العنوان رأي القارئ (1197)
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 23-أبريل-1996
مشاهدات 35
نشر في العدد 1197
نشر في الصفحة 4
الثلاثاء 23-أبريل-1996
أحسنت مجلة المجتمع صنعًا حين نشرت ما ينبغي إماطة اللثام عنه من حكم العمليات الاستشهادية التي يقوم بها المجاهدون في سبيل الله، في أوساط اليهود الغاصبين، وأحسن الدكتور عبد الرزاق الشايجي -جزاه الله خيرًا- حين فتح باب الحوار في هذه المسألة الشرعية، وأحسن الدكتور عجيل النشمي حين عزز الرأي السابق له، وأضاف إليه بعض الضوابط الشرعية الفقهية.
وأحب في هذه الأسطر أن أضفي على الموضوع التأصيل التاريخي من فعل أسلافنا السابقين رحمهم الله تعالى، إضافة إلى ما ذكر من ضوابط فقهية، ليكتمل الموضوع من جميع جوانبه، وأحب أن أشير إلى أن علماء فلسطين كانوا السباقين إلى إجلاء هذه المسالة، ولم تقم «حماس» أو «الجهاد الإسلامي»، بالإقدام على هذا التكتيك إلا على أساس شرعي متين، وقد نشر ذلك في كتيب «في فقه الشهادة»، ومقالات إبراهيم العلي في مجلة «فلسطين المسلمة»، فجزاهم الله خيرًا على سبقهم، وجزى الله خيرًا كل فقيه يبصر جيل الصحوة بما يهمه في أمر دينه ودنياه.
لا بد من معرفة أن المجاهد إنما يجاهد لإعلاء كلمة الله -تعالى- لا لغرض دنيوي آخر، ومن الأغراض الدنيوية: التخلص من الحياة وسأمها وشقائها، وهذا لا يجوز شرعًا، وهو ما يسمى انتحار، قال الماوردي -رحمه الله- تعليقا على قول الله -سبحانه-: ﴿وَلَا تَقْتُلُوْا أَنْفُسَكُمْ﴾ (سورة النساء: 29) نهى أن يقتل نفسه في حال الغضب والضجر (النكت والعيون للماوردي).
المجاهد باع نفسه لله:
فالمجاهد إنما يقدم نفسه لله -تعالى- لينال الشهادة في سبيله، لا للتخلص من الدنيا فحسب؛ ولذا فإن المجاهد باع نفسه لله -تعالى- كما قال -سبحانه-: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ﴾ (سورة التوبة: 111).
فالغرض الذي يبغيه المجاهد في سبيل الله أن يرزق الشهادة، وهي الخلوص من الحياة على أشرف الصور، كما قال النبي ﷺ في خير الناس: «ورجل قد حبس خيله في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار على متنه يبغي الموت أو القتل» (أخرجه مسلم في صحيحه)، فهو متتبع لمواطن الموت، وذوق حلاوته في طاعة الله.
قال الإمام النووي رحمه الله: الشهيد الذي لا يغسّل ولا يصلى عليه: هو الذي مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال، سواء قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاح نفسه، أو سقط عن فرسه أو رمته دابته فمات، أو وطأته دواب المسلمين أم غيرهم، أو أصابه سهم لا يعرف هل رمی به مسلم أو كافر أو وجد قتيلًا عند انكشاف الحرب، ولم يعرف سبب موته، وسواء كان عليه أثر دم أم لا، وسواء مات في الحال أم بقي زمنًا ثم مات بذلك السبب قبل انقضاء الحرب، وهذا كله متفق عليه عندنا نص عليه الشافعي» (المجموع 5/261).
ولا يشك فقيه أن حال الحرب بيننا وبين اليهود قائمة، وأن ما يقوم به المجاهدون إنما هو قتال في ساحة حرب يطلبون فيه الشهادة في سبيل الله.
ونأتي إلى الحالة التي يصبح الموت فيها على المجاهد محتمًا بالنظر إلى القياس الحسّي، والسنن التي خلق الله الناس عليها، فنستظهر بعض ما روته كتب السيرة والتاريخ، فنجد الآتي:
- في عملية من عمليات المشركين أغاروا على إبل رسول الله ﷺ فاقتادوها، فلحقهم سلمة بن الأكوع وحده يرشقهم بنبله حتى استنقذها منهم. أخرجه مسلم في صحيحه، وأحمد في المسند، وعلق ابن النحاس على هذه المعركة بقوله: في هذا الحديث أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو، وإن غلب على ظنه أنه يقتل.
- وذكر البيهقي عن ثابت: أن عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- ترجل -نزل عن فرسه ليقاتل راجلًا- يوم اليمامة، فقال له خالد ابن الوليد لا تفعل فإن قتلك على المسلمين شديد، مما يدل على تحقق موته، فقال عكرمة: خل عني يا خالد، فإنه قد كان لك مع رسول الله السابقة، وإني وأبي كنا من أشد الناس على رسول الله ﷺ، فمشى حتى قتل.
- ويدخل في ذلك قتال المؤمن من لا يقوى على قتاله بحال، فردًا كان أو جماعة، كأن يكون الأعداء يفوقون بعددهم عدد المسلمين فوقًا كبيرًا، ومن ذلك:
أ- معركة مؤتة التي كان عدد المسلمين فيها ثلاثة آلآف مقابل مائتي ألف مقاتل من الروم.
ب - معركة عقبة بن نافع -رضي الله عنه- مع ستة آلآف من المسلمين أمام البرابرة الذين يفوق عددهم المائة ألف مقاتل، فقاتلوهم فصبروا حتى قتلوا جميعًا، ولم يقولوا: إن هذا من إلقاء النفس في التهلكة.
ج - وما قام به طارق بن زياد حيث لقي المشركين بقيادة لذريق باثني عشر ألفًا من المسلمين والمشركون أكثر من مائة ألف.
- وجاء في الكامل لإبن الأثير في أحداث معركة اليمامة: صاح البراء بن مالك -رضي الله عنه- إليَّ أيها الناس، أنا البراء بن مالك، إلى إلي وقاتل قتالًا شديدًا، فلما دخلت بنو حنيفة الحديقة، قال البراء: يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة، فقالوا: لا نفعل خوفًا عليه من المصير المحتوم، فقال: والله لتطرحنني عليهم بها، فاحتمل حتى أشرف على الجدار فاقتحمها عليهم، وقاتل على الباب وفتحه للمسلمين، ودخلوها عليهم فاقتتلوا أشد القتال.
فهل ترى فرقًا بين ما فعله البراء -رضي الله عنه- وبين ما يفعله أبناء الانتفاضة؟ إن الهدف مشترك، والوسيلة مشتركة، واستنكار الناس مشترك والنتيجة مشتركة، فتوفرت أركان القياس.
- وفي موقعة الجسر التي ذكرها ابن الأثير أيضًا لما رأى أبو عبيد بن مسعود ما حل بالمسلمين من الفيلة، ترجل عن فرسه والناس، ونادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة، واقطعوا بطانها -خراطيمها- واقلبوا عنها أهلها، ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه، ووقع الذي عليه، وأهوى الفيل على أبي عبيد فخبطه بيده، ثم وطئه وقام عليه، ولما أبصره الناس خشعت أنفس بعضهم...إلخ، فهل ذلك إلا موت محقق؟
- وفي غزوة من غزوات الروم دخل بسر بن أرطاة -رضي الله عنه- الكنيسة وفيها جنود الروم، فأغلق الباب عليه وعليهم، فاقتتل معهم وحده حتى بقر بطنه، ثم أحس المسلمون بالجلبة داخل الكنيسة ففتحوها، فإذا هو يقاتل وهو ممسك أمعاءه بيده حتى دافعوا عنه، ثم عالجوه، وهل هذا إلا استماتة في طلب الشهادة والإثخان في الأعداء؟
وذلك كله مما يوافق السنة ولا يخالفها، فقد سئل المصطفى ﷺ: ما يضحك الرب من عبده؟ فقال: «غمسه يده في العدو حاسرًا» أخرجه ابن أبي شيبة، وهل التعرض للعدو بلا درع إلا تعرض للموت بلا وسيلة حماية؟
رجل يقاتل القوم وحده:
وقد مدح النبي ﷺ الذي يقاتل القوم وحده، وإن تحقق موته، فقال: «عجب ربنا من رجلين، ورجل غزا في سبيل الله، فانهزم أصحابه وعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع، فرجع حتى يهريق دمه فيقول الله: انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى يهريق دمه»، أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما بسند صحيح.
وإن الشبهة التي قد تثار حول تعرض الذي يفجِّر نفسه للتهلكة، أثيرت قديمًا، فتولى أصحاب النبي ﷺ ردها، وأولهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث جاءه رسول النعمان بن مقرن -رضي الله عنه- فقال: أصيب فلان وفلان وآخرون لا أعرفهم، فقال عمر: لكن الله يعرفهم، فقال: يا أمير المؤمنين ورجل شرى نفسه؛ أي قذف نفسه في الأعداء زعم الناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر -رضي الله عنه- كذب أولئك، ولكنه ممن اشترى الآخرة بالدنيا، أخرجه ابن أبي شيبة، والبيهقي بسند صحيح.
وسأل رجل البراء بن عازب -رضي الله عنه-: إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة قال: لا، قال الله -تعالى-: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ (سورة النساء: 84)، وسئل: هل هو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف والسيف بيده؟ قال: لا.
أبو أيوب الأنصاري:
وقصة قتال الرجل الذي قذف بنفسه في وسط المشركين بالقسطنطينية، ومعهم أبو أيوب الأنصاري فقال الناس: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب -رضي الله عنه- يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار...إلخ، وهي مشهورة معروفة، وقد تقدم ذكرها في عدد المجتمع (1193).
وانظر للمزيد (مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق لابن النحاس بتحقيق إدريس محمد علي، ومحمد إسطنبولي 1/557 وما بعدها).
وأحب أن أضيف أن هذه العمليات الاستشهادية لا يمنع منها وجود بعض المقاتلين من المدنيين اليهود من مستوطنين، أو تجار، أو نساء، أو أطفال، أو غيرهم، فإن قتلهم في هذه الحالة ضرورة لا تراد لذاتها، ولا بد من تقليلها قدر المستطاع، فإن لم يمكن التلافي التام، فلا يمنع الجهاد بسببهم، ويعفى عن القتل اليسير فيهم مقابل المصلحة الراجحة بقتل المقاتلين (انظر المغني لابن قدامة: 13/140، والفقه الإسلامي للزحيلي: 6/421).
مع ملاحظة أن كثيرًا من المستوطنين اليهود أشد على المسلمين من جنود اليهود أنفسهم؛ وبذا يتأكد مشروعية مثل هذه العمليات الاستشهادية بالضوابط المذكورة في مقالات سابقة، وأنها باب عظيم من أبواب الشهادة في سبيل الله.
عصام بن عبد المحسن الحميدان
المحاضر بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران.
• ردود خاصة
الأخ رشيد ميلودي- الجزائر
نرحب بك صديقًا عزيزًا ونعتذر عن قبول طلبك لاكتفاء المجلة من العاملين مع تمنياتنا لك بالتوفيق.
• الأخ مشهور خالد الشريف- الطائف- السعودية
شكرًا للملاحظة التي تنم عن تجاوب مع فكر وطبيعة المياه وقد قمنا بتصحيح العبارة في العدد ١١٩٤ صفحة البريد.
• الأخ أحمد الجعفري- الأحساء- السعودية
نشكر لك عاطفتك ونشاركك العزاء بالشيخين الجليلين محمد ، وجاد الحق ونرجو أن يقدم الباحثون مزيدًا من الدراسات والتحليلات - عن حياتهما وعلمهما وتأثيرهما في المجتمع نسأل الله أن يعوض المسلمين خيرًا وأن يتغمدهما بواسع رحمته.
• الأخ سعد عبد الرحمن – الرياض- السعودية
نشكرك على اهتمامك ونود إفادتك بأن نظرتنا إلى جميع العلماء هي نظرة التقدير والاحترام، ولكن من العلماء مَن يهتم بهم تلاميذهم ويكتبون عنهم ويذيعون أخبارهم وآثارهم في حياتهم أو بعد موتهم، ومنهم من لا يعتني تلاميذهم بعرض مآثرهم وبيان علومهم ومواهبهم، ونحن لا نملك إلا أن ندعوهم إلى الاهتمام بعلمائهم والكتابة عنهم، وعندها سترى المجلة لا تتوانى عن نشر ما يصلها من سِير العلماء وحياة المربين.
• تنويه
نلفت نظر الإخوة القراء أن تكون الرسائل موقعة بالكامل ومكتوبة بخط واضح على وجه واحد من الورقة، ونفضل أن تكون الرسائل مناقشة أو تعليقًا لما ينشر في المجلة، وتحتفظ المجلة بحق اختصار الرسائل، كما تحتفظ بحق عدم الالتفات إلى أي رسالة غير مذيلة باسم صاحبها واضحا.