الجمعة 18-أغسطس-1978
سلسلة من كتب التاريخ الإسلامي تقدم حياة الصحابة الذين عاشوا حياتهم حول النبي عليه السلام، وتعلموا منه كيف تكون حياتهم كلها لله تعالى. أخذت كتابًا من تلك الكتب وهو كتاب بلال بن رباح، وهو الكتاب الذي كنت أقرأ فيه وأعرضه على القارئ في الأسبوعيين الماضيين وفي لحظات كنت قد استغرقت في القراءة وتوغلت بين الصفحات ورأيت شخصية بلال العظيمة كما رأيتها من قبل، وهي تتمثل لي، وتبدأ في حوارها معي، وكأني أرى صاحبها رأي العين، وأكلمه وأسمعه. قلت له:
- توقفنا في الأسبوع الماضي عند غزوة بدر... وقد وقعت هذه الغزوة في شهر رمضان... وكان النصر فيها للإسلام... وهي أول غزوة بين الحق والباطل. ألا تحدثني يا بلال عما حدث بينك وبين أمية بن خلف؟ سيدك القديم الذي سلط عليك ألوان التعذيب بلا رحمة أو شفقة، وأراد أن يردك عن اتباع النبي عليه السلام، إلى دين قريش... ولكنك كنت صلبًا... قويًا... فضربت المثل الأعلى في الصبر والجلد... وكنت المؤمن النقي... وتحملت القسوة حتى اشتراك أبو بكر الصديق وأعتقك وأنقذك من العبودية والتعذيب.
قال بلال بصوت هادئ عميق:
- في أرض المعركة تذكرت أمية بن خلف وما فعله بي عندما عرف بإسلامي... فأخذت أبحث عنه، ولكني لم أره. وأقسمت أن أقتله إن رأيته... ودب الذعر في قلوب الذين كفروا بعد أن وضح لهم أنهم خسروا المعركة واستدار بعضهم يولي الفرار والعدو نحو مكة قبل أن يقتل أو يقع في الأسر ولم يستطع البعض أن يفر وسقط أسيرًا. وتشاء الأقدار أن يسقط أمية بن خلف في الأسر مع ابنه... وأخذهما عبد الرحمن بن عوف قاصدًا رسول الله... ولمحت أمية فانتفضت ونهضت وأسرعت نحوه وصحت: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا... ورفعت سيفي لأقتله فمنعني عبد الرحمن بن عوف وقال لي:
- دع أسيري.
ولكني درت حول أمية بن خلف أريد قتله وصحت بأعلى صوتي وأسرع قوم من الأنصار والتفوا حول أمية ثم ضرب رجل منهم ابن أمية فقتله فصاح أمية ولدي... ولدي فقال له عبد الرحمن بن عوف انج بنفسك فوالله ما أغنى عنك شيئًا.
فأسرع أمية هاربًا... وأسرع بلال خلفه حتى لحق به، ثم رفع سيفه إلى أعلى وأهوى به على رأسه فشقها نصفين، ووقع أمية على الأرض فاقد الحياة.
نظر بلال إلى جثة أمية وقال:
- ما أضعفك الآن يا أمية!
وجاء عبد الرحمن بن عوف وقال:
- فجعتني في أسيري يا بلال...
قال له بلال:
- عوضك الله يا عبد الرحمن خيرًا.
وهكذا انتهت حياة أمية بن خلف في معركة بدر وانتهت معه قوته الغاشمة وانصرف المسلمون بعد هزيمة قريش عائدين إلى المدينة حاملين الغنائم والأسلاب. وكانت المرة الأولى التي يجمعون فيها، ولذلك احتاروا كيف يقسمونها وكيف يوزعونها حتى جاء حكم الله.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (الأنفال: 41).
قسم رسول الله الغنائم وأخرج الخمس لنفسه كما أمر الله، ثم نادى على بلال ودفعه إليه، فأصبح بلال خازن الرسول الأمين.
قلت لبلال:
- هذه ثقة في أمانتك وقدرتك على تحمل الأعباء.
كان رسول الله إذا جاءه فقير أو محتاج أرسله إلى بلال ليطعمه ويكسوه. ودخل رسول الله ذات يوم على بلال فوجد عنده صرة من تمر فقال له:
- ما هذا يا بلال؟
قال بلال:
- ادخرته لك ولأضيافك يا رسول الله.
قال الرسول عليه السلام:
- أما تخشى أن يكون له بخار في النار -أنفق بلال- ولا تخشى من ذي العرش إقلالًا.
وبعد فتح مكة، طاف الرسول بالبيت سبعًا، ودخل في جوف الكعبة ولم يدخل معه إلا بلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة، ثم صلى النبي ركعتين، وأمر الرسول أن يصعد بلال إلى الكعبة ليؤذن للناس فاعتلى بلال ظهر الكعبة، ورآه الذين أشركوا فتعجبوا غاية العجب... وراحوا يتساءلون: ما يفعل هذا العبد؟ وكيف جرأ على اعتلاء البيت الحرام الذي لم يصعد إليه أحد من قبل.
وصاح بلال يؤذن، وارتفع أول أذان للمسلمين من فوق الكعبة، فرجفت مكة رجفًا، وانساب صوت بلال بين ربوع مكة عذبًا قويًا، وقال رجل من قريش يأكل الغيظ قلبه:
ما لهذا الغراب ينعق على ظهر الكعبة، وقرع صوت بلال النقي القوي آذان عظماء قريش وسادتها، ونظروا إليه بحقد ولم يستطع أحد أن يضربه بسوط أو يصيبه بأذى، فقد أصبح بلال الذي كان عبدًا بالأمس، سيدًا اليوم، وقد أكرمه الله بالصعود فوق الكعبة وبأن يكون المؤذن فوقها، أما أهل قريش فهم أسرى في قبضة الرسول حتى أطلق سراحهم وعفا عنهم. وهكذا تم وعد الله:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: 55).
قلت لبلال بن رباح:
- هل تزوجت يا بلال؟
- نعم تزوجت... ذهبت إلى آل هند وقلت لهم:
أنا بلال بن رباح، صاحب رسول الله، عبد من الحبشة كنت ضالًا فهداني الله، وكنت عبدًا فأعتقني الله، إن تنكحوني فالحمد لله، وإن تمنعوني فالله أكبر.
فقالوا:
- أمهلنا حتى نسأل رسول الله.
وجاءوا إلى الرسول الكريم وسألوه فقال:
- أين أنتم من بلال؟ أين أنتم من رجل من أهل الجنة؟
فسر آل هند من حب رسول الله لبلال وزوجوه هندًا، وعاش بلال سعيدًا أن وفقه الله لإتمام دينه. وصحب بلال رسول الله حياته كلها فكان يحارب معه في أيام الحرب، ويقضي أيام السلم في العبادة والصلاة، ولما مات النبي، دخل عليه بلال وهو مسجى على فراشه فسال الدمع من عينيه، وصلى عليه ثم خرج إلى بيته حزينًا كئيبًا. كان بلال يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا عظيمًا يفوق حبه لنفسه وزوجه. ولقد علم فيما بعد أن رسول الله هو الذي أوصى أبا بكر أنا يشتريه وطلب منه أن يقاسمه في دفع ثمنه.
وظل بلال طوال الليل ساهرًا حتى أوشك الفجر على الطلوع، فخرج إلى المسجد ليؤذن لصلاة الفجر، وارتفع صوته رغم حزنه وألمه بعد فراق الرسول. وحين جاء وقت الظهر خرج بلال المسجد، ثم انتحى له ناحية جلس فيها معتزلًا الناس، وانتظر المسلمون صوت بلال ولكنه لم يؤذن، وبحثوا عنه فوجدوه في مكانه الذي اعتزل فيه، فصاح به رجل:
- الأذان يا بلال!
قال بلال بصوت الألم:
- لن أؤذن بعد اليوم، فليؤذن غيري.
وأتى أبو بكر وسأله عن الأذان وأخبره بلال أنه لن يؤذن بعد رسول الله أبدًا وقال لأبي بكر:
- إن كنت إنما أعتقتني لأكون معك فسبيل ذلك، وإن كنت أعتقتني له فخلني وما أعتقتني له.
فقال أبو بكر:
- ما أعتقتك إلا لله.
وهكذا أبى بلال أن يؤذن لأحد بعد رسول الله، وفي عهد عمر بن الخطاب، وبعد انتصار المسلمين وحصارهم لبيت المقدس، ومجيء عمر لاستلام المدينة، طلب الناس من عمر أن يأمر بلالًا بالأذان فقام بلال وارتفع صوته لأول مرة بعد موت رسول الله فأهاج الشجون وأعاد الذكريات حتى بكى كثير من الصحابة وعلى رأسهم عمر، ولما قضيت الصلاة ذهب عمر وتسلم مفاتيح بيت المقدس، ومرت الأيام، وفي سنة عشرين من الهجرة مرض بلال ورقد في فراشه وسألته زوجته تواسيه:
- كيف حالك يا بلال؟
- دنا الفراق.
- وا حزناه... وا حزناه.
ففتح عينيه وقال:
- بل وا فرحتاه... غدًا نلقى الأحبة... محمدًا وصحبه... ثم أغمض عينيه إلى الأبد.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلوثيقة «الدليل المنير».. وعلاقتها بانتشار الإسلام في الأندلس
نشر في العدد 2122
37
الأربعاء 01-أغسطس-2018
عندما يتم استخدام الدراما لتزييف التاريخ.. مسلسل «رسالة الإمام» نموذجاً!
نشر في العدد 2179
31
الاثنين 01-مايو-2023