العنوان تنزيل الشريعة الإسلامية في الواقع الإسلامي الراهن.. بين الرفض والقبول
الكاتب محمد إكيج
تاريخ النشر السبت 05-مايو-2001
مشاهدات 10
نشر في العدد 1449
نشر في الصفحة 42
السبت 05-مايو-2001
دراسات
- العلمانيون يلجئون إلى «قياس الشاهد على الغائب» ويحاكمون الشريعة بروايات عن جور بعض الحكام.
- ... ولو طبقنا المنطق نفسه في تقويم مسار القوانين الغربية، لما بقيت حصاة في جدرانها.
- تطبيق الشريعة ينهي «الانشطارية الولائية» في نفسية كل مسلم.. بين ولاء للتشريعات المتغربة وولاء للإسلام وشريعته.
- الشريعة لن تكون أداة تسلطية بيد الحاكم، بل على النقيض معيار لضبط تصرفاته ومحاسبته في ضوئها.
يعيش العالم الإسلامي بشكل عام، والعربي منه على وجه الخصوص صحوة إسلامية هائلة تؤكد أوبة الجماهير المسلمة إلى هويتها الأصيلة، ورغبتها وطموحها في تحقيق النهوض الحضاري الذي طال انتظاره تحت ضغط التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء. وكما أنها شملت مسحتها نفسية الشعوب وغشيت غاشيتها سلوكياتها ومعاملاتها، وبدأنا نلحظ يومًا بعد يوم اندحار المظاهر التغريبية الهجينة في سلوك بعض الأفراد والجماعات في المجتمع الإسلامي؛ فإنها أفرزت إفرازات إيجابية محمودة تاخمت عتبات الأنظمة والمؤسسات الحاكمة في البلاد الإسلامية الراهنة، رغم صنوف التضييق والحصار تارة، والتهميش واللا مبالاة تارة أخرى.
ولعل من حسنات هذه الصحوة المباركة أنها أعادت الاعتبار والمصداقية والمشروعية -وإن على المستوى النظري- لقانون الأمة الأصيل الذي ساد في المجتمعات الإسلامية زمن الوهج الحضاري للأمة الإسلامية رغم فترات النكوص والتذبذب التي انتابت مساره التاريخي قبل أن يتوارى عن التطبيق على إثر الهجمة الشرسة للقوانين الوضعية الغربية والمتغربة، والتي حاصرته حتى في المواقع الضيقة التي تهم شخصية المسلم وأحواله العائلية.
لقد غدت الشريعة الإسلامية وإشكال تطبيقها في الواقع الراهن من المواضيع الأساسية التي تشغل بال المفكرين سواء أكانوا إسلاميين أم علمانيين، كل من وجهة نظره الخاصة.. ولم تعد الدعوة إلى تطبيقها مقتصرة على برامج الحركات الإسلامية وبعض الدعاة المخلصين، وإنما بدأت تشق طريقها نحو العديد من الهياكل التنظيمية والبنى الدستورية والقانونية لبعض الدول العربية والإسلامية، بل وترجم ذلك عمليًا بإدخال نصوص جديدة أو تعديل نصوص قديمة في دساتيرها وقوانينها التي تتعلق بمصادر التشريع التي تغترف منها.
إلا أن هذا الموضوع -وكما هو الشأن لكثير من المواضيع الإسلامية الحساسة- كان عرضة لكثير من سوء الفهم والتعسف في التأويل والنقد والتغليط، مما جعل الآراء والتصورات يتوزعها تياران رئيسان:
- تيار مؤيد وراغب في التطبيق يمثله عموم الإسلاميين.
- تيار رافض أو متحفظ إزاء هذا التطبيق، يمثله عموم العلمانيين بمختلف توجهاتهم.
وإذا حاولنا تتبع أراء هاتين الجبهتين ألفينا أن كلا منهما تستند في قولها ودعوتها إلى مبررات تعزز به تموقعها سلبًا أو إيجابًا إزاء هذه القضية، وسنحاول أن نقف على مبررات ومرتكزات كل طرف على حدة، لنخلص في نهاية المطاف إلى تبيان وتجلية الأبعاد الحقيقية والخلفيات الكامنة والمستكينة وراء كل موقف.
مزاعم الرفض العلماني لتطبيق الشريعة الإسلامية:
يتأسس هذا الرفض على جملة من المزاعم نوردها في الآتي:
- ترى التوجهات العلمانية أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية حاضرًا تفتقر إلى الرؤية المنهجية العامة التي ستسير هذا التطبيق، وذلك لكونها تنبني على نصوص بالغة العمومية فآيات الأحكام لا تتجاوز في مجموعها خمسمائة آية تحدد الجزاءات ومخالفاتها سواء في المجال الجنائي أو المدني، هذا فضلًا عن الاختلافات الواسعة بين المذاهب الفقهية القديمة والحديثة حول كيفية تنزيلها على الوقائع المستجدة.
- إن الشريعة الإسلامية لم تطبق في أجلى صورها إلا في فترة جد محدودة لا تزيد على الأربعين حولًا، وفي بيئة لم تعرف من التعقيدات والمستجدات مثل ما نعيشه في عصرنا الراهن. مما يجعل إعادة إنتاج تلك التجربة تكريسًا لماضوية القوانين العربية والإسلامية، وخروجًا عن منطق التاريخ الذي يقتضي التطور والتحديث ومواكبة الابتكار الإنساني في النظم والأحوال والقوانين.
- إن تطبيق الشريعة الإسلامية سيؤدي إلى تفتيت وحدة المجتمع العربي والإسلامي بحكم وجود العديد من الأقليات غير المسلمة، التي تتعايش جنبًا إلى جنب مع الشعوب الإسلامية في ظل القوانين الحالية دون أدنى حساسية أو «مركب نقص» لأن الجميع يستظل بمظلة الوطنية العاصمة -حسب رأيهم- من كل انقسام أو تشتت ويستدلون هنا بموقف «الرفض» المسيحي العربي لهذه الصيغة لما تنطوي عليه من أخطار العودة إلى نظام «أهل الذمة» و«نظام الملل» أي خلق نظام تراتبي في المواطنة.
- إن تطبيق الشريعة الإسلامية سيكون -في زعمهم- ذريعة للحاكم المسلم للاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان وسفك الدماء بدعوى تطبيق شرع الله ومحاربة المفسدين.
- يقولون إن تطبيق الشريعة الإسلامية سيخول المؤسسة الدينية صلاحيات واسعة في إطار الدولة مما سيتيح إمكان الهيمنة وإقصاء المؤسسات الأخرى وسيمثل هذا سابقة في تاريخ الدولة العربية الإسلامية، إذ المعلوم من استقراء التاريخ الإسلامي أن هذه المؤسسة نشأت بمعزل عن الدولة، بل وفي تعارض معها..
- يقولون إن الغاية المبتغاة من المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية وإثارة النقاش حولها، هو بلوغ أهداف سياسية مرحلية كتحسين الموقع السياسي، والضغط باسم الشريعة على الخصم قصد انتزاع ما يمكن انتزاعه من مكاسب في اللعبة السياسية الداخلية، وقد تبين ذلك بشكل جلي في مشاركة العديد من الحركات الإسلامية وفق شروط لم تشارك أصلًا في وضعها ومعلوم أيضًا، أن هذه القضية تفتقر إلى إجماع إسلامي حول المبدأ أصلًا، كما تعاني من انشطار في الموقف الإسلامي العام يتراوح بين موقف رافض لها، داع إلى التعامل الإيجابي مع الأنظمة السياسية القائمة، إلى موقف رافض لكل الأجهزة الحالية، وإلى موقف اجتهادي يحاول التوفيق بين القواعد العامة للشريعة والاندماج المباشر أو غير المباشر في العملية السياسية على علاتها وقواعدها الهجينة.
ملاحظات بشأن الدعاوى العلمانية:
قبل استعراض تلك الحجج، لا بد من إبراز جملة من الملاحظات بشأن المبررات العلمانية الآنفة الذكر:
- إن الأطراف العلمانية بإصرارها على رفض تطبيق الشريعة الإسلامية ورفض المطالبة بذلك تبغي تكريس القطيعة بين الجماهير المسلمة وبين هويتها الأصيلة المتجسدة في الإسلام عقيدة وسلوكًا وشريعة ونظامًا، وفي المقابل تعمل على إدامة القوانين الوضعية الدخيلة، ومن ثم تعميم الإلحاقية للغرب ومصادرة المرجعية التاريخية للأمة الإسلامية الكامنة في نفوس شعوبها رغم مظاهر الانحراف والتسيب واللا مبالاة الطافية في المجتمعات الإسلامية الراهنة، لأن هذه الحالات لا تعدو أن تكون مظاهر نفسية متوترة تشعر بالقلق وتبحث عن «الذات» في خضم واقعها المضطرب والمفروض باستبداد الأنظمة المتغربة التي تحتكر السلطان السياسي بمعاول «الأنا» وعقلية وتخطيط «الآخر»!!
- إن العلمانيين يطبقون مقولة «قياس الشاهد على الغائب» في محاكمتهم للشريعة الإسلامية، وذلك لارتكازهم في بناء تحفظاتهم «رفضهم» إزاء الشريعة على روايات من تاريخ الدول الإسلامية تحكي عن سفك دم أو حمق أو تهور حاكم في تطبيق بعض الأحكام، فيتخذون هذا العمل الشائن حجة على الإسلام، وليس على فاعله، ولو لجأنا إلى هذا المنطق في تقويم مسار القوانين الغربية والمتغربة المعمول بها في مختلف أرجاء العالم الإسلامي والعربي لما بقيت حصاة في جدرانها بله أن يكون حجرًا.. والتاريخ الأوروبي والغربي -تاريخ المظالم- خير شاهد على ذلك ولو قورنت جرائم الحكام المسلمين الأوائل التي يتذرع بها لرفض شريعة الإسلام، لما بلغت في هولها وفظاعتها عشر ما بلغته جرائم حكام أهل الغرب وساستهم.. ونحن هنا لا نبرر الظلم والطغيان باسم الإسلام، وإنما نوازن بين المفاسد وللعاقل حرية الترجيح.
- إن النخب المتغرية في العالم العربي والإسلامي يغيظها أن تكتسب الحركات الإسلامية مصداقيتها لدى الشعوب من خلال بنائها لمشروعها السياسي على أسس الشريعة الإسلامية ومقاصدها، مما يدفعها إلى «الإرهاب الفكري والمصطلحي» وذلك من قبيل الاتهامات الفجة والانطباعات القيمية المستفزة التي تسجلها في شأن هذه الحركات، بل بلغت الوقاحة ببعضها إلى مستوى «العمالة الفكرية» لبعض الأنظمة المتغربة ثمنًا لبقائها، وإفناء لخصمها، وما اليسار المتغرب في تونس عنا ببعيد.
- وأخيرًا، إن عتاة العلمانيين، بعد أن بارت بضاعتهم في السوق الفكرية والسياسية العربية والإسلامية، وعجزوا عن اختراق البنية الفكرية والنفسية للإنسان المسلم لجأوا إلى التكسب والارتزاق من الإساءة بأقلامهم إلى ما يمت بصلة إلى الإسلام بتأويلاتهم الفجة لنصوصه المقدسة، أو للإسلاميين بالنبز والتشهير وسوء الأدب وأمثال هؤلاء في العالم العربي والإسلامي كثر.
مبررات الاتجاه الداعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية:
تتمثل مبررات مؤيدي هذا الاتجاه في الآتي:
- إن الشريعة الإسلامية -ولئن توارت عن مواقع التوجيه المباشرة في حياة المسلمين، وتركت لتوجيه التيارات المنحرفة والأنظمة الوضعية -تملك رصيدًا تاريخيًا مهمًا يزكي مصداقيتها ومشروعيتها في التطبيق من جديد، وذلك بعد استصحاب مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، وخاصة ذات الصبغة الاجتماعية نظرًا لما استجد من النوازل التي تستلزم تنزيل أحكام الشريعة عليها.
- إن تطبيق الشريعة الإسلامية سوف ينهي «الانشطارية الولائية» القابعة في نفسية الإنسان، بل والمجتمع المسلم بشكل عام، ذلك أن المسلم يتوزع راهنًا بين ولاتين أحدهما للأنظمة السياسية القائمة بقوانينها وتشريعاتها المتغربة في عمومها، وثانيهما للإسلام الذي يمثل جوهر هويته وشريعته الواجبة الاتباع.. وقد كانت هذه الثنائية في الولاء ولا تزال سببًا في كثير من مظاهر الإعياء والنكوص والرياء والنفاق الفردي والجماعي، فانعكس ذلك سلبًا على أمتنا الحضاري.
- إن تطبيق الشريعة الإسلامية سوف ينمي لدى الفرد المسلم وكذا المجتمع عقلية «الواجب الشرعي» المحفزة للعمل بدل عقلية «الحقوق» الدافعة للمطلبية المستمرة والاستياء والنفور والتقاعس عن تنفيذ الخطط والتوجيهات الصادرة -حاضرًا- عن أهل السلطان السياسي، نظرًا للقطيعة القائمة بين الأسس المعرفية لهذه القوانين والتركيبة النفسية للفرد المسلم.
- إن تطبيق الشريعة الإسلامية لن يلغي سلطة المؤسسات، بل سيعمل على ترسيخها وتزكية مشروعية العمل بها، لأن موقف الإسلام من المؤسسات أصيل والتجربة التاريخية للدولة الإسلامية ثرية جدًا في هذا المضمار، ويكفي الإشارة إلى بعض الهيئات التي عرفتها الدولة الإسلامية النواة: «هيئة النقباء الاثني عشر» و«هيئة المهاجرين الأولين» اللتين كانتا بمثابة «مؤسسات دستورية» ذات اختصاصات محدودة كالتمهيد لعقد البيعة مثلًا يضاف إلى هذا العديد من المؤسسات التي أفرزها التطور الذي لحق بنية الدولة الإسلامية عبر مختلف المراحل والعصور، ومن ثم فلا ضير من استصحاب ما يمكن استصحابه من مؤسسات الدولة العصرية لكن بعد تنقيتها من كل الأوضار الأيديولوجية العالقة بها ظاهرًا وباطنًا.
- إن تطبيق الشريعة الإسلامية لن يكون أداة تسلطية بيد الحاكم، بل على النقيض من ذلك تمامًا سيكون معيارًا لضبط تصرفاته ومحاسبته في ضوئها، لأن الحكومة في الإسلام ليست «ثيوقراطية تمثل ظل الله في أرضه» ولا هي «أوليغاركية» تقوم على منطق التسلط الفئوي... وإنما هي شورية تقوم على أساس سلطة الشعب وما يسنه من قوانين تلائم المصلحة العامة والمقاصد الإلهية العليا.
- إن المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في زماننا هذا، وإن كان يبدو أنه ذو طبيعة سياسية، إلا أنه ليس مطلبًا فئويًا -أي يخص الإسلاميين وحدهم- بل هو مطلب شعبي جماهيري، لأنه يهدف إلى إعادة المصداقية والمشروعية المستلبة لقانون الأمة الحقيقي، ولا مجال للتعبير عن ذلك في الظرف الراهن إلا من خلال المؤسسات التي تقرها الأنظمة المتغربة في كثير من بلادنا الإسلامية، أي تكوين الأحزاب والمشاركة السياسية المشروعة.
ثلاثة اتجاهات داخل الصف الإسلامي:
وقبل الختام يجدر بنا أن نشير إلى أن الموقف من تنزيل مضمون الشريعة الإسلامية في الواقع الإسلامي الراهن لا يزال يتوزع داخل الصف الإسلامي بين ثلاثة اتجاهات:
- اتجاه أول يدعو إلى التطبيق الفوري، وخاصة مسألة الحدود.
- اتجاه ثان يدعو إلى تأجيل الشعار وانتهاج أسلوب إصلاحي قصد تعديل أو تطوير الشرائع السائدة في الاتجاه الذي لا يتعارض ومقاصد الشريعة الإسلامية العامة.
- اتجاه ثالث يدعو إلى فتح الحوار وتعميق النقاش حول «القاع النظري» لهذا الموضوع -على حد تعبير صلاح الدين الجورشي- من أجل إيجاد مقترحات عملية وتفصيلية للتطبيق...
ولعل هذا التوزع يعكس مدى الشتات النظري القائم حاليًا بين الاتجاهات الإسلامية، مما يعني أن الأمر يحتاج إلى رؤية منهجية واضحة تلم بمختلف جوانب الموضوع، ولن يتأتى ذلك إلا بإدارة الحوار الواسع بين مختلف الاتجاهات قصد إيجاد الإجابات لمجمل الأسئلة التي تتداولها النخب الفكرية والسياسية في العالم العربي والإسلامي. كما أن المفكرين الإسلاميين مطالبون بدراسة المجتمعات الإسلامية، ابتداء من المجتمع القدوة «مجتمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى مجتمعاتنا المعاصرة»، مع تبيان مختلف الأنماط التطبيقية للأحكام الإسلامية التي سادت في كل مجتمع على حدة، وتجلية الخروقات والتجاوزات التي شهدتها وذلك لتبرئة ذمة الدين الإسلامي الحنيف من كل جور أو عسف ارتكب باسمه في زمن من الأزمان، مما يتخذ في يومنا هذا تعلة لأي رفض أو تحفظ.. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن دراسات الفقه الدستوري والجنائي الإسلامية لا تزال ضعيفة إلى يومنا هذا.
وختامًا نقول: إن هذا الموضوع يحتاج إلى مجهودات فكرية ونظرية متضافرة تخدم الصالح العام للأمة الإسلامية لإخراجها من واقع التردي الحضاري الذي تعيشه راهنًا، ولن يتأتى ذلك إلا بالحوار الهادف والبناء بدل الاتهامات والاتهامات المضادة الفجة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
«كيف كان؟».. رؤية في منهجية الفلسفة الإسلامية للتاريخ (1 - 2)
نشر في العدد 2104
18
الأربعاء 01-فبراير-2017