العنوان ثرثرة فوق النيل أو دولة الحشاشين
الكاتب محمد عبد الفتاح
تاريخ النشر الثلاثاء 11-أبريل-1972
مشاهدات 16
نشر في العدد 95
نشر في الصفحة 26
الثلاثاء 11-أبريل-1972
ثرثرة فوق النيل أو دولة الحشاشين
بقلم محمد عبد الفتاح
هي قصة الأديب نجيب محفوظ، وأعدها للسينما جمال الليثي، وأخرجها المخرج الشاب كمال حسين، وهي من الأدب الذي لجأ إليه نجيب محفوظ بعد هزيمة (٦٧)، ومن أمثلها «ميرمار»، و«تحت المظلة»، و«لكل بداية نهاية»، وأخيرًا «ثرثرة فوق النيل».
وهذا النوع من الأدب الذي يحاول أن يلقي اضواء النقد والرمزية على المجتمع والسلطة والفكر والحياة في داخل مصر، هذا النوع من الأدب السياسي يمثل رواجًا كبيرًا الآن في الحياة الأدبية في مصر وعلى مسارحها، وهذا النوع من النقد جاء طبيعيًا ومنطقيًا من خلال حياة المجتمع بعد الهزيمة بما فيه من الانحلال وتفشي الفساد وضياع القيم والحقائق، وسمحت السلطة بهذا النوع من الأدب؛ لتخفيف وطأة الكبت الذي عاشته الأمة مرحلة سابقة طويلة.
وإن كان نجيب محفوظ قد أفعم قصته بالرموز المستترة.
فإن مخرج الفيلم أوضح هذه الرموز وجعلها جلية ظاهرة واستخدم المزج السينمائي مطية سهلة له ليجعل الرموز واضحة.
فمصر هي تلك الفتاة الفلاحة الجميلة الساذجة الهادئة التي تأمل وتحيا لأجل أن تلد صبيًا يحمل عنها العبء، والعوامة بما فيها هي نموذج لدولة الحشاشين والجسر الذي يربط العوامة بالشاطئ هو طريق الضياع فكل من يعبره تنقطع صلته بالمجتمع.
والحارس هو ابن البلد المغلوب على أمره، وهو الرجل المسلم بالسليقة يصلى ويتعبد ويستغفر ربه، ولكنه لكي يحيا يشارك في قيام دولة الحشاشين.
وبطل الفيلم هو عماد حمدي «أنیس» موظف بوزارة الصحة كان له ماض في الحياة السياسية السابقة، وكان وطنيًا يشارك في المظاهرات، وكان يأمل أن يرى بلده وقد نالت ما تتمنى، وأنيس يمثل الرفض والتمرد على الواقع المزيف المريض ويهرب من الواقع إلى أحلام الحشاشين.
ورئيس دولة الحشاشين هو رجل الصحافة والإعلام، ناقد فني مشهور يمجد من يدفع له المال ويحقر من لا يدفع.
والأديب القصصي المشهور، الذي يكتب ما يريده عامة الناس من إسفاف وقصص تافهة، وحين يوجه له السؤال لماذا لا يكتب فيما يهم البلد يقول:
«وأنا مالي، أنا ماشي بجوار الحائط»
والمحامي القدير المعروف وهو المثقف الوصولي الذي يبرر جبنه وتخاذله بأن يجعل لنفسه نظرية خاصة في الحياة، فيقول فيها: «الغني يموت والفقير يموت والشريف يموت، واللص يموت فيجب أن نحيا قبل أن نموت».
والرجل العصامي وهو قائد عام دولة الحشاشين له مكاتب تجارية، وهو شريك في منظمات الحكم، وله معارف وأصدقاء في كل مكان ليسهلوا له أعماله.
واخيرًا الممثل الشاب «الضائع» الذي جعل من نفسه قدوة للشباب وأمًلا للفتيات، فهو خبيث يعرف كيف يتلاعب بالألفاظ ويجعلها وسيلة للحصول على مآربه، وهو الصديق القديم «لأنيس»، وقد قام بتقديمه لدولة الحشاشين.
ويدخل أنيس الموظف الصغير إلى هذه الدولة، وينتابه ذهول لما يشاهد من كبار رجال الدولة المعروفين، ويتحول هذا الذهول إلى سكوت دائم، فيناقش ويحاور ويجادل، ولكن من داخل نفسه، وعندما وجدوا فيه الكفاءة في القيام بأعداد الحشيش عينوه وزيرا لشئون الكيف!! يرفع على الأعناق، ويهتف باسمه وهنا يتذكر ماضيه وحمله على الأكتاف في المظاهرات الوطنية.
وتمر الأيام على دولة الحشاشين بين الخمر والحشيش والنساء والاستخفاف والاستهتار، بينما مصر خارج العوامة، وفي اللحظات التي يمارس فيها الاستهتار تتعرض للضرب والغارات والهزائم والفقر والجوع والمرض وقلة الدواء!
وفي إحدى المناسبات تخرج دولة الحشاشين إلى الخارج إلى المجتمع، ولا يجد رجالها أماكن للهو إلا اللهو على التاريخ والاستخفاف بأبطاله والسخرية من أبناء الشعب ومن ملابسهم وفكرهم، وأثناء لهوهم وأثناء قيادة السيارة يقتل الشاب «الضائع» البنت الفلاحة الساذجة، ويهربون جميعًا عائدين إلى دولتهم والحزن والهم على وجوههم، ولكن موت الضمير والفرق في الرذيلة يجعلهم يسخرون من كآبتهم ويعودون مرة أخرى إلى لهوهم وعبثهم.
وتجيء صحفية مثقفة وتستطيع الحصول على «سبق» صحفي لجريدتها عن الحشاشين.
وتحدث الثرثرة فوق النيل.
- متى تحل مشكلة الشرق الأوسط؟
- حينما نقرأ عنها في الجرائد.
- ألست رجلًا اشتراكيًا؟
- لم أملك العربة الفاخرة حتى أكون اشتراكيًا.
- لماذا لم تقفوا بجوار مصر في محنتها وتدافعوا عنها بأقلامكم؟
- لماذا لم تفعل الصحافة هذا لماذا لا تكتب عن واقع مصر؟
- لماذا تقوم بمهمة تبرير كل ما يحدث في مصر.
- لماذا لا يتكلم الأستاذ أنيس أنه دائمًا صامت.
- الرجل الذي لا يعمل لا يتكلم، وتستمر الثرثرة ولا يستجيب لها أحد إلا أنيس الذي يذهب إلى الجبهة مدن القنال التي شاهدها أنيس دمارًا، وخرابًا، وأطلالًا، وسكونًا، بينما الموت يغطي أرضها.
ولم يكن يتصور أن واقع الهزيمة هكذا ويتساءل في دهشة.
أين الناس؟ فين الناس؟
ويتذكر موت الفلاحة ويعرف أن دولة الحشاشين لم تقتل الفلاحة وإنما قتلت مصر.
ويصاب بفزع ويأخذ في الركض، ويصيح «لازم نسلم نفسنا»، «إحنا قتلنا الفلاحة لازم نسلم نفسنا»، وفي العودة بمسؤوليتهم عن موت الفلاحة.
ويذهب إلى دولة الحشاشين في حالة غضب شديد وثورة عارمة، ويعلن لهم أنيس أنهم يجب أن يسلموا أنفسهم بتهمة قتل «مصر» المرموز لها بالفلاحة، ولكنهم لم يلتفتوا إليه، ويستمروا في لهوهم، وفي خبث وغباء يقوم الممثل بعملية تبرير الجريمة ويقول: «أن ما حدث كان قضاء وقدرًا!! ولا فائدة الآن، ولم يكن من الممكن مساعدة الفلاحة؛ لأن هذا يؤدي إلى مزيد من الشجار والصراع مع أهلها، أما لماذا لم نسلم أنفسنا فلأن أكبر محامية هنا، وكان من الممكن أن تصبح هي مخطئة؛ لأنها لم تحسن عبور الطريق».
وتهدأ الصحفية بتأثير كلامه المعسول، ويصيح أنيس معنفًا إياها، ويكسر «الجوزة» وأدوات التحشيش ويخرج وهو يصرخ في الشارع «إحنا المسؤولين... لازم نسلم أنفسنا»، وينظر إلى جماهير الناس المزدحمة فيناديهم في رجاء ولوعة.
لازم نفيق.. لازم نفيق.
لازم نفيق!! ويعتبره الناس مجنونًا!!