; حساب تلميذ لأستاذه! | مجلة المجتمع

العنوان حساب تلميذ لأستاذه!

الكاتب أبو هالة

تاريخ النشر الثلاثاء 03-نوفمبر-1970

مشاهدات 15

نشر في العدد 34

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 03-نوفمبر-1970

حساب تلميذ لأستاذه!

قال لي... ولدي

·       أقبل ولدي يتعثر في خطاه... يُقدم رجلًا ويؤخّر أخرى... في عينيه بريق لامع أحمر... ينم عن أفكار حائرة... تهز حبات ناظريه كبندول ساعة مختل!! يود أن يلقي بها بين يدي... هذا شأنه في كل ما يهمه ويزعجه من أمر... لكن العجيب في هذه المرة... تعثر خطواته.!! مع أنه درج على سؤالي والإفضاء إلي بكل نفسه... تجاهلت ما أرى!!

لأعطيه فرصة الإقدام في ثبات... لكنه ما إن اقترب مني حتى رأيته ما زال على حاله يشجع نفسه بالسلام والتحية. ثم ألقى بجسده على الكرسي أمامي... بادئًا الحديث بقوله:

- معذرة يا أبي إذا كان حديثي هذه المرة قد يسبب لك بعض الضيق... فأنت الذي عودتني ذلك...

·       اقتربت منه... وربت على كتفيه... أفرغ بيدي بعضًا من حنان الأبوة يمنحه طمأنينة وثباتًا... وقلت له:

- لا عليك... هات ما عندك.

قال:

أستاذ التاريخ يا أبت

أستاذ التاريخ!!

·       وانفجر الولد باكيًا...

تخنقه العبرات... حتى لم يستطيع بيان مقصده!!

فعاجلته بالاستفسار:

- أمرض هو؟! أعزيز عنده مات؟! أم نقل إلى مدرسة أخرى؟! أنا أعرف أنك تحبه... وتقدر فيه غزارة علمه ومادته التي يعكف على تدريسها لكم!!

·       لكن ولدي -من خلال التأثر المالك لكل نفسه- انتزع من أعماقه كلمات:

- ليت هذا الذي كان؟!

لقد دخلت حجرة المدرسين بمحض الصدفة... فكانت فجيعتي!! رأیت أستاذ التاريخ يدخن!! وزملاؤه جالسون معه!! مع أننا في رابعة النهار من أيام رمضان!!

ولشدة ما أصابني من الذهول... ناديته باسمه مستفسرًا: أمریض أنت يا أستاذ؟! أم على سفر إن شاء الله؟

- لكن الأستاذ المربي...

وكأني قذفته بحديدة على حين غرة!! انهال علي بصواعق من القول: كيف تتطاول على أستاذك بهذه الوقاحة؟ مالك ولهذه الأمور الشخصية؟

ما هي الفائدة من تعذيب الأجساد بالصيام؟

هل نحن رهبان هنود أم أبناء بوذا؟

إن الصيام دعوة رجعية لوقف عجلة الإنتاج والتقدم!!

إنه دعوة للخمول والكسل...

تؤدي بنا إلى التواكل والتبعية للأجانب!! إنه صحة المتعطلين والمتبطلين والوارثين إنه نداء المشاركة من الضعفاء والفقراء والمعوزين!!

-والعجيب يا والدي...

صمت زملاؤه المدرسين الحاضرين والسامعين!!

على هذا التعدي على حرمات الله!! حتى رأيتني أنصرف دون أن أنطق بكلمة واحدة...

·       وببرود اصطنعته!! وابتسامة باهتة رسمتها على شفتي... قلت له يا ولدي أولًا: لا تحزن فإن ظهور فقاقيع على سطح بحر زاخر بالإيمان تحاول التطاول باسمه... لا يعني أنها أصبحت شيئًا... إذ إنها في حقيقتها خلاصة نفايات من هواء لا بد أن يفقأ سياجها الموهوم... لتذروها الرياح فلا تكاد تلمس لها أثرًا... ولعل هذا النوع هو الذي عناه القرآن الكريم بقوله ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ (سورة الرعد: 17).

ثانيًا: أن هناك نوعية من البشر، مريضة بضعف الشخصية، مصابة بمرض الانهزامية، مبتلاه بالجبن والانفصامية... لا تستطيع مواجهة واقعها وحقيقتها أمام الناس... فتخفي ذلك بستار من الغوغائية والسفسطائية... والتطاول على الذات العلية لله سبحانه وتعالى!! سواء ذلك بسب دينه أو الاعتراض على أحكامه!! يشجعهم على ذلك جمع من المسلمين شغلوا بأنفسهم عمن سواهم!! وجمع آخر ضعيف في ذاته أو أضعفته أحداث الزمن وغير الأيام فقال: أننا لسنا بأغير من الله سبحانه وتعالى على ذاته ودينه... ووقفوا يرفعون أيديهم بالسلبية، دون عمل جاد للمواجهة أو الرد أو الإبطال لكل دعوى وزعم!! وجمع آخر من الدعاة إلى الحق... ركزوا همهم وجهدهم في المساجد وعظًا وخطابة... ويحمي هذا المنهج دولة لا تنتصر لله ولا لدينه... بأجهزة إعلامية تجعل الدين أمرًا ثانويًا في موادها أو أثرًا تاريخيًا في برامجها...

ثالثًا: مناهج تعليمية تغفل العقيدة تأسيسًا لدارسيها...أو تضعها في ثوب بال خلق... لا يعالج الأمراض الوافدة إلينا من الخارج... وتكون حينئذ ممزقة... عرضة للضياع في مهب الأعاصير...

رابعًا: حصانة من المجتمع يلف رداءها بالفجار.. ولا يمد قدرًا من ستارتها على دعاة الحق وحملته... لأن الهوى معبود الجماهير الغافلة «وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ مومنين» .

 وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «الهوى إله معبود»...

خامسًا: شعور هؤلاء المارقين بأن الحياة ما دامت تسر دون عقوبة عاجلة

مباشرة من الله لهم ولأمثالهم من الظالمين... غلف كل ضلالتهم ببهتان

وزور أنهم على الحق... جاهلين أو غافلين عند قوله تعالى ﴿وَأُمۡلِي لَهُمۡۚ إِنَّ

كَيۡدِي مَتِينٌ(سورة الأعراف: 183).

﴿أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ (سورة المؤمنون: 55-56)... وأن هذا قانون جديد خاص بأمة محمد

صلى الله عليه وسلم... كانت جدته بالرسالة الخاتمة...

·        واستأذنني ولدي ليقول: لكنه أستاذي في التاريخ...

ويفسح صدره لأسئلتنا ومناقشتنا في المادة...

ويمنحنا في حصته حرية مطلقة من أجل تأصيل بناء شخصيتنا... فلست أدري كيف ضاق صدره بي وأنا أسأله عن أسباب تدخينه في نهار رمضان؟

- قلت له يا ولدي:

أولًا: إن العلم الذي يدرسه لكم علم آثار، محفوظ کله، منقول ومكتوب، وسؤالكم فيه يدور حول التذكر والنسيان، حول إمكانية الحفظ، وحسن السرد، ودوره فيه دور جهاز تسجيل... إلا من عصم الله واستطاع أن يشدكم إلى تأصيل العبر من تاريخ الطغاة والملاحدة... ويربط بين الماضي والحاضر... ويعرض للنظم القائمة!!

مما يحرمه عليهم واضعو المناهج!! وللأسف يا بني لم يحظ التاريخ الإسلامي بالعناية اللائقة بتاريخ أمجاد وحضارة... نحن مسؤولون عنها أمام الله والناس... فالمهم أن سؤالك له في مادته حتى لو لم يتذكر جوابه لا ينقص من شخصيته ومكانته في عرف الناس أمامكم...

لكن الذي استفسرت عنه في استنكار لعله ظهر على وجهك... علم يرتبط بشخصية ومكانتها، بقوتها وضعفها، بمرضها وصحتها، بدينها وإلحادها، بذبذبتها واستقرارها، باحترامها والاشمئناط منها، بثباتها واهتزازها!! ومن ثم كان هذا الهجوم الدفاعي الذي عبر القرآن الكريم عنه في قوله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (سورة البقرة: 206).

ثانيًا: هذه الحرية المطلقة التي يمنحها لكم تخفي في حقيقتها مخططًا يرمی به ألا ينقده أحدكم كما لا ينقد هو أحدًا... كذلك أن يبلغ من نفوسكم إلا شيء مقدس... له حدود يمكن أن نمنع أنفسنا أن نتخطى سياجه وحرمه... فتضيع في نفوس الناشئة مقايس الحدود والضوابط!! ولينطلقوا بعد ذلك في جماعات «الهيبيين» مثلًا...

ثالثًا: أحب أن أطمئنك يا ولدي بأنه لو كان على الحق ما ثار واهتاج... ولما خرج عن طوره... بذاءة لسان... بل لهذا وسكن... وبآذان مفتوحة استمع... وبقلب كبير انشرح... وأكبر فيك حساب إنسان مثله... لم يبلغ مبلغ أمير المؤمنين عمر الذي لعله حفظ من التاريخ قصته مع فرد من الرعية يحاسبه عن طول ثوبه!! حتى ينتضى له من وسط الجماهير من يقول له: يا عمر والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا!! فرد الحاكم العظيم:

الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوم اعوجاج عمر بسيفه... إنه على الحق فلا يبالي... لكن هذا الأستاذ جنح بنفسه إلى منحدر رهيب من السقوط... هداه الله.

-قال ولدي: لكنني أريد أن أعرف يا والدي:

·       هل الصوم حقيقة من الأمور الشخصية؟

·       هل هو تعذيب للبشر؟!

·       هل هو يؤثر في الإنتاج كمًا وكيفًا؟!

·       وهل هو عبادة المتعطلين والرجعيين والفقراء؟!

-قلت له: إلى جلسة أخرى بإذن الله أتناول معك ما تريد وبالله التوفيق.

أبو هالة

 

الرابط المختصر :