; نساء مجاهدات في العصر الحديث.. زوجة «أحمد البس» وفن إدارة الأزمات صبر عند البلاء ووفاء في الضراء | مجلة المجتمع

العنوان نساء مجاهدات في العصر الحديث.. زوجة «أحمد البس» وفن إدارة الأزمات صبر عند البلاء ووفاء في الضراء

الكاتب مريم السيد هنداوي

تاريخ النشر السبت 11-أغسطس-2007

مشاهدات 13

نشر في العدد 1764

نشر في الصفحة 44

السبت 11-أغسطس-2007

  • ظلت عشرين عامًا تربي أبناءها من بيع أرضها دون أن تخبر زوجها في محبسه وفاء.

  • رغم ثراء عائلتها تزوجت من «أحمد البس» لصلاحه وتقواه .

  • كانت تكرم ضيافة عشرات الزائرين لزوجها وتغسل ملابسهم إذا اتسخت من السفر.

هي الزوجة الثانية للأستاذ أحمد البس؛ حيث تزوج زوجته الأولى (وكانت ابنة خالته) وهو في السابعة عشرة من عمره، في عام ١٩٣٥ م غير أن هذا الزواج كما يصف - لم يدم طويلا. بسبب عدم تقدير المسؤولية من الطرفين، فانفرط عقد الحياة الزوجية.. وبعدها عزف عن الزواج مرة أخرى، وكان والده يغمره بالحب والعطف، فألح عليه حتى تزوج من زوجته الثانية، وهي كريمة الشيخ سليم إبراهيم رامون.. وقد ولدت في قرية جناح - بالقرب من مركز بسيون حاليا - بمحافظة الغربية (شمال غرب مصر)، وكانت نعم الزوجة الصالحة كانت من عائلة كبيرة في الريف، فكان أقرباؤها من العمد ومشايخ البلد، مقارنة بحال زوجها الفقير.

لكنها وافقت على الزواج منه لعلمها بصلاحه وتم الزواج في عام ١٩٤٠م، وكان عمره ٢٤ عاماً؛ حيث ولد عام ١٩١٥م (١).

على طريق الدعوة

وكان الأستاذ أحمد البس قد التحق بركب الدعوة في عام ١٩٣٩م - قبل زواجه بعام - وبايع الإمام البنّا على العمل من أجل دعوة الله، في شهر رمضان ١٣٥٨هـ، ومنذ هذه اللحظة وهو أحد جنود دعوة الإخوان.. وسارت زوجته معه على طريق الدعوة، فكانت نعم المعين...

يقول المستشار عبد الله العقيل: «وقد وفقه الله لزوجة صالحة ومربية فاضلة، كانت السند القوي الذي يشد أزره، ويؤيد منهج الإخوان المسلمين. وكانت خدمتها لأبناء الدعوة لا تقل عن رعايتها لأولادها، الذين وفقهم الله. فنشأوا صالحين على مبادئ الإخوان المسلمين»(۲).

وكان إذا زارته مجموعة من الإخوان سارعت بحسن ضيافتهم وخدمتهم، دون تأفف من الأعداد الكبيرة التي كانت تتردد على زوجها، بل كانت تشعر بطاعة لربها في خدمتهم...

يقول الأستاذ البس عنها: «كان يأتيني الزوار من أرياف الغربية بالعشرات، فلم تتأفف يوماً من كثرة زواري بل كانت تقوم بالطهي وإعداد الطعام، وبعدها تعطيني جلبابي النظيف وتطلب الجلباب المتسخ، بل وتقوم بغسل جلابيب الضيوف جميعاً، إذا رأت أنها أتربت من أثر السفر. وبعد غسلها وتجفيفها تضعها تحت المراتب - وهو نظام كي الملابس المستخدم أيامها»(۳). 

حسن إدارة الأزمات، وقد ظهر معدن الزوجة الصالحة وقت الأزمات، ففي الفترة التي اعتقل فيها زوجها، ومكث بالسجن عاما ونصف عام من ٥ فبراير ١٩٤٩م، حتى ٦ يونيو ١٩٥٠م، كانت صابرة محتسبة وقامت على تربية أطفالها فأحسنت تنشئتهم، وكانت طوال فترة اعتقاله نعم الزوجة العفيفة التي - رغم ضيق ذات اليد - لم تطلب المساعدة من أحد، وتمثلت بقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 273)، وبعد أن خرج زوجها وجدها صابرة راضية بقضاء الله وقدره والأولاد في أحسن حال...

لكنه لم يمكث كثيراً، حتى اعتقل ثانية يوم الأربعاء ١٣ يناير ١٩٥٤م مع مجموعة كبيرة من الإخوان كان على رأسهم المستشار الهضيبي المرشد العام للإخوان وظلوا داخل المعتقل، حتى أفرج عنهم يوم ٢٦ مارس ١٩٥٤م، لكن ما كاد يخرج حتى استشعر بأن الحكومة وعبد الناصر يخططان لتوجيه ضربة قوية ضد الإخوان، فأخبر زوجته بأحاسيسه، وقرر على إثر ذلك المبيت خارج البيت كل يوم، فلم تجزع لذلك وكانت متمثلة بقول رسول الله r : «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»..

بيت بلا زوج

وصدقت مشاعره، فوجه عبد الناصر ضربته للإخوان بعد حادثة المنشية، وعلى إثرها اختفى الأستاذ البس حتى اعتقل بعد عشرة أشهر ولم يعد لبيته منذ خروجه، إلا بعد ثمانية عشر عاماً، في ١٤ يناير ١٩٧٣م. لكنها استطاعت في خلال هذه الفترة أن تتولى رعاية أولادها (٤).

لكن كيف عاشت الزوجة وأولادها هذه الفترة؟ وكيف ربت أبناءها؟ وكيف كانت تتحصل على المال في ظل التضييق الذي فرضه عبد الناصر على بيوت الإخوان؟

يجيب الأستاذ البس عن ذلك بقوله: لما دخلت السجن عام ١٩٥٤ أيام عبد الناصر وحكم عليّ بالسجن عشرون عاماً. فصلت من عملي كمدرس، ولم يبق لأسرتي مصدر للدخل من راتبي الذي قطع عنهم، وبعد مدة طويلة من السجن سمح لأهالينا بزيارتنا في السجن وجاءت زوجتي ومعها أبنائي وبناتي مظهرهم طيب وملابسهم قيمة، فبعد أن سلمت على زوجتي - يرحمها الله - وقبلت يدي، سألتها عن مصدر الأموال التي تعيشون بها، قالت وبغير تردد: فضلة خيرك يا حاج تبيع الأرض ونصرف على البيت. فشجعتها على ذلك، وقلت لها: بيعي كما تريدي، المهم أن تعيشي أنت والأولاد سعداء وكنت أظن ساعتها أنها تبيع من الأرض التي ورثتها أنا عن أبي، وظللت كل زيارة أسالها عن الأموال هل تكفيكم؟

وهي في كل مرة تقول: الحمد لله فضلة خيرك يا حاج، ثم يستطرد قائلاً: في أوائل السبعينيات خرجت من السجن دون أن تعلم أسرتي بساعة خروجي، وسافرت من القاهرة إلى طنطا حيث توجهت إلى منزلي فوجئت بي زوجتي فطارت فرحاً، وقبلت يدي كما تعودت وبعد سلامي على أولادي طلبت مني أن أدخل إلى حجرة النوم لأستريح بعض الوقت الذي ستقوم خلاله هي بإعداد طعام لي.

وعندما دخلت حجرة نومي وجدت حصيرا وغطاء على أرض الغرفة، سألتها وأنا في غاية الدهشة: أين سريرك النحاس يا حاجة؟ أين التسريحة؟ أين الكمودينو؟ فنظرت إلى بابتسامة

وكأنها تواسيني وتقول: كله يرجع في عزك يا حاج، وإذا بي أراها تضع طبلية خشب على الأرض عليها أطباق بلاستيك كل طبق من لون مختلف سألتها: أين حجرة السفرة وأطباق الصيني بتاعتك يا حاجة؟ قالت: كله سيرجع في عزك يا حاج!

 وعندما ألححت عليها أن تقص لي ما حدث. «حدثتني أن أهلي لم يوافقوا على بيع أرضي للإنفاق على أسرتي (لأنه في الريف من العيب أن يبيع الرجل أرضه فيعيره أهل البلد بذلك)، فقامت هي ببيع أرضها التي ورثتها عن والدها، وقامت بإنفاقها على البيت والأولاد، وبعد أن باعث أرضها كلها بدأت ببيع أثاث البيت حتى وصل الحال إلى ما رأيت.. ووالله ما عانيت يوماً ولا امتنت عليَّ يوماً بما فعلت، وذلك أثناء غيابي في السجن، وقمت بحمد الله - بعد خروجي - بشراء أثاث للبيت وشراء الذهب الذي كانت تقتنيه وباعته من أجل بيتي وأولادي» (٥).

وفاء

ويضيف قائلاً: «كانت تمر علينا سنوات لا أراها أو أحد من أولادنا، وتعددت البلاد التي سجنت بها، وكانت الزيارات تمنع أحياناً، وبعد أن خرجت من السجن وجدت زوجتي أزكى ما تكون زوجة، وأفضل ما تكون شريكة حياتي كل خصلة تركتها تحت يديها نمت وازدادت وكل جرح تداوى الأولاد أحسن ما يكونون خلقاً وعلماً وأدباً»، «ولكن كل ذلك لم يعلم به أحد، ولم يصل إلى ذل النفس ومد اليد». كل هذا الخير صنعته هذه الزوجة الكريمة، رغم تقصير كثير ممن كان يمكن أن يساعدوا من غير أن يجرحوا كرامتنا: لأنهم أهلنا ولكن الله أراد محنتي مصحوبة بالعزة والكرامة، ولا يكون لأحد فضل إلا الله جل وعلا.. فإيمان الزوجة أن تجوع وتمرض وتسافر وتحزن وتتألم وتكدح وحدها، وسط هذه المحنة الطويلة العميقة بعيداً عن أسماع الناس وأبصارهم (٦).

لم يكد الأستاذ أحمد البس يخرج من محبسه حتى عمت الفرحة أرجاء البيت بقدوم الطير الغائب، وبالرغم من اقترابهم على الستين عاماً، إلا أنها ظلت ترمقه بالعطف والحنان وتحنو عليه كما تحنو الأم على ولدها، حتى توفاها الله أواخر السبعينيات، فأسكب عليها الدمع مدرارا لفراقها، وظل وفياً لها ولدعوته حتى توفاه الله عام ١٩٩٢م.

--------------------------------------

الهوامش

(1)  أحمد البس، الإخوان المسلمون في ريف مصر، دار التوزيع والنشر الإسلامية بدون تاريخ.

(۲) المستشار عبد الله العقيل من أعلام الحركة الإسلامية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ١٤٢٠هـ، ٢٠٠٠م.

 (۳) الدكتور إبراهيم الزعفراني مدونة من الذاكرة ٢٤ /٥/٢٠٠٧م.

(٤) أحمد البس، مرجع سابق. 

(٥) حوار للدكتور إبراهيم الزعفراني على موقع الشبكة الدعوية.

(6) أحمد البس، مرجع سابق.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

زوجتي جميلة ولكن..!

نشر في العدد 2122

97

الأربعاء 01-أغسطس-2018