; صفحات مطويِّة من الثورة الإريترية | مجلة المجتمع

العنوان صفحات مطويِّة من الثورة الإريترية

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 17-أغسطس-1982

مشاهدات 18

نشر في العدد 583

نشر في الصفحة 32

الثلاثاء 17-أغسطس-1982

  • الحرب على المسلمين في إريتريا الزاوية الثالثة لحربي الخليج ولبنان.
  • 99% من جنود الثورة الإريترية كانوا من المسلمين.
  • أحد أعضاء الثورة القدامى يروي لـ «المجتمع» تجربة 7 سنوات في الثورة.

ثلاث مناطق، في أرض المسلمين، تشهد اليوم حروبًا قد تختلف طبيعتها، إلا أنها تلتقي في هدف واحد، وهو استنزاف المسلمين، وإشغالهم، والحيلولة دون أن يصبحوا أقوياء.

إحدى هذه الحروب هي حرب الخليج الدائرة بين العراق وإيران، والثانية هي حرب العدو للفلسطينيين في لبنان، والثالثة هي الحرب التي تشنها إثيوبيا على إريتريا والصومال في أفريقيا.

وإذا كانت هذه الحروب الثلاث تحقق هدفًا واحدًا وهو إضعاف المسلمين، فإنها ما كانت لتحقق هذا الهدف لو أنها انطلقت من الإسلام، وحكمته، وخضعت له.

فحرب الخليج بين العراق وإيران، ضحاياها جميعًا -تقريبًا- مسلمون، ولو حكَّم الفريقان الإسلام لما استمرت الحرب، ولحقنت دماء عشرات آلاف من المسلمين.

وحرب العدو اليهودي الغازي للبنان، ما كانت لتحقق هدفها وتجبر المقاومة على الموافقة على الانسحاب من لبنان، لو جعلت منظمة التحرير منطلقها إسلاميًا، إذ إنها كانت ستجد النصرة -الحقيقية- من جميع المنظمات والشعوب الإسلامية، بدلًا من هذا الخذلان الذي واجهتها به الأنظمة العربية.

وأخيرًا، حرب إثيوبيا على المسلمين في الصومال وإريتريا، ما كانت لتستمر هذا الزمن الطويل، لو أن حاكم الصومال لم يئد الحركة الإسلامية، ويحاربها، ويعتقل شبابها طوال فترة حكمه الممتدة، ولو أن جبهة التحرير الإريترية حافظت على منطلقها الإسلامي الذي لم يعمر طويلًا، ولم تتوزعها القيادات العلمانية واليسارية والمتاجرة بها. 

وحول هذه النقطة الأخيرة، يدور لقاؤنا الذي أجراه مراسلنا في أوروبا، مع أحد الذين تابعوا الثورة الإريترية منذ انطلاقتها الأولى، وعرفوا كثيرًا من خباياها، وأدركوا أنه لا يمكن للثورة الإريترية أن تحقق غايتها، ما لم تعد إلى الإسلام الذي انطلقت منه. إنه يكشف في هذا اللقاء كثيرًا من الأمور التي تنشرها «المجتمع» للمرة الأولى.

اسمه عبد القادر بكر حمدان، التحق بجبهة التحرير الإريترية في عام 1965م وتلقى دورة عسكرية في سورية، ثم دخل الميدان في شهر يوليو 1966م، وقاتل في المنطقة الثالثة التي كانت تسيطر عليها الجبهة.

ويصف السيد حمدان تلك المرحلة بأنها كانت مرحلة بناء جيش التحرير الإرتيري. في الوقت الذي كانت فيه أجهزة الإعلام الإثيوبي -في عهد «هيلاسيلاسي»- تعتم على الثورة، وكانت المساعدات المقدمة للثورة ضئيلة، ومع هذا فقد كانت معنويات الجنود عالية جدًا، وإرادة التحدي أعظم بكثير مما هي عليه الآن. وكنا نعتقد أن تحرير إريتريا من أبسط الأمور، غير أن الأمور سارت بعد ذلك على غير ما كنا نأمل.

تصور -يقول لي السيد حمدان- في عام 66 – 1967 كان 99% من الجنود المقاتلين مسلمين، ينتمون إلى قبيلة الأساورتا التي تسكن على خليج أرافلي في مرتفعات إريتريا. لقد سبق المسلمون إلى حمل السلاح، ولم يشترك النصارى طوال الستينيات في القتال ضد إثيوبيا، لقد دارت معارك طاحنة بين الثوار وجنود العدو الإثيوبي آنذاك ولم يعرف عنها العالم، وذلك لأن البيانات التي كانت تصدر من مكاتب جبهة التحرير الإريترية في الخارج.. كانت تعتمد على التخمين.

قلت للأخ عبد القادر: لو عدتم بالقارئ إلى بداية الثورة الإريترية في عام 1961 وحدثتموه كيف كانت؟

قال: دوت الرصاصات الأولى بقيادة الشهيد حامد إدريس حواتي في 1/9/1961، مع بضعة مقاتلين يحملون بنادق إيطالية عتيقة، تحت لواء جبهة التحرير الإريترية، وعلى أساس برنامج محدد ومختصر يهدف إلى توحيد الشعب الإريتري في جهاده ضد الاستعمار الإثيوبي من أجل الاستقلال الوطني بالكامل، وعلى الرغم من عدم الوضوح التام الذي اكتنف البرنامج، فقد كان الهدف المطروح، وهو الاستقلال، كافيًا لاستقطاب معظم قطاعات الشعب الإريتري، لتسهم في دفع حركة الجهاد طوال السنوات الماضية.

إن التضحيات التي قدمها مجاهدونا، كان يمكن أن تحقق نتائج أفضل بخط وبرنامج سياسي واضح المعالم، يستلهم المبادئ الإسلامية المعبرة عن آمال الجماهير. وإن الرصد الموضوعي لمن شارك في تلك المرحلة يؤكد- وفقًا لما ترتب من نتائج- أن افتقار جبهة التحرير الإريترية إلى دليل عمل سياسي أدى بالحركة إلى مجموع من الأوضاع المؤسفة.

قلت: هل لنا أن نعرف تفاصيل هذه الأوضاع؟

قال: يمكن الحديث عنها على صعيدين: الصعيد الجماهيري والصعيد العسكري.

على الصعيد الجماهيري: تميزت العلاقات بين الشعب والثورة بالمقاييس القبلية، وعدم الاقتناع الحقيقي بأهداف الثورة، مما بلور السلوك القبلي والإقليمي والطائفي الموروث من الاستعمار القديم، وقد ترتب على هذا تصدع الوحدة الوطنية، وتدهور إمكانيات الثورة المادية والمعنوية، مما أتاح للعدو أخذ زمام المبادرة في تحقيق نجاحات نسبية في خنق الجهاد الإريتري إعلاميًا.

على الصعيد العسكري: يمكننا أن نقول: إنه نظرًا لعجز القيادات المفجرة للثورة عن وضع استراتيجية ترضي الأطراف المشاركة جميعها، طرحت نظرية تقسيم الثورة الإريترية إلى مناطق عسكرية بحجة تغطية المساحة الإريترية ووصول الجهاد إلى كل شبر فيها.

ولقد أدركت العقلية المخططة حقيقة فشلها، وأرادت بذلك أن تمارس سلطاتها دون منافس، وكان التقسيم مرتعًا خصبًا لبروز التكتلات القبلية والإقليمية والطائفية، وطفحت ظاهرة التشرذم ومراكز القوى. وبذلك كله أصبح جيش التحرير الإريتري فاقدًا وحدته. وبات مطية لتحقيق التطلعات الفردية، وانصرف عن أداء واجبه الأساسي في مواجهة قوة التسلط الإثيوبي. 

قلت: لقد كنت واحدًا ممن عاشوا تجربة عملية في الثورة الإريترية، وكان عمر تجربتك سبعة أعوام، فهلًا حدثتنا عن هذه التجربة كيف بدأت وكيف انتهت؟

قال: إثر تصاعد الإرهاب البوليسي في مصوع، اضطر عدد كبير من العمال والطلاب الإريتريين إلى الهجرة إلى الأقطار المجاورة في ظروف بالغة الصعوبة، فلم يكونوا يملكون أوراقًا رسمية تثبت شخصياتهم. ففي يوم 25/3/1965 كنت واحدًا ممن أرادوا ترك الوطن بحجة تأدية فريضة الحج. وكان الحصول على الترخيص بمثابة معجزة لعدم السماح لمن هم في مثل سني بالسفر وحيدًا إلى الخارج، فقد كان موظف الجوازات أخًا لزميل والدي في العمل، فتمت التوصية لي ولابنه الذي كان هاربًا أيضًا من التعسف الأمهري.

لم أكن أعرف كثيرًا، قبل سفري من إريتريا، عن الثورة الإريترية. فقد كان الحديث عنها في مدينتنا قليلًا، إلا أن الاعتقالات بالجملة وحديث الكبار عن بطل إريتري اسمه حامد حواتي يحارب الاستعمار الإثيوبي، ومحاولة المدرسين تعليمنا الأناشيد الوطنية التي كانت تلهب مشاعرنا، كل ذلك أكد لنا ونحن في حداثة السن، أن وطننا مستعمرًا دخيلًا، وكل من عرفته في تلك الفترة كان تواقًا لمعرفة الرموز: ما الثورة؟ من هو حامد حوتي؟ 

وفي يوم 26/3/1965 وصلت إلى مدينة جدة التي لم تكن تختلف كثيرًا عن مصوع في الطقس والمعمار، وحسبت أني سأكتشف الكثير بعد لقائي بأبناء وطني، لكنني وجدتهم يحتلون ركنًا من مدينة جدة، يمارسون فيه اجتماعاتهم وسهراتهم المألوفة في إريتريا، كما أن العادات لا تختلف كثيرًا في المملكة.

أمضيت الأسبوع الأول بعد وصولي في زيارة الأقرباء ممن سبقوني في الهجرة، فكان بعضهم يمطرني بالأسئلة حول الأوضاع في إريتريا، وبخاصة فيما يتعلق بهجوم قوات الثورة في منطقة «منسع». ثم حضرت اجتماعًا لفرع الجبهة في جدة، تليت فيه رسالة من الميدان ذكرت فيها تفاصيل المعركة في منسع، كما تلوت أسماء الشهداء في المعركة، فتقدم ذووهم بالدعوة لبناء سرادق بعد الاجتماع لاستقبال المعزين، واتضح لي أن الجماهير المقيمة في جدة اعتادت على تحمل الصدمات وتلقي أخبار استشهاد المقاتلين. وفي هذا الاجتماع تمت مبايعتي للتنظيم بالقسم على كتاب الله. وتأكد لي أن استراتيجية الفرع تعتمد على كسب المواطنين وتنظيمهم في الجبهة قبل انتهاء مدة الحج، ثم تسليمه دستور الجبهة وبطاقة العضوية التي كانت تعتبر بمثابة جواز سفر إريتري.

وعلى الرغم من الصعوبة التي واجهتنا في فهم بنود الدستور، وفوات معظم الجمل العربية في المحاضرات، فإن الأخ نكروما، والذي سبقنا في الهجرة بعشرة أعوام، كان يوضح لنا النقاط ويروي لنا قصة الثورة الإريترية. وكان اللقاء يضم عددًا كبيرًا من المقيمين في مقهى «حراج» في جدة. ويستمر حتى ساعة متأخرة من الليل.

وبعد مرور ستة أشهر: أصبحنا من أعضاء الفرع، وزارنا يومها عثمان صالح سبي، وكان عضو المجلس الأعلى، واجتمع مئات الإريتريين من مختلف أنحاء المملكة لسماع محاضرته السياسية حول التطورات العسكرية في الميدان.

كان سبي هادئًا في كلامه، دعا الإريتريين إلى تحديد موقفهم تجاه الصراع الإريتري الإثيوبي، وشكرهم على ما قدموه من عون مادي، وقال: إنه لم يأت من أجل جمع المساعدات المالية، بل من أجل الحديث عن عشرات الضحايا الذين سقطوا في ميدان الشرف، في الوقت الذي أجد فيه شبابنا الإريتري متسكعًا في شوارع المملكة.

وناشد الشباب حمل السلاح، وأعلن أن الجبهة حصلت على منح عسكرية في بلد عربي مناصر للقضية الإثيوبية.

ولم يغادر سبي مكانه إلا وقائمة طويلة من أسماء المتطوعين أصبحت مسجلة لديه، وكان على رأسها الشهيد البطل أحمد عمر حسب الله، الذي قاده والده إلى مكتب الجبهة طالبًا تسجيله، وكان هذا الموقف مشجعًا للشباب.

كنت مضطرًا لانتظار ولي أمري (خالي موسى) الذي كان يعمل على باخرة سعودية لأستأذنه بالسفر مع رفاقي إلى سورية للدراسة. ووصل خالي وحصلت منه على موافقة شفهية سريعة لضيق الوقت ولمغادرة الباخرة ميناء جدة، فقد أكدت له أن سفري لأغراض دراسية فقط.

وبعد أن تأكد سفرنا سمح لنا بمقابلة ومناقشته حول المهام المستقبلية، وكان يرد على أسئلتنا كما لو أننا مسافرون في نزهة.

ثم قسمنا إلى دفعات، وأدرج اسمي ضمن المجموعة الثانية، وقمت بتسليم مرور الحج إلى المكتب حيث تمت الإجراءات لاستخراج مرور سفر.

وفي يوم 30/9/1965 غادرنا مطار جدة باتجاه دمشق، حيث كان في انتظارنا إبراهيم إدريس محمد آدم عضو المجلس الأعلى والمسؤول عن مكتب الجبهة في دمشق. قدمنا رسالة التنظيم ونقلنا بعدها إلى فندق في المرجة، ثم جاء مسؤول المكتب ومعه سيارة الجيش المكلفة بنقلنا إلى معسكر التدريب في قطنا، حيث التقينا بأصدقائنا في جدة. ولأول مرة أسأل عن انتمائي القبلي، وكان ردي وبقية الزملاء: من مصوع، فلم نكن نعرف في المدينة هذه الانتماءات كنا نسمع في مدينتنا بالنبي عامر أكبر القبائل الإريترية، ودورها في إشعال الثورة في إريتريا. كما كنا نسمع عن الباريا والماريا ومشاركتهم الفعالة في الثورة وبطولاتهم فيها، وكنا نعرف قبيلة (الدنكل) وتعاملهم في التجارة في مصوع، وهم جزء من سكانها. إضافة إلى أسماء قبائل كثيرة لم أسمع بها إلا في المعسكر. 

وهكذا أدركت أن مشكلتي لا تكمن في ضعفي بتحدث اللغة العربية وما احتاجه من جهد لتعلمها وإتقانها فقط، بل هناك أيضًا معرفة هذه القبائل. ولحسن حظي، لم تكن القبائل جميعها ممثلة في دورتنا، وإلا لأمضيت الفترة كلها في التعرف على القبائل وعاداتها في إريتريا.

وعلى الرغم من كثرة أصدقائي في الدورة، وانسجامي معهم، فقد بدأت أشعر بالقلق لما يخبئه لنا القدر من مفاجآت. كما بدأت التناقضات بين المتدربين في المعسكر تظهر، لانغلاق كل مجموعة على نفسها. ومن الطرائف التي تروى في هذا الصدد، أن مجموعة «الدناكل» تمردت لدخول زميل لهم في السجن العسكري لتمضية عقوبة مدتها 24 ساعة، وحاول الشهيد علي عثمان -وينتمي للقبيلة نفسها- تهدئة مجموعته بعد إخفاق جميع المحاولات.

في العدد المقبل، إن شاء الله، نواصل تقليب «الصفحات المطوية من الثورة الإريترية».

الرابط المختصر :