعت وطوِّرت، وتكاملت مع الفعل الميداني على الأراضي الفلسطينية أولاً وفي الشارع العربي والإسلامي ثانياً، إضافة للموقف المطلوب من السلطة الوطنية الفلسطينية فيما يرتبط بالعلاقة مع دولة الاحتلال والتنسيق الأمني ومسار المصالحة الوطنية الفلسطينية.

الرابط المختصر :