العنوان حسن البنا في محراب التاريخ
الكاتب محمد الحسني
تاريخ النشر الثلاثاء 08-أبريل-1975
مشاهدات 11
نشر في العدد 244
نشر في الصفحة 40
الثلاثاء 08-أبريل-1975
هذا الاسم الذي دوي في بلاد العجم وعواصمها، كما دوي في القاهرة الزاهرة و دمشق الفيحاء، واعترف بلمعانه الأصدقاء والأعداء على السواء، هذا الأسم الذي كسب حامله و د الشبان والشيوخ والرجال والنساء في العالم الإسلامي كله من غير استثناء.
أجل- أيها الإمام الشهيد - قر عينًا في رحاب المولود فإن وراءك جيلًا جديدًا أنشأته على الحب في الله والبغض في الله.
جيلًا مؤمنًا مسلمًا لا يقف في أعتاب الرؤساء والوزراء و ولائم الملوك و الأمراء ولا يبالى بسخط حاكم أو سلطان في شرع ودين، ولا يخاف في الله لومة لائم.
«إنه في الصلح والسلم غزال الحمى وفى الحرب والنضال أسد الشرى،».
وهذا الجيل الجديد المثقف الواعي، القوى الأمين، الأغر الأبلج ليس إلا مأثرة من مآثرك، وثمرة من ثمرات جهادك، ونتيجة من نتائج حبك وإخلاصك.
ونحن نقدمه في هذه اللحظة الخالدة- إلى روحك الطاهرة فطب عيشًا ونم هادئًا مطمئنًا فإن زرعك قد أينع وأثمر رغم الظلم والظلام.
إنه قد طال الليل و اقترب الفجر وها هي تباشيره قد بدت في الأفق، ولو أنكر المنكرون.
إنها ضريبة الحب ندفعها إليك- أيها الإمام الشهيد- من وراء البحار راضين مسرورين، فقد ملأت القلوب إيمانًا وعرفانًا، وملأت الحركة الإسلامية حيوية و نشاطًا وحولت جسمها البارد قلبًا ثائرًا، ودمًا فائرًا، إنك أيقظت النائمين، ونبهت الغافلين والحالمين، وجعلت من أمة هامدة خامدة أمة كلها حركة ونشاط وعمل وجهاد، فإذا العالم يرى دعوة محدودة تنبعث من الإسماعيلية- تلك النقطة الحساسة المباركة في أرض النيل- ثم لا تلبث أن تغطى أشعتها العالم العربي كله والعالم الإسلامي بأسره.
وذلك كله يعود إلى شيء وحيد.
وهو اتصالك بالله، وروحك المشرقة، و قلبك العامر الكبير، وتجاربك الواسعة في مجال الدعوة، وصلتك الشخصية بالجماهير وجمعك بين الدنيا والدين وبين الشدة واللين.
إن سر نجاح الإمام الشهيد في مجال الدعوة هو السر الذي كشفه القرآن الكريم حين صور جانبًا عظيمًا من حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقال ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آل عمران:159).
وما أحوجنا اليوم إلى هذه الناحية الهامة، ما أحوجنا اليوم إلى الحلم والصفح، والغفران والحب، والعرفان بالجميل، والأخوة الندية العذبة، وأيم الله إنها الناحية الوحيدة التي فقدناها وفقدنا معها الخير كله والبركة كلها.
كان العدو اللدود والخصم العنيد يأتي حسن البنا لا يريد به إلا الشر، ولا يضمر له إلا الكيد، ثم يعود محبًا مأخوذًا بجمال إيمانه ونور وجهه و حسن سريرته.
ولا أبالغ إذا قلت: إن مصر لم تجتمع على رجل مثل ما اجتمعت على حسن البنا، ولم تحب أحدًا مثل ما أحبت حسن البنا، ولم يدم حبها لأحد مثل ما دام له، وكان حبها له طواعيًا لا دعائيًا، وتلقائيًا لا صناعيًا، حب ينبع من قرارة النفس، ولا يفرض عليها من الخارج، حب تباركه الملائكة ولا تمسه الشياطين، وتوحيه نوازع الخير لا نوازع الشر.
هذا الحب السماوي العلوي، الشفاف، الطاهر، العذب الندى كان نصيب حسن البنا منذ نعومة أظفاره، ويا له من نصيب!
والسمة الثانية التي امتاز بها الإمام هو جمعه بين جوانب مختلفة من الوعي والثقافة كأنه التقت فيه شخصيات مختلفة تمثل وجهات مختلفة وذلك كله في إطار عام واحد، إطار الدعوة والجهاد والإخلاص في القول والعمل فكان متضلعًا بالروح الدينية عارفًا بروح العصر، خبيرًا بمتطلبات الجيل وفراغ النشء الجديد، وإخفاق الحضارة المعاصرة، وكان عالمًا راسخ العلم مرشدًا روحيًا للإخوان يطلع على مكائد النفس ومزالقها، خطيبـًا ساحرًا يأخذ بمجامع القلوب ويملك عنان الكلام، مجاهدًا يبذل جهده ووقته وماله ونفسه في سبيل الله، مصلحًا اجتماعيًا يعرف الأمراض النفسية و الأدواء الخلقية والمشكلات الاجتماعية، سياسيًا محنكًا لا يساوم على مبدأ، ولا يؤخذ على غرة، ويثبت تفوقه على الأقران في هذا الميدان، كاتبًا بليغًا سهل اللفظ، غزير المعنى، حسن الديباجة لا يتكلف فيه ولا يتنمق، وكان أبًاً وأخًا وصديقًا في وقت واحد، يجد عنده كل حائر شارد اللب حل مشكلته وبلسم جرحه، وراحة فؤاده، كأنه أنشط من عقال أو فك من إسار، إسار الشهوة أو إسار الشبهة والوسوسة.
إن داعية وإمامًا هذا شأنه لا بد له أن يقود، ويبنى مجدًا، و يصنع تاريخًا، ويبتكر أسلوبًا جديدًا للدعوة يجمع بين الروحية الغيبية الصافية، والعقل المؤمن النير، والنموذج العملي الأخاذ، والسيرة العطرة المنعشة.
وهكذا كان، فقد هيأ الرجل بالتوفيق الإلهي الذى حالفه في كل وقت و بجهوده المتواصلة، ورحلاته المتوالية وأعماله الشاقة في حقل الدعوة وإشرافه الشخصي على مكاتب الإخوان وفروعهم، والاتصال العائلي الوثيق بمشكلاتهم الاقتصادية والروحية معًا، جيلًا عرف بنظره العف ويده النظيفة وقلبه السليم، وثباته على جادة الحق، و سمعه وطاعته للمرشد.
لقد بني أمة فأحسن البناء.
والسمة الثالثة: اتصاله برجال تأثر واستقى من معينهم الصافي، وقد قيد في مذكراته- كما هو المعلوم- أسماء هؤلاء الرجال وذكر اتصاله العميق بهم وأثنى عليهم إذ وجد عند القوم حلاوة الإيمان عندما تدخل بشاشة القلوب، ذلك الاتصال الذي يمنع الإنسان من السقوط في الهاوية، ويحفظه من فتن الليل والنهار، ومن وساوس الصدر، وشتات الأمر، ومن شياطين الجن والإنس ي، ومن ظاهر الحياة الدنيا وزينتها، ويثبت قدميه عند التهديد والإغراء، وفي مواقف السلطان والجاه، وفي السراء والضراء وحين البأس.
هذا السياج المنيع من الاتصال الشخصي- برجال قويت صلتهم بالله، وخلت قلوبهم من حب الدنيا، ووصلوا إلى مراتب القبول واليقين، وكأنهم رأوا الآخرة رأي العين- حفظ حسن البنا الولد والشاب والخطيب والكاتب والمصلح الاجتماعي والسياسي ومؤسس الجماعة ورائد الدعوة من أخطاء جوهرية تقع فيها بعض كبار الأذكياء وزعماء الإصلاح حين يترفعون عن الاتصال الشخصي والتربية الدينية، تأخذهم العزة بالعلم- ولا أقول العزة بالإثم- وكأنهم يقولون بلسان حالهم «أهؤلاء من الله عليهم من بيننا» بلى، وهو كذلك «أليس الله بأعلم بالشاكرين».
هذا الاتصال منح حسن البنا قوة تعلو على الأهواء والرغبات في سائر المجالات وفي جميع أدوار حياته ومواقف دعوته وبطولته، ولكنه لم يقبع في زاوية أو حجرة خالية أو صومعة هادئة بل خرج بهذا الزاد الإيماني، خرج بهذا الوقود، وبهذه الشحنة الجديدة من الإيمان إلى ميدان العمل والكفاح.
وهنا يختلف الداعية الإمام عن بعض هؤلاء من غير أن يتجنى عليهم أو يلومهم، لأنه يعرف فضلهم على نفسه ويرى أثر هذا الفضل في قلبه، ويشعر بقوة ولذة غريبتين عندما يقاوم تيار الفساد، ويصمد أمام الفتنة
والإغراء، فكيف يستهين بشأنهم وقد أخذ منهم ما أخذ وتزود منهم لغده ما تزود، وعرف عندهم لذة روحية لا تساويها لذات الدنيا بأكملها، إنها لذة الحب والإيمان، فمزجها بلذة الجهاد وتحمل الشدائد في سبيل الله وكلمة حق عند سلطان جائر.
وهي ميزة قلما توجد في رجل واحد فإما مرشد روحي لا يعرف الحياة، وإما اجتماعي عامل في حقل الدعوة لا يعرف لذة الروح.
أما الإمام فقد جمع بين الناحيتين الهامتين فأحسن الجمع.
وكان عاملًا في ذلك بالحكمة القرآنية.
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ﴾ (القصص: 77)
إن محراب التاريخ الإسلامي محراب واسع كبير.. لا ترى مثله في الحضارات البائدة ولا في الحضارات السائدة، إنه محراب لا يقف فيه إلا عظماء التاريخ الإسلامي وأفذاذهم وعباقرتهم وكبار أساتذة الدعوة إلى الله و الجهاد في سبيل الله بالقلم واللسان والمهج والأرواح.
إنه محراب عظيم متنور الأرجاء، متهلل للوجه، مشرق السمات والملامح، محراب يبدأ من خاتم النبيين سيدنا محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم...
وإني على يقين أن مقام إمامنا الشهيد مقام كبير في هذا المحراب.. لأنه حمل هذه الدعوة على أكتافه في هذا الزمن الأخير حينما ظهر الفساد في البر والبحر، وأصبح فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر.
فهنيئًا لك أيها الإمام هذا المقام الرفيع في محراب التاريخ الإسلامي.
وهنيئًا لك هذا الجيل المؤمن الذي لا يزال على عهدك وطريقك، وإن طال الليل وساد الصمت، وخيم الظلام.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل