; رجل لا يحب الضجيج | مجلة المجتمع

العنوان رجل لا يحب الضجيج

الكاتب أ.د. حلمي محمد القاعود

تاريخ النشر السبت 20-ديسمبر-2003

مشاهدات 28

نشر في العدد 1581

نشر في الصفحة 44

السبت 20-ديسمبر-2003

كنت كلما دخلت عليه مكتبه داعبته بالآية الكريمة،  ﴿وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (المطففين: 27 ) وكان يبتسم ابتسامة هادئة ولكنها تعبر عن فرح عميق، فقد رزق بفتاة سماها «تسنيم» بعد ولد سماه «زياد». كان اسم «تسنيم» نادرًا، ولكنه اسم قرآني جميل صارت صاحبته اليوم عروسًا في الدراسات العليا بعد أن تجاوزت العشرين مر الزمان سريعًا من قابلته لأول مرة في مقر مجلة الدعوة» بالتوفيقية عام ١٩٧٦م، كان هادئ السمت قليل الكلام يهتم بما هو مفيد لا يحفل بالثرثرة، ولا يبدي انفعالًا، ولكنه يتجه نحو العمل العمل فقط، وحوله كوكبة من الشباب صاروا اليوم مبرزين في أعمالهم صلاح عبد المقصود. وكيل نقابة الصحفيين بدر محمد بدر» مدیر تحرير آفاق عربية، وغيرهما من جيلهما والجيل التالي بعدهما أعداد أخرى حققت نجاحات في میدان عملها الصحفي والثقافي والفكري، تعلمت من عبد المنعم سليم جبارة وعملت معه.

تعرفت إليه بواسطة صديقي الراحل جابر رزق، وكانا يديران مجلة الدعوة، في ظل الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ صالح عشماوي -رحم الله الجميع- وكانت الدعوة أنئذ تصدر شهرية، وتغطي مع مجلة «الاعتصام» التي كنت محررًا بها نشاط الحركة الإسلامية، وتعبران معًا عن رؤية إسلامية لأحداث تلك الفترة التي أعقبت حرب رمضان، والإفراج عن المعتقلين من التيار الإسلامي، والسماح بهامش من الحرية التعبيرية. كان لي شرف الكتابة في الدعوة، وخاصة بعد إعلان مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات بزيارة القدس المحتلة، والتفاوض مع الكيان الغازي اليهودي الغاصب في فلسطين المحتلة.

مفارقة طريفة

توطدت معرفتي بعبد المنعم سليم جبارة بعد ذلك، وكان هناك مفارقة طريفة، وهي أننا تزوجنا في عام واحد (عام۱۹۷۸)، ثم تعاونت معه فيما بعد حين أعيد إصدار مجلة «لواء الإسلام» التي - صار رئيسًا لتحريرها، وكنت أتولى تحرير القسم الأدبي فيها، حتى سافرت إلى العمل بالخارج وجاءت حرب الخليج الثانية (احتلال الكويت من جانب العراق)، فأغلقت «لواء الإسلام تحت ضغط الأحداث ومضاعفاتها فلم أقابله إلا لمامًا، ولكني كنت أتابع مقالاته المستمرة والدؤوب في العديد من المجلات والصحف: المجتمع الأحرار الشعب الحقيقة، آفاق عربية، وغيرها، وكان فيما يكتبه.

ملتزمًا بالرؤية الإسلامية النقية التي لا تتأثر بالدعاية السائدة، ولا تنخدع بالأقوال التي تصدر عن خصوم الإسلام كأن يرى الأشياء كما يوجب الإسلام أن ترى، لا كما يريد الآخرون أن نراها ثم إنه يصوغها في عبارات علمية دقيقة بعيدة عن الانفعال العاطفي أو الهجاء السياسي فقد كان يرصد ما يراه، ثم يبدي رؤيته الإسلامية في وضوح، وكانت مقالاته في معظمها تتجه نحو معالجة القضية الفلسطينية ومستجداتها، منطلقًا من فهم محدد يؤمن أن الجهاد هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين واستعادة بيت المقدس.

تخرج عبد المنعم في كلية الآداب، وكان تخصصه في الجغرافيا»، وهو ما ساعده في تحليلاته السياسية على استيعاب أحوال العالم الإسلامي، بل العالم كله، فقد كانت الدنيا تحت ناظريه يعرف تضاريسها الجغرافية كما يعرف تضاريسها السياسية، ولذا جاءت كتاباته عميقة تشير إلى وعي جاد بما يدور على خريطة العالم. وكانت تجربته الإنسانية زاخرة وعامرة مع قسوة بعض جوانبها ومرارته وبشاعته، فقد ولدفي الثاني والعشرين من أكتوبر عام ١٩٣٠م في مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، دخل جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) وانضم وهو طالب في الجامعة إلى جماعة الإخوان المسلمين، وشارك في عمليات الفدائيين ضد المستعمرين الإنجليز بمنطقة قناة السويس في أوائل الخمسينيات واعتقل عام ١٩٥٥ وظل بالمعتقل حتى أفرج عنه عام ١٩٧٤م بعد أن قضى نحو عشرين عامًا ذاق فيها مرارة السجن وبشاعة التعذيب وقسوة هذه المحنة في روايته المؤثرة «رحلة إلى الله وكان صديقًا لعبد المنعم سليم ورفيقًا له في السجن بعد محاكمات ١٩٦٥م، وقد أشار الكيلاني إلى علاقته بعبد المنعم من كانا طالبين في الجامعة، الأول كان طالبًا في الطب، والآخر في الآداب، وسجلها في كتابه الضخم الذي ترجم في لنفسه لمحات من حياتي»، وأذكر أنني حين ذكرت له بعض الوقائع التي وردت في الكتاب، وحكاه لي نجيب شفاهة، ضحك، ولم يعلق، كعادته، وكان يستحي أن يشير إلى ما تعرض له في المعتقل على العكس من صديقه جابر رزق الذي سجل ما جرى وحدث بصراحة بالغة، وكان الهدف منها كشف الممارسات الوحشية لبعض البشر الذين ماتت قلوبهم، وهو ما عبر عنه أيضًا الكاتب الراحل مصطفى أمين في كتابه المشهور سنة أولى سجن، وأشار فيه إلى ما أصاب المعتقلين السياسيين من تعذيب بشع خرج عبد المنعم سليم من غياهب الظلمات وهو في الرابعة والأربعين من العمر، لم يتزوج، ودون وظيفة، فعمل في وزارة التعليم موجهًا بالتعليم الثانوي، وفي عام ١٩٧٦م انضم إلى مجلة الدعوة»، ثم أعير إلى الإمارات العربية المتحدة ليعمل في مجال التدريس، ويؤسس مع آخرين مجلة «الإصلاح»، ثم ترك الإمارات وعاد إلى مصر بعد سنوات.

ميزة رئيسة

الميزة الرئيسة التي كانت تميزه أنه لا يحب الضجيج، بمعنى أنه يريد أن يخدم دينه ودعوته إلى الله في صمت، فلا يسعى إلى الأضواء، ولا يجري وراء البريق، ولا يستشعر الأناء التي تعبر عن حب الذات أو النفس، إلا في مواقف التضحية والبذل، حينئذ يقدم نفسه وروحه، في صمت. إن بعض العاملين في مجال الحركة والدعوة إلى الله تتسلل إليهم آفة النرجسية، أو حب الظهور أو الانتفاخ الكاذب». ولكن رجلنا كان متواضعًا، أو حريصًا على التواضع الذي يدخله في دائرة الذين يمشون على الأرض هونًا. هو يريد أن يقول كلمته في هدوء ثم يمضي، وكأنه لا يريد أن يعرف أحد أنه هو الذي قال، ولعل ذلك كان من وراء كتابته مئات المقالات بأسماء مستعارة، حيث كانت بعض المطبوعات تحمل له أكثر من مقالة، فيوقع بأسماء مثل: أبو زياد أبو طارق، د. سيد الفضلي، د. أحمد عبد الحميد البنهاوي، وغيرها.

وأذكر أن كاتبًا يحمل اسمه -وهو من تيار آخر- احتج كتابة بأن تشابه الاسمين يوقع صاحبنا في مأزق مع التيار الذي ينتمي إليه، فأضاف الراحل الكريم إلى اسمه لقب العائلة جبارة، دون أن يجد في ذلك غضاضة، ليفرق الناس بين الاسمين.

إن تواضع عبد المنعم سليم جبارة في الحياة والدعوة الإسلامية، يجعله نموذجًا للداعية

الإسلامي، الذي تمكن الإيمان من قلبه، فلم تشغله زخارف الدنيا ولا عرضها الزائل، وفي الوقت نفسه يقدم درسًا حيًا وبليغًا إلى المغرورين» أو السفيانيين الذين يدورون حول أنفسهم وذواتهم، ويتناسون أن الخدمة في ميدان الدعوة الإسلامية تقتضي التواضع وإنكار الذات، ليكون عملهم خالصًا لوجه الله، وأشهد أني ما رأيت الرجل يومًا يضع نفسه في مستوى فوق مستوى المسلم البسيط الذي يرجو رحمة ربه وعونه مع أنه كان في مواقع تتيح له أن يتيه وينتفش ويزهو ويفاخر ولكنه كان ينظر إلى الآخرة متخلقًا بأخلاق الإسلام والسلف الصالح. ولعل ذلك كان من وراء التكريم الإلهي له، وهو التكريم الذي تبدى عند وفاته، فقد ظل واقفًا على قدميه، يصلي ويتهجد ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي، وهي الليلة المباركة التي يرجح العلماء أن تكون ليلة القدر، وتم دفنه يوم الجمعة ورأى من رافقوه إلى مثواه معالم كرامات تدل على أنه من المقبولين إن شاء الله.

زوجته تتحدث

هذا الرجل الطيب والداعية الذي ينكر نفسه كان مثالًا للمسلم الذي يعرف القناعة والرضا بقدر الله، تقول عنه زوجته كان زوجي نسمة لطيفة في حياته ومماته، كان معلمًا منذ أول لحظة ارتباطنا، منذ أن ارتضينا هذا الطريق نقطعه معًا إلى الجنة، فبدأنا بشقة صغيرة في شبرا الخيمة، ولم أشتر فستان زفاف بل استعرت فستان أختي، وعقدنا زواجنا بمسجد صلاح الدين بالمنيل في حفل عائلي صغير، ثم فتحت علينا الدنيا أبوابها، فتدفق المال، ولكن كل هذا كان في يده لا في قلبه لم يغيره فيض العطاء بعد طول الحرمان لأن قلبه قد تعلق بأمل آخر الجنة.

لم يكن يذكر ما حدث له إطلاقًا، بل كنت أعرفه من الكتب ولا أحدثه فيه، كان يشعر بأن ما يقدمه لدعوته هو كنزه، فكان أحرص ما يكون عليه، وعلى ألا يطلع عليه أحد، فلا أذكر أنه روى لنا ما حدث معه في السجن إلا مرة واحدة، كنا نشكو من شدة الحر، فشرد ببصره قليلًا ثم قال: سبحان الله، لقد كانت تأتي على الإخوان أيام في سجن قنا نظن فيها أن الموت يكاد ينالنا من شدة الحر. وإذا بالمولى -عز وجل- يرسل ما يلطف به الجو فيخفف عنا والجنود حولنا في ذهول. وحينما كنت أرى إصابات جسده من أثر التعذيب وأسأله عنها كان ينكر بشدة ويتهرب من أسئلتي وأكتفي بهذا القدر من شهادة الزوجة الصابرة، وما تضمنته من حفظه للقرآن الكريم ودأبه على قراءته وتلاوته باستمرار لأقول: إن عبد المنعم سليم جبارة، يقدم أنموذجًا لخدمة الإسلام في صمت ودون ضجيج ودون رياء أيضًا. -رحمه الله-، وجعل مستقره في الفردوس الأعلى.

الرابط المختصر :