العنوان جولة حية في عالم التيه والضياع «الحلقة الثالثة»
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 29-أبريل-1980
مشاهدات 17
نشر في العدد 478
نشر في الصفحة 22
الثلاثاء 29-أبريل-1980
حج التافهين
• مسلمون طيبون يقلدون دون وعي منهم
• حج للفساد والفوضى وحج لأعظم مؤتمر
• صور من حياة التافهين في الغرب.. وسط فوضى وضجر
استلقيت على ظهري في غرفتي في الفندق الكائن خلف شارع أكسفورد بلندن.. وفي الواقع كان يومًا طويًلا مجهدًا كالعادة.. وأخذت أتصفح الكتاب الذي يسرد تاريخ التافهين والذي كان عنوانه دالًا على ضحالة الفكر الذي عندهم. وتقلص التصور في أذهانهم.. «إن ذي جوتير».. أي كان عنوانه «في البالوعة».. فضحكت داخل نفسي وحمدت الله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.. وخرجت من فمي زفرة ألم وحسرة لا على هذا المجتمع المنهار بل على أبناء قدومي في الكويت وفي الخليج وفي السعودية وفي جميع البلدان العربية وأيضا الإسلامية حينما ترآى لي في خاطري تكالبهم على هذه المجتمعات المنحلة واتخاذها قدوة ومنارًا في تقاليدهم وفي عاداتهم وفي سلوكهم. لقد سلكوا دروب الأجنبي ذي البشرة الحمراء، وحقيبة اليد السوداء، صاحب اللكنة الأعجمية سواء الإنجليزية أو الأمريكية.. لقد رفعوا من مقامه في بلادنا وأعطوه لقب «خبير».. وما هو بخبير.. ولكن عقدة الأجنبي وذل النفوس.. وغياب الإسلام عن القلوب.
ترى أحد المقلدين يستهزئ بالإسلام والمسلمين ويترفع عن الكلام بلغته الأم: اللغة العربية، فإذا رفع سماعة التلفون قال «هالو» وإذا قابلك قال «بونجور» أو «جود مورننج»!! وإذا تأخر عليك في الموعد قال «سوري».. وهذا غير الكلمات الأجنبية التي يدخلها في كلامه غصبًا حتى يظهر إليك أنه يعرف الإنجليزية، وما دام يعرفها فإذًا هو في مستوى عال، وما يدري المسكين حينما سلك هذا الدرب، أن الناس يمقتون ويكرهون من يتحدث بلغة أهل التافهين والبواليع!!
ومع الأسف وجدت أيضًا الكثير من المسلمين الطيبين الصالحين قد بدأوا بسلوك هذا الدرب من غير وعي منهم وذلك بحكم الاحتكاك اليومي في المجتمع.
تقولون كيف؟
أقول لكم هل تتوقعون أن يقول فرد من جيل الصحابة أو جيل التابعين صباح الخير أو مساء الخير بدلاً من السلام عليكم أو يقول «ألو» إذا رفع سماعة التليفون بدلاً من نعم إذا رفعها وطرح السلام عليكم إذا كان هو البادئ في الكلام أو يقول هذا التابعي «المدام بتاعتي...الخ» بدلاً من حرمي المصون أو زوجتي!!
أقول هي كلمات كثيرة دخلت في القاموس اليومي الذي نتحدث فيه.. فلنضع أيدينا في يد بعض ولنحارب بقوة تلك الانهزامية في الألفاظ والعادات والتقاليد.
ولنرفع رؤوسنا عالية ولا نشعر بالخجل أو الحياء إذا مدت امرأة لتصافحنا فلا نصافحها أو إذا تزوج أحدنا فلم يضع في إصبعه أو إصبع زوجته الخاتم المسمى «الدبلة» ولنترفع عن عادات النصارى واليهود.
أعود مرة أخرى إلى التافهين، فبينما أقلب كتاب «في البالوعة» إذ أبصرت حادثة يصفها أحدهم «بعصبية وغضب شديد يقول: إذا أردت أن تشاهد مثلاً فرقة «من؟» الموسيقية أو غيرها من الفرق الأخرى فإنه يجب عليك الاصطفاف أيامًا في الطابور حتى يمكنك أن تشتري تذكرة دخول حفلهم الموسيقي العامر.. إنك بهذه التذكرة سوف تذهب إلى جزيرة الأعباء الثقيلة وأقول ثقيلة لأنك ستجد في مكان حفلهم- وعادة تكون في مكان فسيح واسع كملعب رياضي أو حديقة كبيرة- الطين في كل مكان ولا مستنقعات والناس يبولون على أكياس النوم وفي كل اتجاه ومكان بشكل فوضوي.
وهم في نفس الوقت يعانون من الجوع حيث الغلاء الفاحش في المواد الاستهلاكية فتصل قيمة البيضة الواحدة المطبوخة ما قيمته خمسين بنسا- وهذا يعادل ثلاثمائة فلس كويتي أو جنيه مصري- ويجد المرء هناك الصفائح المعدنية الفارغة للمشروبات المسكرة- ولا أحب ترجمتها إلى كلمة روحية لسمو هذه الكلمة في القاموس الإسلامي- وأكياس الزبالة مبعثرة بشكل فوضوي في كل مكان..
أما خشبة المسرح فهي بعيدة جدًا عن الأنظار فبالكاد يشاهد المرء المغنين فضلا عن التشويه الموجود الناتج عن كثرة السماعات فتأتي الأغنية للسامع بصورة غير مقبولة.
وبعد أن يؤدي المغنون فقرتهم يغادرون هذا المكان المزدحم بسياراتهم الفارهة من ماركة الرولز رويس البريطانية بينما نحن نضطر إلى التلويح إلى السيارات المارة بالقرب من المكان حتى نستطيع أن نصل إلى بيوتنا. أقول إننا نحن الذين دفعنا أموالنا بهذه الضخامة لشراء تذاكر حفلات المطربين كما كنا نشتري أسطواناتهم بالملايين وجعلناهم بذلك أغنياء أولئك المغنين السفلاء المنحطين!!!
عندما يحج التافهون
وقفت عند هذه الفقرة أتأمل حال المسلم وحال التافه البعيد عن الله القريب من الشيطان، المسلم ينفق ماله في سبيل الله لأداء ركن من أعظم الأركان، الحج، يلاقي نفس ما لاقى التافه الذهاب إلى مكان بعيد.. التجمع مع عدد كبير من الناس في بقعة صغيرة محدودة بالنسبة لتلك الملايين.
لكن شتان ما بين حجهم وحجنا، فإن كان حجهم للفساد وشرب المخدرات والسكرات والزنا الحرام والفوضى بكل أشكالها وصورها فإن «حجنا يتيح للمسلم أن يشهد أعظم مؤتمر سنوي إسلامي، مؤتمر لم يدع إليه ملك أو رئيس أو حكومة أو هيئة. بل دعا إليه الله العلي الكبير الذي فرض إقامته كل عام على المسلمين فهناك يجد المسلم إخوانًا له من قارات الدنيا الخمس، واختلفت أقاليمهم واختلفت ألوانهم واختلفت لغاتهم وجمعتهم رابطة الإيمان والإسلام، ينشدون نشيدًا واحدًا «لبيك اللهم لبيك».
إن هذا المؤتمر له أكثر من معنى وأكثر من إيحاء إنه يحيي في المسلم الأمل ويطرد عوامل اليأس ويبعث الهمة، ويشحذ العزم، إن التجمع يوحي دائمًا بالقوة ويوقظ الآمال الغافية.
إن هذا المؤتمر هو الفرن العالي الذي تذوب في حرارته النزعات القومية والوطنية وتختفي فيه كل الشعارات والجنسيات.. إلا شعارًا واحدًا ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (سورة الحجرات: 10)..
أقول شتان ما بيننا وبينهم.. هم يعودون من حجهم ساخطين ولاعنين ونحن نعود حامدين شاكرين، طيبة نفوسنا.. نحن نعود متعبين وهم يعودون متعبين ولكن أين لذة التعب في العبادة من التعب في المعصية؟
نحن لنا رب واحد لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.. وهم لهم أرباب كثيرة متفرقة.
﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (سورة الرعد: 16).
لقد استحوذ عليهم الشيطان وصدق وعده وقسمه أمام رب العالمين حينما قال: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾ (سورة النساء: 119).
أعد قراءة الآية السابقة مرة أخرى ثم تأمل مقولة «داني» وهو أحد التافهين: «إنك تحتاج إلى أكثر من سلسلة وقفل تضعهما بين ركبتيك، وعدة دبابيس تغرسها في شحمتي أذنيك حتى تكون من جماعة التافهين، كل هذه العبودية الخام موزعة ما بين الفوضى والضجر وغيرها ما هي إلا آلام في الأحشاء»..!!
صدق الله العظيم فيهم: ﴿وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾ (سورة النساء: 119).
أغلقت الكتاب وحمدت الله تعالى على هداية الإسلام ثم جالت في خاطري فكرة: لم لا أبحث عن أحد التافهين غدًا وأرى مستوى تفكيره عقليته: فكرة لا بأس.. أطفأت الأنوار واستلقيت على جانبي الأيمن ودعوت بدعاء النوم وما أفقت إلا على جرس الهاتف ليوقظني لصلاة الفجر.
خرجت من الفندق مع أحد التافهين وأنا أسأل نفسي أين أجد تجمعاتهم ويا ترى هل سيكلمني هذا التافه بعقل وانضباط أم بجنون وخبل؟ يا ترى ما هي تصوراته عن هذه الحياة؟ ولم سلك هذا الدرب؟
وقفت عند أحد المحلات التي تبيع الأسطوانات الصاخبة ودلفت في هذا المحل علني أجد أحد التافهين.. نعم ها هو ذاك، شعر مصبوغ بلون قرنفلي.. وأقراط في الأذن.. فتبعته وهو يترقص ويتمايل بصورة فوضوية بل و يقفز أحيانًا.. فاستوقفته وسألته: هل تبيعون هنا أسطوانات للمؤثرات الصوتية كأصوات البلابل والطيور؟
فقال بكل دلع ورقة وهو يعلك العلكة التي في فمه: نعم نبيعها.. فأرشدني إلى مكانها وقلت في نفسي إنه ليس بالتافه الذي يستحق المقابلة فاشتريت الأسطوانة وخرجت مرة أخرى إلى شارع أكسفورد أتفرس في وجوه الناس فهم يبدون كما يقول أحدهم كالشياطين.
وقع بصري على أحدهم ولكنه كان يجري بسرعة في الشارع فتبعته ولكنه اختفى عن ناظري..
دخلت أحد المطاعم لأكل وجبة الغداء.. وطلبت وجبة خفيفة.. ثم بعد أن انتهيت خرجت إلى الصخب والإزعاج حيث أصوات سيارات النقل ذات الطابقين وسيارات الأجرة.. ورائحة الديزل المنتشرة بكل مكان ثم من بعيد لمحت أحد التافهين فيه كل مواصفاتهم.. شعر قرنفلي.. وجه ملطخ بالمساحيق.. بدلة مضحكة.
إنه فريستي.. نعم إنه فريستي.. استوقفته على ناحية الشارع.. ودار بيني وبينه حديث سيكون موضوع الحلقة المقبلة إن شاء الله..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل