العنوان خرافة التوالد الذاتي!
الكاتب قيس القرطاس
تاريخ النشر الثلاثاء 14-سبتمبر-1971
مشاهدات 17
نشر في العدد 77
نشر في الصفحة 20
الثلاثاء 14-سبتمبر-1971
خرافة التوالد... الذاتي
بقَلم: الأستاذ قيس القرطاس
أوروبا كانت -إلى عهد قريب- تعتقد أن البعوض ينتج من المياه الراكدة والضفادع من الطين والفئران من الملابس القديمة ونحل العسل من جثة الثور
لقد حجبت الأهواء الحقائق؛ فكانت ستارا منع ظهورها.
فلقد سيطرت العقلية المادية على أوروبا؛ فروجت لنظريات باطلة، وزودتها بإسنادات وركائز مفتعلة باسم العلم. قد لا يستغرب الإنسان إذا علم أن الفراعنة القدماء كانوا يعتقدون أن نحل العسل يتولد من جثة الثور، لأن عهدهم كان يسوده الخرافات، ولكنه سيستغرب حتمًا إذا علم أن بعض العلماء الذين يعتبرون من أساطين العلم الحديث يدافعون عن التوالد الذاتي، ويرونه من النظريات الجديرة بالمناقشة.
وذلك بالرغم ما يراه البعض من أنه ما إن حان الوقت الذي ولد فيه داروين؛ حتى أصبح التوالد الذاتي من النظريات غير الجديرة بالاحترام. إلا أن الواقع خلاف ذلك، لأن نظرية التطور قد بعثت نظرية التوالد الذاتي من جديد، وإذا كان داروين قد لزم الصمت تجاه التوالد الذاتي، أو وقف موقفًا متميعًا منه، فإن توماس هكسلي وأرنست هيغل قد وقفا موقفًا صريحًا وواضحًا، وجمعا بين الاعتقاد بالنظريتين معًا، وإذا كان البعض من أنصار التطور يهاجمون التوالد الذاتي؛ فذلك يعتبر مجرد خطة أو مناورة أو محافظة على هيبتهم في الوسط العلمي.
إن المرء ليستغرب حتمًا أن يكون في عصر التنوير اعتقاد سائد منحاه، أن شعرة الحصان يمكن أن تتحول إلى أفعى إذا وضعت في الماء، أو أن الماء إذا ركد فإنه يولد البعوض أو يوجده من العدم، أو أن الطين يخلق الضفادع والسلاحف، وأن الملابس القديمة بإمكانك أن تحولها إلى فئران، وأن الثور إذا مات فإن جثته تتحول إلى نحل، وبذلك يمكنك أن تنتج العسل بكميات كبيرة إذا كان لديك عدد لا بأس به من الثيران الميتة.
تجربة غريبة:
لا تستغرب يا عزيزي القارئ.. فإن ما أسرده عليك من وحي الخيال، وليس هو من أقاصيص العجائز، ولم يذكر في كتب الأساطير والخرافات؛ وإنما هو مذكور في مرجع من مراجع التاريخ الطبيعي في أوروبا قبل أربعمائة عام. وقد يلتمس البعض عذرًا للأوروبيين، لأن ذلك قد ورد في المرجع المذكور قبل زمن طويل نسبيًا، إلا أن ذلك غير وارد؛ لأن تأیید بعض كبار العلماء الذين عاشوا إلى بداية القرن الحالي لنظرية التوالد الذاتي يجعل لهذه التجربة صيتها ومكانتها.
إن التجربة توضح كيفية إنتاج نحل العسل من جثة الثور. ويعد لهذا الغرض أولًا بيت صغير يبلغ ارتفاعه خمسة عشر قدمًا، وطوله خمسة عشر قدمًا، وعرضه خمسة عشر قدمًا، وله باب واحد وأربع نوافذ واحدة في كل حائط، ثم يقتاد إلى هذا البيت ثور عمره عامان، حيث يقوم شخصان أو ثلاثة يتسمون بالشراسة بضربه بالعصي؛ حتى يموت بدون أن يسبب له ذلك نزيفًا في الدم.
وبعد ذلك تسد كل فتحات الثور الخارجية بقماش ناعم من الكتان المغموس بالقطران، ثم يسكب بعض العسل على الأرض حول الحيوان، ويقلب الثور بحيث يكون وجهه إلى الأعلى، وبعد ذلك يغلق البيت لمدة ثلاثة أسابيع، ثم تفتح الأبواب والنوافذ بعد هذه المدة ساعات قليلة وتغلق بعد ذلك، وبعد أحد عشر يومًا يعاد فتح البيت فنجده قد امتلأ بأسراب هائلة من النحل.
وأغلب الظن.. أن هناك طرقًا مفصلة لإنتاج حيوانات أخرى، إذ أن بعض الكتابات الأوروبية تضمنت وصفًا لطريقة تكون الفئران؛ فإذا وضُعت بعض الخرق البالية وقليل من حبوب القمح في جرة ورشُت بقليل من الماء ظهرت فئران بالغة بعد أيام قلائل، وفي بعض الروايات.. إنه يجب استعمال البول بدلًا من الماء.
فرانشيسكو دي ريدي يسدد طعنة قوية إلى التوالد الذاتي:
كان ريدي عالمًا بيولوجيًا عاش وعمل في فلورنسة في القرن السابع عشر للميلاد، استولت على اهتمامه نظرية التوالد الذاتي، ولاحظ أنه لو قتل ثعبانًا كبيرًا وتركه في العراء؛ فسرعان ما تظهر دیدان تلتهم الثعبان، فاقتنص ريدي بعضًا من هذه الديدان البالغة ووضعها في أقفاص مغلفة بالشاش، وبعد حوالي أسبوع تحولت إلى ذباب اللحم، ثم أعد ريدي أنواعًا مختلفة من لحوم الثيران، والغزلان، والنمور، والكلاب والفراخ، والعصافير، وأنواعًا من السمك، وراقب ريدي ما يحدث حول هذه اللحوم المختلفة وتكاثر الديدان حولها. وعندما اكتمل نمو الديدان.. وضعها في أقفاص؛ فتحولت إلى ذبابات من نفس النوع الذي حصل عليه من الثعابين الميتة، ولو كان صحيحًا أن الديدان تولدت من اللحم المتعفن، لاختلفت أنواعها باختلاف نوع اللحم. واستمر ريدي في إجراء تجاربه، فوضع قطعًا من اللحم في قبابات من الزجاج وختمها؛ حتى لا يدخل إليها الذباب ووضع قطع اللحم الأخرى في قبابات مفتوحة، فشوهد الذباب حول القبابات المكشوفة، أما المختومة فلم يوجد للذباب أي أثر.
اعتراض أنصار التوالد الذاتي:
وقد تكون أمثال هذه التجارب كفيلة بإسكات أنصار التوالد الذاتي؛ إلا أنهم لم يستسلموا للهزيمة بسهولة، فاعترضوا على تجربة ريدي بقولهم: إن ريدي عندما ختـم القبابات فإنه قد منع الهواء من أن يدور فيها، وأن حبس الهواء بهذه الطريقة هو الذي سبب عدم تولد الدود، إلا أن ريدي لم ييأس؛ فأعاد إجراء تجاربه بوضع غلالات رقيقة فوق القبابات حتى يتمكن الهواء من أن يدخل ويدور فيها، وكانت النتائج واحدة لم تتغير، فلم يتكون الذباب حول القبابات المغطاة بالورق الرفيع. ويقول ريدي تعليقًا على هذه التجارب: «قد رأيت أنسالًا كثيرة من ذباب صغير أسود، ورأیت أن اللحم الفاسد مغطى لا بالدود وحده، ولكن ببيض كذلك، ومن هذا البيض تفقس الذباب. وهذا البيض جعلني أفكر فيما أسقطه الذباب على اللحم ذلك الذي صار بعد ذلك دودًا. وهذه حقيقة مذكورة في قاموس أكاديمتنا، أكاديمية شيمنتو، وهي حقيقة معروفة كل العرفان عند الصيادين والجزارين، وهم من أجل ذلك يغطون لحومهم في أشهر الصيف الحارة بقماشٍ أبيض». ولكن هل من المعقول أن يكون الصيادون والجزارون الذين عناهم ريدي أذكى من العلماء الفطاحل الذين وقفوا بوجه ريدي؟ أم أن الأمر أعمق من ذلك؟، إذ أن الموضوع في حقیقته صراع بين المذهب المادي والمذهب الحيوي.
ريدي يقرر:
ثم وضع ريدي تقريره الحاسم الذي ضمنه خلاصة النتائج التي انتهى إليها، وقد جاء فيه ما يلي: «على الرغم من إنني أرحب بأن يصحح آرائي ممن هم أحكم مني لو صدرت عني أحكام باطلة، فإنني أود أن أعرب عن اعتقادي بأن الأرض بعد أن أنتجت النباتات والحيوانات الأولى في البداية بأمر الخالق العلي ذلك القدير، لم تنتج من ذلك الحين أي نوع من النباتات، أو الحيوانات الكاملة أو الناقصة، وأن كل شيء عرفنا في الماضي أو في الحاضر أنها انتجته، لم يأت إلا من البذور الحقيقية للنباتات والحيوانات ذاتها، التي تقوم على هذا النحو بوسائلها الخاصة بحفظ أنواعها.
وهكذا اتضح أن حشرات العفص لا تتولد من الأورام النباتية، وأن الضفادع لا تتولد من الطين، وأن البراغيث لا تظهر تلقائيًا من القذارة، فالحياة لا تأتي إلا من حياة سابقة؛ أي التوالد الحيوي. ولكن أنصار التوالد الذاتي لم يستسلموا للهزيمة، وكل ما في الأمر ينسحبون من موقع إلى موقع؛ إلى أن دمر وليم باستير كافة حصونهم، وقنعوا أخيرًا بالاكتفاء بتأييد نظرية التطور فقط.
حل المشكل:
وتحاول النظرية السوفياتية أن تحدد موقفها من التوالد الذاتي، وهي لا تستطيع أن تؤيدها؛ لأنها انهارت علميًا، ولأنها تمثل العلم البرجوازي، ولكنها تريد في الوقت نفسه الابتعاد عن المذهب الحيوي، والاقتراب من المادية التي تعتبر التوالد الذاتي ركـيزة من ركائزها، فكيف السبيل إلى حل هذا الإشكال؟ لعل في المادية الديالكتيكية الجواب الشافي، فهي حلالة المشاكل.
يقول ا. ب كاروزينا بعد أن أوضح عدم إمكانية حصول الذاتي: «وقد نشأت الحياة على سطح الأرض وفقًا للمادية الديالكتيكية، نتيجة للتطور التاريخي والتغير المستمر للمواد غير العضوية؛ أي أن ظهور الحياة كان ضروريًا في فترة معينة من تطور الأرض» ولكن هل تستطيع المادية الديالكتيكية أن تكون الحياة بعد أن عجز التوالد الذاتي عن تكوينها؟ وما هي المادية الديالكتيكية؟ أم أن الأمر إبدال أسماء فقط مع إبقاء الجولة للمذهب المادي؟ فهل هذا هو إخلاص للعلم إذن؟
لماذا لم تنتشر هذه النظرية في ظل الحضارة الإسلامية:
وقد يتساءل المرء.. من هو المسئول عن الجهود التي صرفت لإثبات نظرية باطلة كهذه النظرية، التي عطّلت مسيرة العلم طيلة أكثر من أربعة قرون، وذلك كله بسبب أهواء حاولت عبثًا أن تثبت أن الثعابين غير السامة تتكون في الأماكن الرطبة من شعر النساء، وأن الثعابين السامة تتكون من الأعمدة الفقرية للجثث، وأن هناك أشجارًا للأوز والنعاج فعندما تقع ثمارها على الأرض تتحول إلى أوز ونعاج، ولكن هناك حضارة في النصف الثاني من المعمورة نمت وترعرعت في ظلها العلوم بجميع أنواعها، ولم يكن لهذه النظرية الغريبة أي أثر فما هو السر؟ السر أن هذه الحضارة لا تصرف جهودها عبثًا، ولا تحاول أن تدس السم بالعسل. حضارة تحترم العقل ولا تحاول أن تستخف به، حضارة لا تشوه رسالة العلم ولا تستغله، ولا تفسد جوه النظيف بدس الخرافات فيه. حضارة تصون الطاقة العلمية من التبدد، وتحمي الطاقة العقلية من التمزق. حضارة تمنع الإنسان من الانزلاق إلى طريق مسدود لا يؤدي إلى تقدم العلم بل إلى تأخره، ومن أجل ذلك كله لم يكن لهذه النظرية أي ذكر في ظل الحضارة الاسلامية التي لم تدع ما علمًا إلا واحتضنته.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالقيم العلمية والأخلاقية في الحضارة الإسلامية.. الدين والحياة وجهان لعملة واحدة
نشر في العدد 1811
42
السبت 19-يوليو-2008
معالم الإصلاح والتجديد في تجربة نور الدين زنكي (2) بناء دولة العقيدة على أصول أهل السُّنة
نشر في العدد 2180
38
الخميس 01-يونيو-2023