العنوان رسائل من وراء البحار
الكاتب د. زكريا بشير
تاريخ النشر الثلاثاء 12-أكتوبر-1976
مشاهدات 24
نشر في العدد 320
نشر في الصفحة 10
الثلاثاء 12-أكتوبر-1976
اَلرِّسَالَة اَلْأولَى
الدكتور/ زكريا بشير
جامعَة الملك عبد العزيز بجده
كان اليوم يوم الأحد، وهو يوم العطلة الأسبوعية هنا كما هو الحال في كافة الأقطار المسيحية، نهضنا مبكرين ذاك الصباح لأننا كنا مرتبطين بموعد هام جدًّا، وكان لا بد من التأكد من الوصول إلى مكان ذلك الموعد قبل الموعد المحدد على الأقل بعشرة دقائق مبالغة في الحيطة، وزيادة في الحرص؛ ذلك أن التفريط في ذلك الموعد يؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة بالنسبة لنا: فإيجار الغرفة التي نسكنها الآن يلتهم المبلغ المتواضع الذي استطعنا تخصيصه لقضاء عطلة في لندن بشره شديد، وإذا لم نوفق في إيجاد سكن أقل تكلفة فلن نستطع البقاء هنا لأكثر من أسبوعين، وهي مدة لا تكفي لرؤية ما جئنا لمعاينته بعد غيبة طويلة عن الجزر البريطانية.
خرجنا مسرعين من الفندق بعد أن تناولنا الإفطار الإنجليزي المشهور، والذي يتكون أساسًا من البيض- والبيكن-، وبما أن البيكن هو من لحم الخنزير فقد أحسن الجرسون- أو النادل كما يقول الفيروزبادي- في فرسان الكلام في المبادرة بحذفه بدون أن يحوجنا إلى تنبيهه إلى ذلك، كما كنا نفعل في كل مرة نكون فيها نزلاء أحد الفنادق الإنجليزية في الأزمان الماضية، ولقد كان طلبنا بحذف البيكن يقابل بترحاب في بعض الأحيان، وبروح طيبة في أحيان أخرى، ولكنه كان أحيانًا يقابل باستياء وامتعاض، وكانت زوجتي كثيرًا ما تتخلى عن وجبة الإفطار تفاديًا لأي حرج قد يطرأ في أثناء هذه العملية الروتينية.
مهما يكن من شيء فلندن الآن قد تغيرت كثيرًا منذ آخر مرة كنا نعيش فيها في أواخر سنة ١٩٦٩م، وواحد من أبرز التغيرات التي يلحظها كل عربي هو الوجود العربي المتزايد، والذي لم يكن له أي أثر في آخر سنة ١٩٦٩ عندما كنا نعيش في لندن فمثلًا كان أحد الجرسونات في الفندق شابًا عربيًا، ويبدو من لهجته أنه مصري فقد كان مهذبًا جدًا، وخدمنا بلطف وأدب جم، وأغلب الظن أنه طالب جامعي اضطرته الظروف المعيشية الصعبة في هذه البلاد للعمل في فترة الصيف، وبما أن فرصة العمل للأجانب- وهي بطبيعة الحال صعبة جدًّا حتى للبريطانيين أنفسهم نتيجة للكساد الاقتصادي الكبير الذي تعاني منه بريطانيا- ضيقة جدًا فإن الطلاب المحتاجين يضطرون للقناعة بأي وظيفة تصادفهم.
المسافة بين الفندق ومكان الموعد مسافة كبيرة جدًّا، فالفندق في سنترال لندن ومكان الموعد في شمال لندن، وأسرع طريقة للمواصلات هي القطار اللندني الذي يسير تحت الأرض، ونظام القطارات التي تسير تحت الأرض هو من عجائب مدينة لندن ولقد قام الإنجليز ببنائه في أثناء العصور الزاهية للإمبراطورية البريطانية تلك الإمبراطورية التي ما كانت الشمس تغرب فيها أبدًا، والتي كانت تضم فيما تضم شبه القارة الهندية بملايينها البشرية الهائلة، لقد كانت شبه القارة الهندية هي الجوهرة المتلألاة في التاج البريطاني، وقد استعانت بريطانيا بالآلاف المؤلفة من الهنود في تشييد نظام المواصلات تحت الأرض، مات منهم العشرات، بل المئات في أثناء تشييد هذا الشبكة العجيبة من القطارات التي تسير تحت الأرض في ظلام دامس وفي سرعة، ودقة عجيبة، لا بد أن تشييد هذه الشبكة من الخطوط الحديدية، ومن المحطات والأنفاق تحت الأرض، والتي تغطي مدينة لندن ذات الاثني عشر مليونًا من البشر، لا بد أن هذا المشروع قد كلف إلى جانب المئات من شهداء الحضارة وضحاياها من الهنود وغيرهم- عشرات الملايين من الجنيهات تلك الملايين التي كانت بريطانيا تحصل عليها من عائدات المستعمرات البريطانية الغنية بالمواد والخامات من قارات العالم الخمس، وكانت الهند، وأفريقيا في مقدمة تلك المستعمرات التي كانت تدر ذهبًا ولؤلؤًا للخزانة البريطانية.
وعلى كل حال، فنحن اليوم نستفيد من تلك الجهود الخارقة التي بذلها الإنسان في سبيل بناء حضارة التقدم، فبدون هذا النوع من المواصلات تعتبر عملية الانتقال من سنترال لندن إلى أقصى شمالها من أصعب وأعقد العمليات.
القطارات تجيء وتروح بسرعة فائقة، ولذلك لا يقضي الإنسان أكثر من دقائق معدودة في انتظار قطاره.. وليس هنالك مجال للسأم، أو الملل في أثناء قضاء هذه الدقائق المعدودة؛ فلندن تزخر بملايين الوجوه والأشكال من أقطار العالم جميعها وتعج بعشرات اللغات، والثقافات، والأزياء والملابس، فبالرغم من طغيان الملابس الأوروبية الحديثة في أنحاء الأرض إلا أن الملاحظ الخبير يستطيع أن يتعرف على الأمريكي الجنوبي، والآسيوي، والأفريقي، والأوروبي من طريقة ملابسهم ومن أشكال زِيِّهم.
وحيثما نظر الإنسان فهنالك إعلان لشيء جديد، أو حدث جديد، أو مناسبة ثقافية، أو شيء من هذا القبيل، ولندن من بلاد الله الزاخرة بالأشياء، والأحداث، والمناسبات.
فهنالك أفلام ظلت تعرض في لندن من أكثر من عشر سنوات وما زالت إلى اليوم تعرض ويؤمها جمع غفير من سكان لندن الذين يتجددون تجدد مياه البحر والأنهار.. من تلك الأفلام التي ظلت تعرض في لندن من أكثر من عشر سنوات فلم صوت الموسيقى، وهناك الأفلام التي تعرض لأول مرة في العالم، ومن هذه الأفلام فلم عن حياة الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- بعنوان الرسالة؛ وهو الفلم الذي مُوِّلَ بأموال عربية، ثم ثار حوله جدل كثير أدى في النهاية إلى منع عرض الفيلم في البلاد العربية، ولكنه يعرض هنا منذ أكثر من ستة أسابيع في بكديللي سيركس، وأربعة أماكن أخرى من لندن، وازدحم الناس لرؤيته، ومن بينهم أعداد غفيرة من المسلمين، وبهذه المناسبة فإن عدد السواح العرب الآن في لندن قد بلغ نصف المليون شخص كما يشاع هنا.
وهنالك أفلام الأطفال، وأفلام الجريمة، وأفلام الرعب.. هذا بالإضافة إلى الأفلام التي تجعل من الجنس، والعنف محورًا لها، وهذا اللون من الأفلام اكتسح السينما في الآونة الأخيرة بما يوحى بالانهيار الشامل الذي يهدد حضارة العالم الغربي، ويجر على الإنسان والإنسانية غضب الله، وبؤس الحياة وشقاوتها، وهذا النوع من الأفلام لا شك يعكس هذا الفراغ والإفلاس والخيبة التي يعاني منها الرجل الغربي في مرحلة الشيخوخة والظروف التي تمر بها الحضارة الغربية اليوم.
وصلنا مكان الميعاد بعد أن وصلنا إلى آخر محطة للقطار الأرضي في رحلتنا، وأخذنا الباص بعد ذلك، وبالفعل وصلنا إلى المكان قبل عشرة دقائق تقريبًا وضربنا الجرس فخرجت امرأة في منتصف العمر.. خاطبناها بالإنجليزية فخاطبتنا بالفرنسية، وعلى كل حال فهمنا منها أن صاحبة البيت لا تسكن هنا، وللأسف تأتي عما قليل، وقضينا باقي الدقائق في مدخل البيت، وفعلًا وفي تمام الساعة الحادية عشرة صباحًا بالضبط وقفت سيارة صغيرة أمامنا، ونزلت منها سيدة قلت:
- هل أنت مسز بيدل؟
- نعم.
- كيف حالك، أنا دكتور بشير، وهذه زوجتي.
- كيف حالكم؟
دلفنا إلى الباب، وفتحت لنا الشقق التي أتينا لمعاينتها، ولم تعجبنا، ويبدو أنها لاحظت علامات الشعور بعدم الرضى والانكشاف، فبادرت إلى إخبارنا بأن لها شقة أخرى للإيجار، وفي دقائق كنا في الشقة الثانية، وكانت أحسن بكثير من الأولى؛ بها صالون، وغرفتان للنوم، ومفروشة فرشًا كاملًا بما في ذلك أدوات المطبخ، وبعد دقائق أخرى وقعنا العقد، ودفعت إيجار ٤ أسابيع، واستلمنا مفاتيح الغرفة، وكان الإيجار معقولًا جدًّا؛ فقد دفعنا إيجارًا للأسبوع ما كنا ندفعه لإيجار يومين فقط لغرفة واحدة في الفندق، وشعرنا براحة كبيرة إذ وفقنا الله لتأمين السكن في مدينة تعاني من أزمة السكن في كل الفصول، وخصوصًا في فصل الصيف عندما يضاف إلى ملايينها الاثنى عشرة شخصًا ملايين أخرى من السواح من كل أقطار العالم.
وفي طريقنا إلى محطة القطار الأخرى دلفنا إلى دكان يبيع الكتب والجرائد والمجلات، لقد كنت في شوق لاقتناء نسخة من التايمز اللندنية، وجريدة الغارديان التي تصدر في مانشستر، ولكنا في أسى لاحظنا اكتظاظ المحل بالصور العارية الفاضحة، واتفقنا أنا وزوجتي بأن هذا الأمر قد ازداد واستشرى عما كان عليه الحال عند آخر زيارة لنا للندن، وكنا نشعر بحرج عندما نلاحظ أن ابننا الصغير تقع عيونه البريئة على هذه الصور الفاضحة.
إن البيئة الحديثة في المدن الغربية بيئة تعادي الطهر والعفاف وتدعو- بكل السبل- إلى الانغماس في الشهوات، والملذات الجسدية الغليظة، وكأن القوم ما عاد هنالك شيء يشغل بالهم ولا يثير انتباههم غير المسائل التي تتعلق بالجنس الفاضح الجسدي الغليظ.
أهم المواضيع التي تناقش في الصحافة البريطانية هذه الأيام هي:
- مشكلة الجفاف وانقطاع المطر، وتتفاقم أزمة مياه الشرب نتيجة للجفاف،
أن الجفاف الذي أصاب بريطانيا هذا الصيف مسألة تثير الحيرة والدهشة، ولا يجد الإنسان لها تفسيرًا سهلًا، وذلك أن بريطانيا لم تر مثل هذا الجفاف منذ أن بدأت ترصد التقلبات المناخية وحالات الطقس، وعلى كل حال فقد صرح الرئيس أيدي أمين- رئيس دولة يوغندا، بأن هذا الجفاف ما هو إلا عقوبة من الله -عز وجل- للجرائم التي ارتكبتها بريطانيا في حق شعوب وأمم الأرض التي كانت تحت سيطرتها الاستعمارية، وزعم الرئيس أيدي أمين بأن بريطانيا هي التي انشأت الأنظمة العنصرية في العالم مثل جنوب أفريقيا، ونظام روديسيا العنصري، كما قامت بتشريد الشعب الفلسطيني لتمهد بذلك لقيام دولة إسرائيل العنصرية التوسعية.
- الإضرابات السياسية في جنوب أفريقيا، وتصاعد نضال المواطنين الأفريقيين السود ضد النظام العنصري في جنوب أفريقيا أيضًا من المواضيع التي تحتل الصفحات الأولى من الصحافة البريطانية.
- فضيحة الأمير برنارد زوج ملكة هولندا مع شركة لوكهيد الأمريكية هي الأولى من المسائل التي تحتل العناوين البارزة في معظم الصحف الأوربية.
- وأخيرًا فإن مشاكل الشرق الاوسط تنعكس هنا باستمرار خصوصًا الصراع الدموي في لبنان، والحرب الباردة بين الاشقاء العرب.
في الرسائل المقبلة سوف أتناول بالتعليق والنقاش أهم تلك المواضيع، كما سأتناول-إن شاء الله- موضوع الفيلم الذي يصور حياة الرسول، والذي يثير اهتمام الشباب البريطاني في عاصمة بلاده، كما سأحاول أن أسلط بعض الضوء على الغزو السياحي العربي لبلاد الانجليز سأحاول أن أسلط بعض الضوء العربي علي الغزو السياحي العربي لبلاد الانجليز.
فإلى اللقاء.