; رياض المؤمنين.. أنوار الفطنة تبدد ظلمات الفتنة | مجلة المجتمع

العنوان رياض المؤمنين.. أنوار الفطنة تبدد ظلمات الفتنة

الكاتب محمد أحمد الراشد

تاريخ النشر الثلاثاء 22-يناير-1974

مشاهدات 15

نشر في العدد 184

نشر في الصفحة 32

الثلاثاء 22-يناير-1974

الجندية طريق القيادة، ويوجد ثمة غرور عند البعض وتجاوز يجب تشذيبهما كذلك مضى فقه الدعوة صريحًا حاسمًا

إنها صراحة والله، لا تظنن أنها خشونة فتهرب منها وتعافها نفسك، فإن أصررت على وصفها بأنها خشونة، فإنما هي خشونة التربية التي سلكها عبد القادر الكيلاني من قبل، فظنوا كما ظننت.

فقال لهم: «لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله -عز وجل-.» «۱»

ونقول لدعاة اليوم كما قال: لا تهربوا من خشونة كلامنا وصراحته، فإن كلمات الدبلوماسية لا تنفع في تربية الدعاة، ولا أساليب الإيماء، بل هي الإشارة الواضحة فحسب تربي، بلا اعتداء وجرح.

●      أثناء التأني يكون الحساب

وأولى للداعية المسلم أن يكون صريحًا مع نفسه قبل ذاك، يخلو خلال تأنيه في الفتن، وخلال انتظاره اكتمال فقهه، فيحاسب نفسه يعاتبها، ألا يقع في الشبهات.

 فمن لم يحاسب نفسه في أموره

              يقع في عظيم مشکل متشابه «۲»

فإن مهمل نفسه تزدريه الشبه، فلا تقنع منه بطفيف، وإنما تأتيه الشبهات كبيرة، عظيمة الأشكال، خفية التوريط، توهم القلب، فيتعكر الشعور، أو تؤلب اللسان، فيلحن النطق، أو تميل بالأذن، فيتشوش السمع أو تغلق الأجفان فيغبش النظر

ولا بد لطالب الفقه من حساب وعتاب

●      ازدواج.. والقلب واحد

يعاتب القلب: لم يكبح؟ ولم يريد قطع استرساله مع معاني الخير وعزمات العمل، وبإذن لإغراء الدنيويات أن يسامره؟

إنها ساعات التخليط أصبحت تطول في يوم الدعاة، وكأن سمت الأمس قد تغير. 

ولو صدق أحدنا نفسه، وأفصح عن حقيقته، لأعترف بالذي اعترف به أبو العتاهية حين قال:

تزاهدت في الدنيا، وإني لراغب

                أرى رغبتي ممزوجة بزهادتي «۳»

فأكثرنا يقع في هذا التخليط: قدم في الدعوة، وقدم في الدنيويات والرغبات والآمال العراض.

 لم نتمحض

وقد أتعبنا الذين يربوننا وأرهقناهم؛ فلا نحن ممن ييأس العمل منهم فيتركهم وهو في مأمن من اللوم، لقدم الدعوة ذاك، ولا نحن بالمشمرين حق التشمير فنريحه، بل يعوقنا قدم الدنيا عن سرعة انطلاق عرف بها جيل الدعوة الأول إلى أعلام لا زالت مرفوعة والله لنا كما رفعت له. 

وما هي إلا ساعة عتاب واحدة تنهي تعدد الولاء لو تدبرنا.

هزة إيقاظ، لكتف غفلة، من لسان صراحة يعرف كيف يقول:

تيقظ، تيقظ،  تيقظ.

تيقظ، فإنك في غفلة

        يعيد بك السكر فيمن يميد

تنافس في جمع مال حطام

                        وكل يزول، وكل يبيد

كأنك لم تر كيف الفنا

              وكيف يموت الغلام الجليد

وتنقص في كل تنفيسة

     وإنك في ظنك قد تزيد «4»

فهي الأحلام وأضغاثها تخدع، توهمنا أننا نزيد، وإنما هي الأنفاس تواصل نقصها، والسكر بالتكاثر یمید بنا فیمن يمید.

●      مصاعب ولا صمت لها

ويعاتب الداعية من بعد لسانه: لم يستحل اللحن والهذر والجدال؟

ولو فقه المرء لأدرك أن صدق الاندفاع يغني عن صدق اللسان أصلًا، فهو في غير حاجة إلى كثرة كلام ولو كان صادقًا. 

والداعية يسبق بفعله قبل أن يفصح بلسانه، يقتدي في ذلك بأبي الفضل بن مالك لما وصفه تلميذه الحند فقال:

يسبق فعله قوله «5»

فإن قال واحتاج إلى النطق: فهو القول الواحد الذي لا يتبدل، وهو القول الواضح الذي لا تلعثم فيه.

إذا اختلفت سبل الرجال وجدته

          مقيمًا على نهج من القول واضح «6»

نهج واحد، بوضوح کامل، يكشفان عن قلب في الصدر واحد، لا قلوب موزعة، وعن ثبات في صفاء، لم تكدرهما رجرجة ولا أخلاط، فإن اللسان ما زال يترجم للقلب، ولم تزل عفتهما سواء، ولهما شرف وعرض مشترك، وإنما فسق الألفاظ من فسق الشغاف، وما الألسن إلا مغارف للأفئدة، تمامًا كما رآها البارحة يحيى بن معاذ على حقيقتها فوصفها لك، ونبهك إلى أن:

«القلوب كالقدور في الصدور، تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه، من بين حلو وحامض، وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه: اغتراف لسانه».

تشبيه قد يكون ساذجًا كما يبدو لأول وهلة، لكن فيه روعة الحقيقة، وصدق الوصف:

اغتراف اللسان يذيقك طعم القلب.

ما كذب والله وما غلط، ولم يتقدم بين يدي الله المستأثر بعلم ما في الصدور، لكنها فراسة الإيمان: تسمع حركات اللسان وتميز نغماته، فترى الذي يجيش بين الضلوع.

ثم يأتيك صحب من دعاة بعد هذا، يملؤون ليلهم رئاء ومراء، وتشقيق كلام وتدقيق ألفاظ، والفرص تمر من بين أيديهم ومن خلفهم، يرقبون أن تتدلي لهم عجيبة الدنيا الكبرى في استئناف الحكم الإسلامي بحبل تدليا، ويحلمون بقطاف لم يتقنوا سقى ثمره، ينسون أن الدهر لا يأتي بالعجائب، وإنما هي تضحيات الرجال وخالصات الفعال، لا اللغو، ولا تقليب الكفوف والمناحة على واقع المسلمين.

وصحاب في جدال

             ومضي غير صائب

يرقبون الدهر أن

           يأتي عنهم بالعجائب

فإذا واتتهم الأيام

                فالربان سائب

وتضيع الفرصة المثلى

            ولا تجدي المنادب

ضل من يأمل أن

       يقهر باللغو المصاعب «8»

ولئن سألتهم: لم التشقيق والتدقيق؟

ليقولن: نريد الفقه، ونبغي الوعي، ونتقن التخطيط

وهم بذلك قد أخطأوا من حيث أصابوا، واختلط الحق الذي ذهبوا إليه بباطل من مخالفة أحكام التفاضل، فإنهم تمسكوا بفرع على حساب أصل ودندنوا حول سنن قد تفوت معها فرائض الإخوة، ووعي قد تنسى الأرواح بعده دروب التأليف.

ولو تأملوا بهدوء وحسبوا ووازنوا، لعرفوا أن لقاء الدعاة الهادئ، تحت جناح التحابب والاحترام المتبادل: خير من طلب صاخب للوعي فإنه لو لم يكن في اللقاء إلا تثبيت بعض الدعاة لبعض، وإلا السناد النفسي في مثل هذه المحن الشديدة والضراء الطويلة، لنال لقاؤهم وصف النجاح لكنهم صحب يستعجلون.

●      لماذا الجفاف يا عين؟

وعبر عتاب سريع من الداعية لأذنه، يلتفت خلاله إلى مناد يناديه أن:

«يا أيها الرجل: لا تكن كالمنخل، يرسل أطيب ما فيه، ويمسك الحثالة» «۹»

ويتعهد له أن يشيع أطيب ما يسمع، ويستر لفظ المستعجل النادم، وخيالات الحالم النائم:

ينتقل رابعًا إلى عتاب طويل لعينه

 يسألها أولًا: لم تخطئ، فتختار الجفاف

وتقحط؟

وصواب من مقلة: أن تصوبا 

كما يقول الشاعر.

فصوابها أن ترسله وابلًا صيبًا على أرض الأخطاء، بين يدي رب عفو غفور يحب أن يتملق له عبده بالدمع، ويحب أن يسمعه، في الثلث الآخر من الليل، وبالعشي والإبكار، يحاسب نفسه ويلوم، ويكرر مع ابن القيم يخاطب نفسه أن:

«لله ملك السماوات والأرض، واستقرض منك حبة، فبخلت بها

وخلق سبعة أبحر، وأحب منك دمعة

فقحطت بها عينك». «10»

ويظل يرددها حتى يظن أنه قد استوفى إنذارها

●      لا تظلم نفسك فتختار الظلام

ثم يعاتب عينه من بعد ثانية: لم تنظر ضياء العمل الإسلامي ظلامًا؟ ولم تتشاءم بدل أن تتفاءل لدعوة الإيمان بالخير؟

نعم صعب هو الوصول لدولة القرآن، ولن يأتي الدهر بعجيبة من دون جد لكنه ضياء كله العمل لها، ليس بظلام، وإن ظن المستعجل وجود تباطؤ، أو تعثر. 

وهل أسطع من ضياء النية، وضياء الأجر، وضياء الأخوة؟

 إن طول الطريق لن يعدم هذه الأضواء أبدًا ولئن يرجع الداعية بها وحدها خير له من قعود يوسوس به التشاؤم.

ولكن بعض الدعاة يظلمون أنفسهم بنظرة متشائمة إلى مستقبل الدعوة ويتهمون التخطيط والقادة والرعيل، فيعتزلون مجالات العمل الوضاءة وهي من حولهم تنادي وتهيب. 

وإنما الظلام ظلام المتشائم فحسب، ليس بمطلق كان بالنسبة له هو وحده ظلامًا، إذا حبس نفسه عن الضياء، والأضواء تنير درب غيره

وتفهيم المتشائم بهذه الحقيقة معضلة صعبة فإن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يستطيع تصور ما نقول والتصديق بوجود الأضواء.

 لكن عبد الوهاب عزام ضرب مثلًا تشبيهيًا انتقل منه إلى التفهيم فأجاد، فافترض للمتشائم أنه في حجرة مقفلة سوداء، أليس يبقي من حولها ضوء الشمس؟

حجرة ملؤها الظلام حوتني

                     وحوتها أشعة القمراء

فلما أثبت هذه الحقيقة: قاس للمتشائم حاله عليها فقال معقبًا:

رب نفس تلفها ظلمات

              وهي في عالم كثير الضياء «۱۱»

أي كذلك النفس أحيانًا، تضع نفسها في الظلام باختيارها والضياء من حولها كثير وافر، حتى تنسى تدريجيًا أن هناك ثمة ضياء عافته، فتنكر وجوده فيعجب المستنيرون، فيزداد المحبوس الواهم إنكارًا، ويظن العجب تكلفًا وملاحاة، فيفتتن، ويصرخ في حجرته المغلقة السوداء فلا يجد إلا صدى الظلمات، فيزداد فتنة، يظن الصدى تأييدًا.

لكن الذين فطنوا لمثال عزام في الساحات وعرصات العمل ماضون، تغمرهم أنوار الفطنة، وتغشاهم السكينة. 

إنه الخبر القديم الحديث لأنوار الآمال وظلمات الفتن، ليس هو خبر من نراهم اليوم فحسب فإن عبد القادر الكيلاني صادف المستظلمين، فوضع لهم معادلة قصيرة سهلة، لو أدركوها لخرجوا من تيههم، فقال:

«إذا خرج الزور: دخل النور» «١٢»

زور سوء الظنون في القلب، المسبب للتشاؤم وعبوس الوجه، فالظلام

●      ابتسامة الحياء مفتاح الأنوار

وخروج الزور يكون بالابتسامة وبانشراح الوجه عند اللقاء، فإن فيهما حماية أكيدة من الوقوع في أخطاء الظنون والتعرض لسهام الوسوسة وما أكفهر وجه وعبس إلا ترك في نفس المقابل هيبة من التصارح والتناصح.

أفلا ترى أن الطلاقة جنة

                   من سوء ما تجني الظنون ومعقل؟

ولا يطاوع الابتسام الفم إلا بلزوم حسن التأويل يرى الداعية الخطأ والاجتهاد المخالف فيسبق صاحبيهما إلى تلمس العذر والتبرير، ويميل إلى أجمل تفسير ويقف عند نصيحة الحارث المحاسبي لمناشدة أن:

«احم القلب عن سوء الظن بحسن التأويل» «۳۱»

ثم يحرص على أن يقرن الابتسامة والطلاقة بحياء لتتميز عن ابتسامة الاستصغار، التي قد يزينها الشيطان، بل يتخلق بخلق البهاء زهير حسين فخر فقال:

إذا قلت قولًا كنت للقول فاعلًا

                            وكان حيائي كافلي وضميني

تبشر عني بالوفاء بشاشتي

                     وينطق نور الصدق فوق جبيني «١٤»

فهما حياء وبشاشة، يبدوان معًا.

أو هي الفطنة، مفتاحها: ابتسامة الحياء يبتسمها الداعية، فتتوالى الأنوار، وتفيض تباعًا، وتتكامل، يعضد بعضها بعضًا، لتبدد ما هنالك من ظلمات الفتنة وتعصم من قواصم الإغواء.

إنها مصادر نور أوقدها فقه الدعوة من قبل، لا تزال قائمة تضيء تنتظر من يلوذ بها من المحتاطين الحذرين، والمستدركين التائبين: لتريهم درب السلامة الصحيح يوم تغزو الفتن زمرة القلب الواحد، ويستدرج التأويل الدعاة وتولد الغيبة سلاسل العيوب، ويرمي الشيطان بسهام الغرور والهوى والكبر وحب المدح، فتفترق الأرواح بعد تأليف، ويحتد التنازع في الرئاسة.

●      النور الأول:

●      الاستعاذة بالله من الفتن:

فأول قبس يتناوله الذي يرى الفتنة مقبلة: قبس الاستعاذة بالله منها، كما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين لقننا التعوذ منها بإطلاق، وكما فعل عمار بن ياسر -رضي الله عنه- لما تعوذ من فتنة الخلاف بين المسلمين، فقال: - فيما أخرجه البخاري- حين بدت بوادرها:

«أعوذ بالله من الفتن» مع أن عمارًا قد شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه من فئة العدل، وتقتله الفئة الباغية.

قال ابن حجر في الفتح: «فيه دليل على استحباب الاستعاذة من الفتن ولو علم المرء أنه متمسك فيها بالحق، لأنها قد تفضي إلى وقوع مالا يرى وقوعه» «١٥»

فقل مع عمار أيها الداعية وردد: أعوذ بالله من الفتن، وأكثر منها في كل أحوالك، يعيذك الله منها ويقبلك ويعصمك وإن كنت ساذجًا، فإنه سبحانه معين معيذ يرحم رجفة الخائف، وذلك الظن به -عز وجل- دومًا، فإن تجربة المستعيذين تجزم بأنه:

إذا اعتصم المخلوق من فتن الهوى

                         بخالقه: نجاه منهن خالقه «١٦»

ولكن انتبه: ليست الاستعاذة العابرة تجزيك بل أقرع باب الله بإلحاح، واهجر من يأبى القرع معك وتجنب صحبته، وأطرح نفسك على عتبة ربك العزيز بذل، حتى تسمع نداء الأمان. 

تلك وصية الناصح الحكيم، إليك وإلى الزاهد يوسف بن الحسين، لما شكا له يوسف من نفسه أخلاقًا لا يرضاها، وركونًا إلى الدنيا يفتنه، فكتب إليه أن:

«بسم الله الرحمن الرحيم: وصل كتابك وفهمت ما ذكرت، ومخاطبك أكرمك الله شريكك في شكواك، ونظيرك في بلواك إن رأيت أن تديم الدعاء وقرع الباب، فإن من قرع الباب ولم يعجز عن القرع: دخل، وإن تهيأ لك ما تريد من الصفاء والطهارة فدع ما أنت فيه من البلاء واقتراف مساوئ لا تجدي عليك منفعة في دينك ولا دنياك، وتجنب قرب من لا تأمنه على نفسك في مواصلة الغفلة والبطالة، واستعن على ذلك كله بالقناعة والتجزي، وسله أن يمن عليك بتوبة» «۱۷»

هذا في ثلاثين من أنوار الفطنة نتمها لك في المقالات القادمة إن شاء الله.

(1) الفتح الرباني لعبد القادر- ١٦٢

(۲) (۳) (٤) ديوان أبي العتاهية 287-50-72

(5) تاريخ بغداد 14-422 

(6) ديوان البحتري 1-449

(7) حلية الأولياء ١٠-٦٣

(8) للأميري في ديوان ألوان طيف -400

(9) سراج الملوك- ١٤

(10) الفوائد لابن القيم- ٦٧

(11) ديوان المثاني العزام - ٦٩

(12) فتوح الغيب لعبد القادر- ۳۷

(13) رسالة المسترشدين- ۸۹

(14) ديوان البهاء زهير-363

(15) فتح الباري 2-89

(16) ديوان أبي العتاهية- ١٧٦

(17) اللمع لطوسي- ٢٣٦.

الرابط المختصر :