العنوان حول الذكرى المئوية للإمام الشهيد حسن البنا
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر السبت 25-نوفمبر-2006
مشاهدات 20
نشر في العدد 1728
نشر في الصفحة 37
السبت 25-نوفمبر-2006
هل يتصور أن يحتار أحد في التفريق بين النمر والذبابة أو التمييز بينهما، وهل ممكن أن يتشابها ويتشاكل الأمر؟!
وحتى لا يظن القارئ أن الأسماء قد تغيرت وتبدلت أذكره بتعريف كل منهما.
فالنمر: من الحيوانات المفترسة يمتاز بالشجاعة والقوة والسطوة.
والذبابة: حشرة صغيرة من ذوات الجناحين تتغذى على الأوساخ, وتنقل الجراثيم والأمراض.
وهذه الحقيقة.. يحتار كثير في التفريق بين النمر والذبابة، فكيف حدث هذا وكيف وقع؟ لا بد أن هناك فسادًا في التصور، وفسادًا في الرؤية، وخطأ في الفهم والتخيل، أدى إلى هذا الخلط المؤسف والمحير.. وليس هذا المثل وحده مقياس ذلك الخلط وهذه الحيرة، فهناك أسئلة كثيرة يهوى إليها هذا التصور المختل وهذا المقياس العجيب, فقد لا يفرق الإنسان بين الخير والشر، بل قد يؤثر الشر على الخير، وقد يستطيع أن يفرق بين الجبن والشجاعة وبين الجد والضياع، وبين النصر والهزيمة للأسباب نفسها وللتصور نفسه.
والحقائق دائمًا لا تتأثر بهذه الأباطيل والأكاذيب، وإنما المتأثرون هم من يصدقونها ويعيشون على وهمها وسرابها، وقد حدثنا القرآن -ومازال- عن هذا الصنف, فقال: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ﴾ (يونس: 36) وكان القرآن عمليًّا معهم ومع المؤمنين، حيث أبان طريقهم الخاطئ، وأنار للمؤمنين طريقهم الذي يجب أن يكون, فقال: ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓـُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ (41) وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يَعۡقِلُونَ (42) وَمِنۡهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تَهۡدِي ٱلۡعُمۡيَ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يُبۡصِرُونَ (43) إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَيۡـٔٗا وَلَٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾ (يونس: 41: 44)
يتكلم القرآن عن فساد التصور والأفهام وشرود الظنون التي أودت بالناس وأهلكتهم حتى أصبح الحس مختلفًا، والبصيرة والبصر متغيرًا وفاسدًا، لا يفرق مثلًا بين الدجال والرسول، ولا بين الخالق والصنم، وما زالت صور الاعتقاد الجاهلي شاخصة، يحدثنا القرآن عنها وعن أصنامها وشخوصها، وضلال القوم بها، في وسط هذا الفساد في التصور، والعماية من البصيرة، فيقول بعد أن عرض لأصنامهم: ﴿إِنۡ هِيَ إِلَّآ أَسۡمَآءٞ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهۡوَى ٱلۡأَنفُسُۖ وَلَقَدۡ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلۡهُدَىٰٓ ﴾ (النجم: 23). ثم يقول: ﴿وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡـٔٗا (28) فَأَعۡرِضۡ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكۡرِنَا وَلَمۡ يُرِدۡ إِلَّا ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (29) ذَٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِۚ ﴾ (النجم: 28: 29).
وفي هذه الأيام تحل علينا مئوية الشيخ البنا الرجل العملاق مجدد القرن العشرين بغير منازع, صاحب الفهم العميق والتصور المحيط والإدراك الشامل لحقائق الإسلام وأحكامه، والداعية صاحب البيان الرائع والبلاغة الآسرة واللفظ الساحر والحكمة العميقة، والتنظيم الدقيق، والصفات الكثيرة المتنوعة التي يستحيل أن توجد في رجل أو تجمع في إنسان. ومع هذا عاش الرجل يجالد الفساد في التصور والانحراف في الفهم، والصراع للأباطيل؛ عسى أن يهدي الله الضال ويصلح الفاسد، ويبصر الأعمى، ولكن الفساد كان عميقًا والظلام داجيًا بحيث إذا أخرج الإنسان يده لم يكد يراها، والكيد إبليسيًّا وشيطانيًّا، شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض، ولكن الرجل صارعهم فصرعهم ونازلهم فهزمهم، فما وجدوا إلا لغة الخسة والوضاعة والخيانة، وهي الاعتداء على حياته وإزهاق روحه وتفريق دمه بين الحساد والشانئين. وقد كان وقتل الرجل وظن الأعداء أن العمى سيزداد والبصيرة سترتكس أكثر فأكثر، ولكن المرضى قد كرهوا العلة بعد صراع طويل مع الآلام، وجهاد مرير مع الفساد في التصور، فهم يبحثون عن المنقذ، وتذكروا هذا الجرم الناسف، والخسارة التي لا تعوض فكانت الصحوة مصحوبة بالحسرة، والإفاقة مقترنة بالندامة، وستين سنة، وقد رأيت هذه الحسرة على الرجل العظيم تتمثل في احتفالات بذكراه من أتباعه، ورأيت في الأردن الحبيب الاحتفال المئوي الذي ذكر الجميع بالخسارة العظمي، وقد خفف من هول المصاب وجود شباب مؤمن, تبع دعوة الرجل, وسار على نهجه بقوة وإيمان وبلاغة وعرفان, يلقون الكلمات والأشعار التي تمجد الذكرى, ومن هؤلاء المهندس أيمن محتوم الذي قال:
قد جئت یا «حسن البنا» على قدر
فكنت أحسن في البانين بنيانا
وجئت جنح الدجى بدرًا قد اكتملت
أنواره وأضاءت ليل دنيانا
ويا فتى علّم الدنيا بحكمته
وظل في شأنه التاريخ هيمانا
يا سيدي يا مجير الشرق من فتن
وحاملا راية التحرير طعانا
قتلت يا «حسن البنا» بمن قتلوا
«القسام» قبل و «ياسينا» و «عدنانا»
ظلت دماؤك تجري وهي نازفة إلى
«علي» ووافت جرح «عثمانا»
ناديت يا «حسن البنا» أتتركنا على
الهجير نسام الخسف يتمـانا
نحن نجرع كأس الذل مترعة
وأنت ترحل في صمت وتنسانا
ولا دليل سوى لمع السراب على
وجه الصحارى وموجا من بلايانا
يا باعث النهضة الكبرى وموقظها
ومجري الماء سحاحا وهتانا
ومنقذ الجيل من ضعف ألم به
فعادت أصلب بنيانا وأركانا
أحييت كل موات في ضمائرنا
لما صنعت من الإنسان إنسانا
والله يا «حسن البنا» وفي دمنا
دين سنقضيه عرفانا وشكرانا
المسلمون بخير سيدي فهم باقون
ما بقى التاريخ «إخوانا»
وسيظل الإمام مجدد القرن العشرين حيًّا في ضمائر المصلحين والعاملين لنهضة الشرق.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل