العنوان حروف على رقعة الشطرنج: بين الأصالة والمعاصرة
الكاتب الحبر يوسف نور الدائم
تاريخ النشر الثلاثاء 12-يوليو-1988
مشاهدات 11
نشر في العدد 874
نشر في الصفحة 50
الثلاثاء 12-يوليو-1988
من الكلمات الذائعة الكثيرة الانتشار، التي تشيع بين كتاب الصحف والمجلات مما تتناوله الأقلام، ويدور على الألسنة كلمتا «الأصالة والمعاصرة»، حتى أصبحتا أشبه ما يكون بالمصطلحات الحديثة التي يتعارف الناس عليها، وإن لم يتوافقوا على مدلولها توافقًا تامًا.
والأصالة في أصلها اللغوي، وجذرها التكويني، تعود إلى ما هو أصيل غير زائف، ولقد حاول بعضهم أن يزعم أن كلمة «أصيل» بهذا المعنى لا أصل لها، وإنما الأصيل هو ذلك الوقت الذي يجمع على آصال كما في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ (الأعراف: 205)، والزعم بأن كلمة «أصيل»- بالمعنى الذي أشرنا إليه- لا أصل لها زعم باطل، وقول مردود، يرده مثل قول أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي: «وجئت بمنطق العرب الأصيل»، وواضح أن الأصيل هنا هو الصحيح ذو الأصول الثابتة، الذي لا تشوبه شائبة من زيف أو بهرج.
فالأصالة إذن هي رجعة إلى الأصول التي عليها نعتمد، وعودة إلى المصادر الأولى التي منها نستقي، وهي بهذا من أهم الكلمات ذات المعاني الجمة، إن لم تكن الكلمات قد فقدت معناها في هذا الزمان الذي كثر فيه الناعقون الذين يهرفون بما لا يعرفون.
وأما المعاصرة فيراد بها الإشارة إلى أن من يوصف بها إنسان يواكب عصره وقضاياه، غير منقطع عن زمانه وما يعج به من مشكلات وأزمات.
ولقد يحلو لبعض الناس أن يدعي أن الأصالة والمعاصرة ضدان لا يجتمعان، وخطان لا يلتقيان، وعلى الإنسان أن يختار بين طريقين مختلفين، وسبيلين غير مؤتلفين، فإما أن يستمسك بأصالته وأصوله وجذوره وتراثه، وإما أن يضرب عن ذلك صفحًا إن أراد أن يكون إنسانا معاصرًا متحضرًا، يعيش عصر العلم والمعرفة والتقنية، أو ما يسمى «بالتكنولوجيا» التي يملؤون بها الأفواه، ويميلون بها الأشداق، وهم يحسبون أنهم قد ظفروا بطائل بمجرد ترديد الألفاظ والمصطلحات ترديد الببغاوات... وما علموا أن طريق الأصالة والمعاصرة طريق واحد، لا اختلاف فيه ولا تضارب ولا تناقض.. بل الصحيح أن المعاصرة نفسها- بمعناها الصحيح- لا تتم ولا تقف على رجل صحيحة غير شلاء، إلا إذا قامت على أساس من الأصالة متين، ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ﴾ (التوبة: 109).
إن من يريد أن ينهض نهضة حقة، ويسير في طريق التقدم والخير والنماء، لا بُدَّ له من الاعتماد على قاعدة صلبة، وأصل ثابت، ولا قاعدة ثم ولا أصل بالنسبة للمسلمين- والعرب من بينهم- إلا في الإسلام الذي منه المنطلق، وإليه المعاد، ولا يمكن أن يقف الإسلام حجر عثرة في سبيل «المعاصرة»، إلا في حالتين اثنتين: وهما أن نسيء فهم الإسلام، أو نسيء فهم المعاصرة... فمن فهم من المعاصرة أنها التبرج والتكشف واتباع الغربيين فيما يذهبون إليه من مذاهب من غير ما نظر ولا تبصر، نقول له: إن الإسلام يربأ بك أن تقلد تقليد القردة، بل يريدك إن نقلت أن تنقل نقل الناقد الحصيف، وإن اتبعت أن تتبع اتباع الحر البصير... ومن فهم من الإسلام أنه اجتهاد فقيه في عصر من العصور، وعلى الناس أن يظلوا عليه عاكفين، لا يتجاوزونه ولا يحاورونه، قلنا له: إن الإسلام أوسع من ذلك وأشمل، والحكمة ضالتك، لا يهمك من أي وعاء خرجت، والخروج من الأزمات والمشاكل والفتن لا يتم إلا عبر كتاب محكم، وسنة صحيحة، ومن أراد أن يجمع بين «الأصالة» و«المعاصرة» فإنه لن يجد ضالته إلا هناك.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
قراءة في مستقبل الأديان في العالم (3 - 3) الإسلام.. أرحام ولَّادة وأجيال يافعة
نشر في العدد 2182
35
الثلاثاء 01-أغسطس-2023