; رثاء الشهداء في الشعر الإسلامي المعاصر | مجلة المجتمع

العنوان رثاء الشهداء في الشعر الإسلامي المعاصر

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 10-يوليو-1979

مشاهدات 16

نشر في العدد 453

نشر في الصفحة 40

الثلاثاء 10-يوليو-1979

قدمت الحركة الإسلامية المعاصرة مجموعات من الشهداء على طريق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وهؤلاء الشهداء دليل واضح على إخلاص الحركة الإسلامية لمبادئها، وهم في الوقت نفسه معالم هادية ركزتها الحركة الإسلامية في طريق جهادها المستمر من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى في تحقيق المحاكمية لله وحده في المجتمعات الإسلامية بخاصة وفي العالم بأجمعه بصورة عامة.

واستطاع الناس في عالمنا العربي أن يسمعوا بأسماء بعض هؤلاء الشهداء، وكثير من شهدائنا الأبرار ذهبوا إلى ربهم أتقياء أخفياء لا يعلمهم الناس، والكثير الكثير من شهداء الحركة الإسلامية في أقطار العالم لا يعلم عنها الناس في عالمنا العربي لانقطاع ما بين الأقطار العربية والأقطار الإسلامية من صلات، ولإصرار العالم على إخفاء جهاد رجالات الإسلام حتى لا يكونوا قدوة لغيرهم من المسلمين، وحتى لا يكونوا مجال فخر واعتزاز لدى الشباب المسلم المتحفز أبدًا للجهاد في سبيل الله.

ونشط الشعر الإسلامي في تخليد مواقف الشهداء وفي تسجيل بطولاتهم وفي الإشادة بتجردهم لله وحده، وقد كان لأجواء القهر التي عاشتها الحركة الإسلامية أثرها على اتجاه الشعر الإسلامي لإخفاء أسماء الشهداء وللجوء إلى الرثاء العام، وإلى ابتداع صور شتى للرثاء تعبر عن قسوة ما يلقاه الدعاة إلى الله حتى في استشهادهم وانتقالهم إلى الرفيق الأعلى، فكم من شهيد دفن دون أن يعلم به أحد من الناس، وكم من شهيد دفن بحراسة الذئاب البشرية، ومنع من الاقتراب من جثمانه حتى أهله، وكم من بريء أودع السجن، وَسِيمَ الخسف والنكال لمجرد ترحمه على شهيد من شهداء الإسلام!

وكان للأجواء التي أحاطت باستشهاد أبطال الإسلام تأثيرها على إبداع الشعراء في فن الرثاء، فكان أن سجل الشعر الإسلامي المعاصر آيات من الإبداع الفني وروائع من الفن الشعري، ستبقى خالدة في سجل البيان ما تعاقب الليل والنهار.

من هذه القصائد الخالدة تلك اللوحة الإنسانية الفذة التي قدمها الشاعر المسلم هاشم الرفاعي مصورًا فيها حدثًا متكررًا لرجالات الإسلام المجاهدين، فهم أبدًا ينتظرون تنفيذ أحكام جلاديهم، وفي نفوسهم أمل انتصار الحق وانبلاج الفجر الذي يجاهدون من أجله، وهم أبدًا على ثقة بأن جهادهم لن يذهب هدرًا، وأن الله لن يضيع أعمالهم، وأن دماءهم هي الرافد الذي يغذي شجرة الإسلام التي ستورق ثانية وستثمر مرة أخرى، وسينعم بثمارها الأجيال اللاحقة من أبناء الإسلام السائرين على الطريق.

وتعتبر «رسالة في ليلة التنفيذ» نموذجًا فذًّا لرثاء الشهيد الإسلامي، فبالرغم من إحساس الشهيد بهول الموقف وهو ينتظر لحظة الإعدام، إلا أنه لا ينسى أبدًا رسالته وما هو ماض في سبيله، لذا فهو يعلن يقينه بأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل، وأن شريعة العدل لا بد أن تهزم شريعة القرصان التي يعتنقها أعداء الإسلام ويعاملون بها الدعاة المسلمين، وعند ذلك سيعلم الناس أي رجل كان الشهيد المسلم، وأي أمل حققه للمستضعفين في الأرض.

لكن إذا انتصـر الضياء ومزقت 
 
 

بيد الجموع شريعة القرصان(1)
 

(1 ) شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث، جـ3.

فلسوف يذكرني ويكبر همتي
 
 من كان في بلدي حليف هوان
 

ونحن إذا قلنا بأن (رسالة في ليلة التنفيذ) نموذج لرثاء الشهيد المسلم، فإننا نضيف أيضًا أنها وصلت إلى القمة من الناحية الفنية، وجمعت إلى صدق الإحساس روعة الصياغة، فحملت القارئين على أن يعيشوا جو القهر والتسلط الذي يعيشه الدعاة المسلمون، كما حملتهم إلى جو المأساة التي يعاني منها ذوو الشهيد الذين ينتظرون مصير ولدهم، ولا حول لهم ولا قوة يستطيعون بها الدفع عن ولدهم، وكل ما يملكونه أمل زرعه في قلوبهم ولدهم الشهيد، وهو يؤكد لهم أن الفجر لا بد أن يطل، وأن سناه لا بد أن يشع، وأن دماء الشهداء زيت يغذي مشعل الفجر الإسلامي المرتقب:

دمع السجين هناك في أغلاله
 
 

ودم الشهيد هنا سيلتقيان(2)
 

(2 ) شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث، جـ3.

حتى إذا ما أفعمت بهما الربا
 
 لم يبق غير تمرد الفيضان
 
إن احتدام النار في جوف الثرى
 
 أمر يثير حفيظة البركان
 
وتتابع القطرات ينزل بعده
 
 سيل يليه تدفق الطوفان
 
فيموج يقتلع الطغاة مزمجرًا
 
 أقوى من الجبروت والسلطان
 

وتكاد لا تجد ديوانًا لشاعر إسلامي معاصر، إلا وفيه مرثية أو مراثٍ للشهداء دون ذكر الأسماء، وهذه الملاحظة جديرة بالدراسة المستفيضة التي لا تستوعبها مثل هذه المقالة.

وحظي بعض الشهداء بمراثٍ خاصة، وهذه المراثي لا تتحدث عن الشهيد فحسب، بل تتخذ من الحديث عنه وعن بطولاته طريقًا للحديث عن الدعوة الإسلامية المعاصرة وجهادها في سبيل إعلاء كلمة الله.

وكان لاستشهاد مؤسس الحركة الإسلامية المعاصرة ومرشدها العام الإمام حسن البنا صدى واسعًا في العالم الإسلامي، وقد اهتز الشعراء لهول المصاب، فرثاه كثير منهم بقصائد تقطر حزنًا، وتفيض تصميمًا على متابعة طريق الشهيد في الدعوة والجهاد، نذكر من بين الذين رثوا الإمام الشعراء: عمر بهاء الدين الأميري، ووليد الأعظمي، ومحمد المجذوب، وقد كتبنا مقالًا مستقلًا عن رثاء الإمام الشهيد في هذه المجلة (راجع العدد 392، ص36).

ثم استشهد الكاتب الإسلامي الكبير سيد قطب، وكان استشهاده سببًا في وقوف كثير من المفكرين في ذهول أمام الصدمة، لا أقول المفكرين من أبناء الحركة الإسلامية، بل المفكرين العقلاء من أبناء الأمة جميعًا، فكيف يقتل مفكر عظيم بلا جريرة ارتكبها؟ وكيف يقدم مفكر عالمي لمحكمة يقضي فيها خصوم ليس لهم صفة القضاة؟ وكيف يحاكم كاتب فذٌّ وشاعر إنسان دون أن يتاح له الدفاع عن نفسه، ودون أن يسمح لمن تطوعوا للدفاع عنه أن يمثلوا أمام المحكمة لأداء رسالتهم القانونية والشرعية؟ وكيف يقتل إنسان قدم للإنسان فكرًا راقيًا نيرًا، وقدم للعربية أدبًا ساميًا دون أن تكون له تهمة واضحة؟ وكيف يقتل إنسان على تأليف كتاب يرسم معالم الطريق لعزة الأمة وسعادتها وسيادتها؟ ألا تكون هذه سابقة للاعتداء على أي مفكر كتب كتابًا محاولًا أن يضع به لبنة في بناء أمته ورقي وطنه؟!

إن هذا الحدث الرهيب الذي سجل نقطة سوداء في صفحة الأمة وفي سجل القضاء أثار كوامن القلوب وفجر ينابيع الشعر، أسى على الشهيد، وأسفًا على أمة مهيضة الجناح، يتصرف بها عدوها كيفما شاء.

يقول الشاعر أحمد محمد الصديق مخاطبًا الشهيد سيد قطب:

أقبلت نحو الله تدعو للهدى
 
 

والناس في لهو وفي إدبار(3)
 

(3 ) ديوانه «نداء الحق».

يتهافتون على السفاسف بينما
 
 ترنو إليهم مشفق الأنظار
 
وتجرد القلم الذكي مذكرًا
 
 بالله، ترفض غير حكم الباري
 
حتى نسجت من الحقائق راية
 
 خفاقة في عالم الأفكار
 
وأنرت للأجيال خير «معالم»
 
 تجلو سبيل الحق للأبرار
 
وجعلت وارفة «الظلال» معارجًا
 
 نحو الخلود، ومرتقى الأطهار
 
هذا انتصارك في الحياة ودونه
 
 في منهج العقلاء كل خسار
 
هزم الضلال، فما له من حيلة
 
 إلا سبيل الغدر في المضمار
 

ويستغل الشاعر الحديث عن استشهاد سيد قطب ليشير إلى المآسي التي يلاقيها الدعاة إلى الله، فكم من شهيد سقط، وكم من فتاة عذبت وأهينت، وكم من أهل بيت حوربوا في رزقهم ومعاشهم، وكل ذنبهم أنهم كانوا يعملون لتحرير وطنهم من أغلاله ولإنقاذه من إساره، وعندما خلت من هؤلاء الديار، وأودعوا غياهب السجون وقعت أوطانهم فريسة للأشرار، ونهبًا للأعداء.

كم في المشانق والسجون تساقطت
 
 

جثث تمزقها يد الأشرار(4)
 

(4 ) المرجع السابق.

كم من فتاة أحصنت بعفافها
 
 يتربصون لوصمها بالعار
 
أو أهل بيت حوربوا في رزقهم
 
 بسياسة التجويع والإفقار
 
كانوا يمنون النفوس بموطن
 
 حر من الأصفاد والإصار
 
فإذا بهم هدف لكل ملمة
 
 وبلادهم تهوى بشـر إسار
 

وكما قدمت الحركة الإسلامية الشهداء في حرب فلسطين عام 1948، كذلك قدمت الشهداء بعد حرب الخزي عام 1967، فقد نظم شباب الحركة الإسلامية أنفسهم في كتائب للجهاد وخاضوا ضد اليهود معارك ضارية نالوا منه فيها، وفاز بعضهم بالشهادة في سبيل الله.

وتمتاز الحركة الإسلامية بوحدة صفوفها وتلاحم أفرادها، فالمنتمون إليهم ينتسبون إلى أقطار العالم الإسلامي المتعدة، ولكنهم يقفون صفًا مرصوصًا في ميادين القتال وساحات الجهاد.

والشهيد «محمد سعيد باعباد» مثال لشباب الحركة الإسلامية الذين تدفقوا من جميع أقطار الإسلام للجهاد في فلسطين، فهو من اليمن في أقصى جنوب الجزيرة العربية، راعه أن يرى القدس ومسجدها الأقصى في أيدي اليهود، فدفعه إيمانه بالله وحبه لمسجده الأقصى أن يضحي بنفسه ويجود بروحه، يقول الشاعر كمال رشيد في رثائه:

ثائر من ذرى اليمن
 
 

جاءنا يحمل الكفن(5)
 

(5 ) ديوانه «شدو الغرباء».

عاش عمرًا مجاهدًا
 
 ما تراخى ولا وهن
 
عاش بالله مؤمنًا
 
 حارب الكفر والوثن
 
راعه أن يرى العدا
 
 تغصب القدس والوطن
 
تحرق المسجد الذي
 
 عز في سالف الزمن
 

والموت على تراب فلسطين تلبية لنداء الإيمان أمنية يسعى لها ويحلم بها كل مؤمن بالله، وكل من يسير على خطى رسول الإسلام صلي الله عليه وسلم، والاستشهاد نعمة لا يدركها إلا من رضي الله عنه، ولا يعرف مغزاها إلا الواثقون بثواب الله:

نعمة سرمدية
 
 

تحفظ الروح والبدن(6)
 

(6 ) ديوانه «شدو الغرباء».

إنها غاية الذي
 
 حمل السيف والكفن
 

أما أبناء فلسطين الذين انضووا تحت راية الحركة الإسلامية، فقد قدموا من أجل وطنهم الكثير الكثير، قدموه بصمت وتجرد، ولم يعلنوا عنه لأنهم لا يبتغون بجهادهم إلا الله وحده، وقد تركوا الإعلان والإعلام لأولئك الذين لا يعرفون من الجهاد إلا الإعلان والإعلام!

والشهيد «عمر رضوان عمر بلعة» من أبناء فلسطين الأتقياء الأخفياء الذين بذلوا دماءهم في سبيل الله على ثرى وطنهم الغالي، وهم يضعون نصب أعينهم أن الجهاد في فلسطين مرضاة لله وليس عصبية للوطن، وإن كان الوطن عندهم عزيزًا كريمًا.

خاض الشهيد رضوان مع اليهود معركة استمرت خمس ساعات، استبسل فيها وأثخن في العدو، وأصر على الصمود ليفتك بأكبر عدد من الغزاة، وطلبًا للشهادة المبتغاة، ففاز بالهدفين، فأغاظ العدو بما قتل من رجاله، وفاز بالشهادة في سبيل الله.

ترى ماذا يكون مصير عدونا لو أصر كل شاب مسلم على ألا يموت إلا إذا قتل من عدوه ولو فردًا واحدًا؟ فكرة ندعو الشباب المسلم لتدبرها والتفكر في نتائجها.

لقد كان لاستشهاد رضوان أثره في نفس زميله في الجهاد، الشاعر يوسف أبو هلالة، فرثاه بقصيدة مؤثرة، تحدث فيها عن أسباب ضياع البلاد، وبيّن فيها ما يعتمل في نفوس المخلصين من حرقة وأسى، وهم يرون أوطانهم تباع بأبخس الأثمان، وكرامة أمتهم تهدر من أجل أن يحيا التافهون سويعات المجون والأغلال.

وقصيدة الشاعر ذات ألفاظ معبرة وصور حية، نختار من أبياتها مقطعين، وإن كنا نود لو عرضناها كاملة لروعتها وسمو بيانها:

خمسًا من الساعات يهزم روعها هوج الرياح(7)
ولشدة الأهوال يغدو الثبت فيها غير صاح
يهوي بها «الرضوان» مثل النسـر مقصوص الجناح
من بعد ما اقتحم الردى والقصف قد غمر النواحي
فرأيته وعليه من حلل الدما أبهى وشاح
وجبينه المشجوج يحكي للدنا قصص الكفاح
ونفاره عطرًا يفوح كأنه ورد الأقاحي
فحنوت ألثم جرحه الرعاف فانتكأت جراحي

ثم يختم الشاعر قصيدته بنداء على لسان الشهيد، يدعو فيه رجال الإسلام ألا يلهيهم الحزن على الشهداء عن متابعة الجهاد في سبيل الله:

وهمت على خدي الدموع وقلت يا روحي وراحي(8)
هلا رحمت قلوبنا، فعدلت عن هذا الروح؟
فأجابني البطل المسجى هازئًا بي باقتراحي
كفكف دموعك ليس في عبراتك الحري ارتياحي
هذا سبيلي إن صدقت محبتي احمل سلاحي
فيه إلى القدس الوصول والكرامة والنجاح

شهداء الحركة الإسلامية المعاصرة، أولئك الذي عجلوا للقاء ربهم بدمائهم التي تفوح كرائحة المسك، وقد خلفوا وراءهم وصيتهم لمن آمن بالله ربًا، وبمحمد  رسولًا، وبالإسلام دينًا، بأن يتابعوا المسيرة، إذ لا فلاح ولا نجاح أمتنا إلا بالجهاد في سبيل الله.

أحمد الجدع

(7 ) شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث جـ6.

(8 ) شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث، ج6.

الرابط المختصر :