العنوان حسن البنا والدعوة الإسلامية
الكاتب الأستاذ أنور الجندي
تاريخ النشر الثلاثاء 16-فبراير-1993
مشاهدات 10
نشر في العدد 1038
نشر في الصفحة 34
الثلاثاء 16-فبراير-1993
مقال الأسبوع
منذ خمسة وأربعين عامًا ارتفع صوت بين أصوات المصلحين والدعاة إلى تحرير أوطانهم يحمل أسلوبًا جديدًا من أساليب التربية يختلف عن الأساليب والمناهج التي يذخر بها الوطن العربي خلال هذه الفترة (عام ۱۹۲۸) حيث كانت مصر تعيش حالة من حالات المخاض الشديد بعد سقوط الخلافة قبل ذلك بسنوات أربعة وتواجه حصيلة الحرب العالمية الأولى التي كانت بمثابة عملية الإجهاز النهائي على الوحدة الإسلامية الجامعة بعد أن عاشر الغرب الأوروبي سنوات طويلة بعد مخططات العودة إلى غزو العالم الإسلامي والسيطرة عليه بعد هزيمته الساحقة في الحروب الصليبية وخروجه من العالم الإسلامي مدحورًا وانكشاف أكذوبته التي حمل بها هذه الحملات المتعصبة التي تحمل الصليب تحت عنوان تخليص بيت المقدس من سيطرة المسلمين خلال مائتي عام متوالية كانت تتوجه فيها حملة بعد حملة إلى موانئ المسلمين والعرب في الشام وفلسطين ومصر وتونس.
وفي خلال سنوات طويلة قامت فيها الدولة العثمانية جامعة شمل المسلمين والعرب حاملة لواء الخلافة مدافعة عن حدود الوطن الإسلامي من الجزائر وشرق إفريقيا إلى برزخ السويس والشام وسواحل فلسطين وسوريا ولبنان.
كان الغرب يدير المؤامرات لاقتحام عالم الإسلام مرة أخرى.
وذلك بعد أن استطاع أن يهضم علوم المسلمين التجريبية وينافسهم في نجاحات صناعات السفن والأسلحة والتعرف على الشواطئ والبحار والكواكب والطب والفلك «من كتب أحمد بن ماجد» وغيره حتى سبقوا المسلمين وتوقف الزحف الإسلامي السلمِي إلى قلب أوروبا من ناحيتين ناحية الأندلس ومن ناحية البلقان وذلك المشروع الذي كان يطمح في أن يجعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية.
ومازالت الدولة العثمانية تواجه الصعاب وتكتل القوى المسيحية الغربية والكنيسة في حلف غير مقدس حتى سيطرت إسبانيا والبرتغال ومن بعدها بريطانيا وفرنسا على هذا الوطن الإسلامي وإيقاف منهج الإسلام وحجب الشريعة الإسلامية وإقامة القانون الوضعي في كل منها وعلى رأسها الجزائر وتونس ومصر، وتوالت الخطوات حتى جاءت الحرب العالمية الأولى وقسم الغرب المسيحي هذه الأمة الجامعة الموحدة وسيطر على أجزائها وأقام لليهود رأس جسر في فلسطين «بيت المقدس» تحت اسم الوطن القومي والذي أصبح من بعد مشروع الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات.
تلك هي الصورة التي كانت في عيني الإمام حسن البنا يوم كان يخطو خطواته الأولى للدعوة إلى الله في محاولة لالتماس منهج سيدنا رسول الله في التربية كحلقة تالية لحلقات الإصلاح والتجديد التي بدأت منذ ابن تيمية، وابن عبد الوهاب، وجمال الدين، ومحمد عبده.
وقد ركز أساسًا على الشباب المسلم في محاولة لبناء العقل المسلم والقلب المسلم المتحرر من أوهام الثقافات الغربية والفلسفات المادية ومفاهيم الباطنية والشعوبية ومحررات الماسونية وبروتوكولات صهيون.
وكانت خطواته وئيدة ولكنها ثابتة، فقد كان يخوض في تيار غربي مليء بالأشواك الجارحة والحِراب القاتلة وقد استطاع الاستعمار والنفوذ الغربي أن يسيطر بقدراته السياسية والعسكرية والثقافية على كل المصادر وأن يجند عددًا من المثقفين الذين شكلهم لورد كرومر بنفسه وأمضى ربع قرن في تأهيلهم ليحملوا لواء القيادة والعمل السياسي في البلاد بعد نزوحه.
ولذلك كانت المهمة صعبة وقاسية ومعقدة ولكنها وجدت نَفْسًا مؤمنة عميقة الإيمان وقلبًا صادقًا وجوارح مهيأة لاحتمال كل المتاعب برضا واقتناع.
عملت هذه النفس المؤمنة عشرين عامًا (۱۹۲۸ -١٩٤٩) ثم أسلمت الروح واستشهدت ولكنها استطاعت أن تغرس الشجرة، وأن تعمق الأساس وأن تقيم البناء وقد جمع الله تبارك وتعالى لها خيرة الشباب المسلم الذي احتمل في سبيل دعوته كل ما وجه إليه من إغراء وتعذيب، ومن ترغيب وترهيب، صادق مخلص مضحيًّا بكل شيء في سبيل حماية الثمرة ورعاية الشجرة.
لقد أحس الإمام الشهيد في تلك الساعات الباكرة بعد سقوط الخلافة مدى الخطر الذي سوف تتعرض له الأمة الإسلامية بعد أن تمزقت الوحدة الإسلامية الجامعة بين العرب والترك وتمزيق هذا الوطن بين القوى الأجنبية وكان وعد بلفور أخطر الأحداث في مجال منتوج الحرب العالمية الأولى، هذا الذي تحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى قيام ذلك الكيان الصهيوني حيث كان البنا ورجاله قد شبُّوا عن الطوق ودخلوا المعركة على مفهوم فريضة الجهاد الإسلامي وقدموا أرواحهم خالصة في معارك فلسطين على نحو أزعج الغرب والصهيونية إزعاجًا خطيرًا مما عجل بالعمل على تدمير هذا الوجود الراسخ.
لقد أعادت الدعوة الإسلامية إلى القلوب والعقول حقيقتين أساسيتين:
أولاهما: إعادة تطبيق الشريعة الإسلامية بعد أن حجبها النفوذ الغربي وفَرَضَهُ القانون الوضعي ووضع المجتمع الإسلامي أمام تحلل اجتماعي خطير وانحراف خلقي لاحد له ليحقق ما جاء في بروتوكولات صهيون من هدف تدمير الشباب المسلم «الجوييم» أي غير اليهود وتدمير الكيان الاجتماعي والأسري المتماسك بدعوتين هما: «تحرير المرأة والحرية الجنسية» وكان ذلك كله مطابقًا للهدف الذي رسمته الماسونية والبروتوكولات، ومخطط الصهيونية العالمية في السيطرة. ثانيتهما: إحياء فريضة الجهاد الإسلامي بعد أن أخفاها النفوذ الغربي بالسيطرة على مقدَّرات الأمة الإسلامية وحكوماتها وقياداتها والعمل على خَلْقِ جو من «السلام المستسلم الخادع» عن طريق حجب الرباط في الثغور وإهمال إقامة القوة القادرة على الردع هذا الذي تحقق بسيطرة اليهود على فلسطين وتمزيق باكستان وتنكيس كل دعوات التحرر الإسلامية الأصيلة كما حدث في حرب التحرير الجزائرية وفي تنظيم فتح في فلسطين والعاشر من رمضان في مصر وما تواجهه حماس اليوم في الأرض المحتلة.
وما تزال روح حسن البنا تومض للمسلمين بالحقائق التي يرمي النفوذ الغربي إلى محوها وأهمها ضرورة استعادة فلسطين من خلال تنظيم إسلامي يقيم منهج فريضة الجهاد من ناحية والشريعة الإسلامية من ناحية أخرى.
لقد جاءت الدعوة الإسلامية كتعويض عن سقوط الخلافة بمفهوم إقامة تنظيم إسلامي يجمع المسلمين مرة أخرى في وحدة سياسية واقتصادية واجتماعية على مبادئ الإسلام والشريعة الإسلامية.
وجاء دور المراحل فأعطى الله تبارك وتعالى على يد الإمام الشهيد مرحلة البناء والتشييد، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الاضطهاد والمعاناة وكانت خيرًا للدعوة نفسها فقد فرقت رجالها ودعاتها في أطراف الأرض يبلِّغون كلمة الله تعالى إلى مواقع كثيرة.
وكشفت الكثيرين الذين ثبتوا والذين أغرتهم بعض المناصب والغايات الدنيوية الصغيرة.
وحدث في هذه الفترة شيء كثير جدير بالتسجيل والدراسة.
كان أهم ذلك مشروع تقنين الشريعة التي حمل لواءها عدد كبير من علماء المسلمين
«فقهاء ورجال اقتصاد ورجال قانون».
وقد امتد هذا من الوطن العربي إلى باكستان وإیران وأفغانستان وجاءت الصحوة الإسلامية في تركيا خطوة جديدة.
ثم فتحت في الفترة الأخير قضية بالغة الأهمية هي الجمهوريات الإسلامية الخمس «آسيا الوُسطى».
وما تزال الدعوة الإسلامية تلقي الضوء على كثير من المواقع، ومازالت في نفس الوقت تجد من غمط الحق والظلم ممن ينكر مصدر هذه الصحوة الإسلامية الكبرى التي لما تنته بعد معركتها مع العلمانية حول هذا المفهوم الذي طرحه الأستاذ البنا والذي مازال حيًّا وخصبًا.
تلك هو حقيقة: أن الإسلام دين ودولة نظام مجتمع ومنهج حياة، ومهما حاول البعض أن يصف بهذا التصور مناهج أخرى كالديمقراطية أو اللبرالية على سبيل الخداع فإن الإسلام هو وحده المتمثل في هذه الحقيقة المضيئة الساطعة.
أما الأستاذ البنا فقد اتخذ طريق السلف الصالح وبدأ من حيث بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقام عمله على التربية وكان هذا لأول مرة في العصر الحديث وعول على العامة كثيرًا وعلى الخاصة قليلًا «على عكس جمال الدين الأفغاني الذي عمل على بناء الصفوة» وانتقل إلى الناس في أماكنهم ولم ينتظرهم حتى يجيئون بل قصد إلى قراهم النائية ثم أزال العوائق بين مظاهر الأمة من سنة وشيعة ودعا إلى أن نلتقي على ما نؤمن به ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه.
واتخذ أسلوب إنشاء دور العمل: المستشفيات، المصانع، شركات المعاملات الإسلامية، وحرض تلاميذه على دراسة الشريعة ومقارنتها بالقانون الوضعي، ودراسة الاقتصاد الإسلامي والكشف عن فساد أنظمة الرِّبا واستعد مفاهيمه من فكر أهل السنة والجماعة وبعد عن الخلاف والفُرقة ودعا إلى العودة سريعًا إلى ما كان عليه سلفنا الصالح وأن نستقي العقيدة من النبع الصافي الذي لا لبس فيه ولا غموض.
ووضع في ذلك القاعدة الراسخة فقال:
سبيلنا إلى التعرف على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله ليس علم أصول الكلام في نزوعه الفلسفي ولا المصطلحات العلمية المعقدة التي تشتت الذهن وتفرق القلب ولا ذوق أصحاب الوجد في انقطاعه عن منهج العلم وإنما سبيلنا هو العلم الصالح الثابت في الكتاب والسنة الموصِّل إلى العمل الذي تتحرك به الجوارح منفعلة بوجدان قلب علم من ذات الله ربه وصفاته ما حركه بالخشية والرهبة والحب وكمال الخضوع والذل وبذلك شكَّل المدرسة القرآنية القائمة على التربية وبناء الفرد المسلم على أساس التوحيد الخالص ومفهوم الإسلام الأصيل وقد اعتبرت أن القرآن هو الأصل الأصيل للفكر الإسلامي؛ لأنه يستطيع أن يقيم الإجابة الحاسمة ويدحض الشبهة الزائفة.
(1) وفي مجال الدعوة وضع القاعدة الذهبية:
لا تُصادموا نواميس الكون فإنها غلَّابة ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد».
(۲) كذلك فقد جعل من القاعدة الأساسية للدعوة كسر خطة الانبهار بالغرب والحضارة المادية فكان الأستاذ البنا هو أول من كسر خطة الانبهار بالغرب وكشف عن زيفه وهاجم الحضارة الغربية هجومًا صريحًا في عصر كان علماء الإسلام ينظرون إليها في إعجاب وكان كتاب العصر يطالبوننا أن نقبل الحضارة الغربية لأنها وحدها التي تحررنا من نفوذ الاستعمار.
(۳) فصل في كل المعضلات التي كانت مطروحة على الساحة بإعلان موقف الإسلام من قضايا القوميات وعلاقتها بالوطنية والإسلام وقرر أن هناك ثلاث حلقات متكاملات: هي الوطن والعروبة والإسلام وحدد موقف المرأة من العمل ومن المسئولية الخاصة بالأسرة والأبناء ودعا إلى التقارب بين المذاهب والفِرق تحت لواء التوحيد الخالص وأقرَّ قاعدة الاقتصاد الإسلامي الصحيح، وإقامة الحدود وتطبيق الشريعة في تفصيل سمح كريم، وقال إن دون إقامة الحدود وقطع يد السارق تحفظات تتعلق بظروف المجتمع والمقترف نفسه ودعا إلى أداء الزكاة للفقراء كحد أدنى لما يجب أداؤه ليلبِّي حاجاتهم فإذا لم يكفِ وجب أن يؤخذ من أموال الأغنياء في كل بلد ما يكفي حاجة فقرائهم وقال إن كل تشريع لا تحميه قوة تنفيذية فهو تشريع عاطل مهما كان عادلًا رحيمًا لا يظفر من النفوس إلا بدرجة من الإعجاب لا تدفعها إلى اتباعه والنزول عن حكمه فلابد إذن من قوة تحمي التشريع وتقوم على تنفيذه وتقنع النفوس الضعيفة والمتمردة التي لا تحتمل البرهان ولا تنصاع للدليل، بإجلاله واحترامه ودعا إلى البعد عن مَواطن الخلاف ومزالق الجدل الفقهي، وقال إن الخلاف في فروع الدين ضرورة من الضرورات التي يستلزمها عمومه وشموله وبقاؤه وخلوده، والخلاف فيه رحمة وليس عيبًا في ذاته، بل هو سعة في الدين كل هذا أعطى الدعوة الإسلامية التي حمل لواءها الإمام حسن البنا قوة ذاتية ما تزال مستمرة، تتخطى العقبات وتتجاوز الأحداث ، وقد دخلت أخيرًا في مرحلة الصحوة الإسلامية التي تبشر بقرب تنفيذها وإقامة المجتمع الإسلامي الأصيل.
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل