العنوان صفحات من دفتر الذكريات «4»- الفضيل الورتلاني «الجزائري»
الكاتب الدكتور توفيق الشاوي
تاريخ النشر الثلاثاء 05-يوليو-1994
مشاهدات 10
نشر في العدد 1106
نشر في الصفحة 44
الثلاثاء 05-يوليو-1994
كان الشيخ الفضيل الورتلاني أول المناضلين الجزائريين الذين وصلوا إلى مصر للدعوة لقضية بلادهم قبل الحرب العالمية الثانية، وكان أول من تعاون مع الإخوان المسلمين من رجال الكفاح الوطني في شمال إفريقيا، وأول من انضم إلى جماعة الإخوان حتي أصبح واحدًا منهم، لذلك لم يكن يقصر جهده على قضايا إفريقيا الشمالية، بل كان يسهم في كفاحنا من أجل جميع القضايا الإسلامية، وفي مقدمتها قضية فلسطين، ولما فتح الإخوان باب التطوع للجهاد في فلسطين سارع بالكتابة إلى أصدقائه في الجزائر وغيرها من أقطار الشمال الإفريقي، وخصوصًا من كان منهم يقيم في فرنسا، يحثهم على التطوع والمساهمة في الجهاد بأنفسهم أو بتشجيع غيرهم على الحضور إلى مصر للذهاب إلى فلسطين ضمن أفواج المتطوعين الذين ترعاهم الجامعة العربية..
ولقد كان الشيخ الفضيل عضوًا بارزًا في جمعية العلماء المسلمين بالجزائر وأوفدته الجمعية إلى فرنسا للاتصال بالجزائريين وأبناء الشمال الإفريقي المقيمين بها ونشر الدعوة الإسلامية بينهم، ثم أوفدته إلى مصر لإقامة علاقات وثيقة بالحركات الإسلامية فيها، وفي مقدمتها الإخوان المسلمين، وأصبح واحدًا منهم ووجد في هذه الحركة مجالاً واسعًا للعمل سواء لقضية بلاده أو غيرها من قضايا العالم الإسلامي، وأصبح عضوًا هامًا في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وكان هو المختص في هذا القسم بقضية الجزائر وشمال إفريقيا الخاضعة للاحتلال الفرنسي، وكان كثير النشاط مهتمًا بالدعاية لقضية الجزائر بالذات وقضايا بلاد المغرب كلها بصفة عامة، وكان لا يترك أي فرصة دون أن يتكلم في قضية الجزائر ويدعو الناس للاهتمام بها، وكان له الفضل في أنه لفت نظرنا جميعًا إلى هذه القضية وقد زادت حماسته في هذا الميدان في نهاية الحرب العالمية الثانية عندما أنشئت الجامعة العربية واهتمت بمشكلة سوريا ولبنان التي كانت باكورة نشاط الجامعة العربية بعد إنشائها، وكان العرب وشعوبهم ودولهم وجامعتهم مطالبين باستقلال سوريا ولبنان، ولذلك كان الرأي العام في الإخوان وفي مصر بصفة عامة مشحونًا ضد فرنسا التي تقاوم الحركة الوطنية في سوريا ولبنان، وكان الشيخ الفضيل الورتلاني يربط قضية بلاده بقضية سوريا ولبنان، باعتبار أن الاستعمار الفرنسي هو العدو المشترك للحركات الوطنية في كل هذه البلاد، وكان بارعًا في انتهاز كل فرصة ليذكرنا بقضية بلاده، وعندما تكون الاجتماعات خاصة بفلسطين أو ليبيا كان يربط بينها وبين قضية الجزائر باعتبار أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر كالاستعمار الإيطالي في ليبيا، كان استعمارًا استيطانيًا مثل الاستعمار الصهيوني في فلسطين.
وقد توثقت علاقتي بالشيخ الفضيل في بادئ الأمر بسبب تعاوننا في العمل لقضية فلسطين، وحينما اتجه الإخوان إلى الدعوة للجهاد المسلح ضد الصهيونية والاستعمار الإنجليزي بها، وفتح باب التطور والتدريب على السلاح لمن يريد المساهمة في الكفاح، فقد كان أكثر الناس اندفاعًا نحو العمل المسلح والعمل الفدائي كعادة الجزائريين جميعًا، بل بدأ يكتب الخطابات ويبعث الرسل إلى أبناء شمال إفريقيا في كل مكان يدعوهم إلى التطوع والتسلح والمشاركة في الجهاد في فلسطين، وكان يعتبر ذلك في نظره استعدادًا للجهاد في الجزائر وغيرها من بلاد إفريقيا الشمالية في الوقت المناسب الذي كان يراه قريبًا. وقد بدأنا نهتم بقضايا الجزائر وشمال إفريقيا بناء على إلحاحه وإصراره، وكان هو أول من تولى هذه القضايا في قسم الاتصالبالعالم الإسلامي.
أذكر أنه بعد إحدى المظاهرات التي اشتركنا فيها لتأييد قضية فلسطين جذبني الشيخ الفضيل من يدي وقال لي: إن شابًا جاء من الجزائر مندوبًا عن الحزب الوطني هناك وعلينا أن نذهب إليه في دار الشبان المسلمين وذهبت أنا والأستاذ عبد الحفيظ الصيفي معه، وعندما وصلت هناك وجدنا أنه يدعى الشاذلي مكي وقدم لنا ملفًا كاملاً عن حوادث قسنطينة وسطيف التي راح ضحيتها آلاف من الجزائريين يوم الثامن من مايو ١٩٤٥م، لأن الجيش الفرنسي أطلق النار على المتظاهرين لمجرد أنهم رفعوا راية الأمير عبد القادر الجزائري في موكبهم بمناسبة الاحتفال بانتهاء الحرب، ولم يكتف الفرنسيون برصاص البنادق بل استعملوا المدفعية والطائرات ونيران الأسطول فضلًا عن المعتقلات والسجون التي أصبحت تضم آلافًا من أبناء الجزائر، كان الفرنسيين أرادوا الانتقام من الجزائريين بسبب موقف الدول العربية المؤيد لاستقلال سوريا ولبنان، وأن يذكروهم بأنهم ما زالوا أقوياء ومصممون على البطش بهم.
تأثرت كثيرًا لهذه الأنباء، وقلت لمن معي إننا لم نستطع أن نحقق شيئًا لفلسطين، والآن تفتح لنا جبهة جديدة في الجزائر، قال لي الفضيل إن الجزائريين هم الذين سيحررون فلسطين.
حدث بعد ذلك أنه طلب مني أنا والأستاذ عبد الحفيظ الصيفي أن نذهب إلى الفندق الذي نزل به الحبيب بورقيبة عندما وصل إلى مصر هاربًا من تونس، وكان اسمه لوكاندة مصر بالعتبة الخضراء، وهناك عرفنا أنه رئيس حزب الدستور التونسي الجديد، وذهبنا بعد ذلك معًا إلى اللواء صالح حرب باشا رئيس جمعية الشبان المسلمين في ذلك الوقت نطلب منه أن يأمر باستضافة الحبيب بورقيبة بدار الشبان المسلمين حيث بقى هو والشاذلي مكي فترة حتى وجد مسكنًا آخر، وذهب معنا أيضًا عبد الرحمن عزام لنحدثه بشأن مساعدة الأمانة العامة لممثلي الحركات الوطنية في الجزائر وتونس والمغرب وشملت عناية الجامعة العربية الزعيم علال الفاسي رئيس حزب الاستقلال المغربي عندما وصل إلى مصر كذلك بعد الإفراج عنه من المعتقل الذي قضى فيه تسع سنوات في الجابون بغرب إفريقيا.
في كل الحفلات العامة والاجتماعات الخاصة بدار الإخوان المسلمين أو الشبان المسلمين أو غيرها لم يكن الفضيل الورتلاني يترك فرصة دون أن يخطب ويحاضر ويدافع عن قضية الجزائر وخصوصًا بعد إنشاء الجامعة العربية واهتمامها بقضية سوريا ولبنان، ولذلك كان الإخوان يسمونه الفضيل الجزائري، لأن كلمة الورتلاني، كانت غريبة عليهم.
إن اهتمام المصريين بقضية سوريا ولبنان جعل الجو في مصر مهيأ تهيئة كبرى للدعوة التي بدأها الفضيل الجزائري لتعريف المصريين ولفت نظرهم إلى القضايا الوطنية لشمال إفريقيا خصوصًا بلاده الجزائر فضلًا عن تونس والمغرب وليبيا، وكان أمامه فرصة كبيرة لإثارة حماس الإخوان للدعاية لهذه القضايا والدفاع عنها والدعوة للتضامن معها باعتبارها مكملة لقضايا سوريا وفلسطين وقضايا مصر وجميع القضايا الإسلامية، ولم يكن يجد صعوبة في ذلك، لأن الإخوان كانوا يتحمسون لجميع القضايا الوطنية في البلاد العربية والإسلامية كما أنه لم يقصر في مشاركتنا في العمل لقضية فلسطين والقضايا الإسلامية الأخرى، وبعد الحرب مباشرة كان له معنا دور كبير في الدعاية لقضية إندونيسيا التي بدأت عقب انتهاء الحرب وكان الطلبة الأزهريون الإندونيسيون في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي يقومون بجهد منظم ومنسق للدعاية لقضية استقلال إندونيسيا واشتركنا جميعًا في الدعاية لها رغم أنها أقصى أقاليم آسيا وأبعدها عن مصر وعن شمال إفريقيا وفلسطين.
لما سمع الفضيل أنني رشحت للبعثة في الخارج، وعلم أن آخرين رشحوا للسفر إلى فرنسا ألح علي في السفر إلى باريس وحرض علي آخرين لتأييده في هذه الخطة، ونجح في إقناع المرشد العام الشهيد حسن البنا بأن يلزمني بذلك من أجل قضايا فلسطين والجزائر وشمال إفريقيا، وعندما ذهبت إلى فرنسا في البعثة لم يتركني الفضيل الورتلاني بل كان يواصل الكتابة إلى فترة طويلة يذكرني في خطاباته لي بوعدي لهم في مواصلة العمل لقضية الجزائر وقضايا شمال إفريقيا عامة وبالسفر إلى الجزائر، وكان يقول لي: إن باريس هي عاصمة النضال الإفريقي، وأن علي أن أبدأ العمل فورًا مع من أجدهم هناك من أجل حرية خمسة وعشرين مليونًا من المسلمين تحكمهم فرنسا بالحديد والنار في إفريقيا الشمالية وتستعبدهم وتحرمهم من حقوقهم، ولكنهم الرصيد الأكبر للحركة الإسلامية والتيار الإسلامي، والجهاد في سبيل عزة الإسلام ومستقبله.
ليس من الممكن لي أن أنسى الفضيل الورتلاني ولا يمكن لأحد من مناضلي الحركات الوطنية في الجزائر وتونس والمغرب أن يتجاهل دوره في إيقاظ عاطفة التضامن لدى جماهير المشرق العربي ومصر بالذات مع قضايا شعوب أقطار إفريقيا الشمالية.
وعندما عدت إلى مصر في عطلة صيف عام ١٩٤٧م كان الفضيل الورتلاني الجزائري من أول من التقيت بهم وقدمت له تقريرًا عما يجري في باريس، ولكن الموضوع الذي شغلنا أكثر كان هو العمل لفلسطين حيث كانت قضيتها معروضة على هيئة الأمم التي أصدرت قرارها بتقسيم فلسطين أثناء وجودي في القاهرة، وكان الفلسطينيون والإخوان ينظمون المقاومة المسلحة والسياسية للاحتلال الإنجليزي والصهيوني في فلسطين، وقد التقينا بالمفتي الأكبر الحاج أمين الحسيني في منزله بالقاهرة عدة مرات وكان حديثه كله عن المقاومة المسلحة، وأنه لا سبيل أمامنا غيرها وقد استجاب الإخوان لذلك ودربوا أعدادًا كبيرة من المتطوعين وجمعوا لهم الأسلحة في حدود استطاعتهم بل كانوا يزودون المقاومة الفلسطينية بالسلاح والذخيرة وأرسلوا وفودًا متتالية منهم وكتائب من المتطوعين للقتال في القدس وفلسطين بشكل عام، وكان كل وفد وكل كتيبة يرافقها عدد من العلماء والكتاب الذين كانوا يشاركون في عمليات المقاومة، وقد عرفني الشيخ الفضيل الورتلاني بعالم تونسي كبير هو الشيخ محيي الدين القليبي الذي جاء مهاجرًا من تونس ومعه عدد من شباب تونس بقصد التطوع للدفاع عن فلسطين، وقد حدثني الشيخ القليبي حديثًا طويلًا عن الحركة الوطنية، في تونس وعرفني أنه كان من أعضاء حزب الدستور القديم الذي أسسه علماء الزيتونية وعلى رأسهم الشيخ الثعلبي رحمه الله و«أن بورقيبة كان من شباب ذلك الحزب، لكنه انشق عليه، وتمرد على قيادة العلماء، وأنشأ حزبًا سماه «الدستور الجديد» الذي يرأسه بنفسه وجعل هدفه مهاجمة الحزب القديم»، وأن أعضاء الحزب القديم تفرقوا.
وأنه شخصيًا لم يعد يهتم بهذه الحزبيات القطرية الوطنية، ويرى أن الوقت قد حان لوجود حركة إسلامية شاملة للعالم الإسلامي كله، وأنه اقتنع بأن الإخوان المسلمين هم الذين يمثلون هذا الاتجاه، ولذلك فإنه بايع الشيخ حسن البنا، وأنه عمل وما زال يعمل لبعث الاتجاه الإسلامي في تونس بالطريقة التي يتبعها الإخوان، وهي تربية الشباب، وتكوينهم على الأصول الإسلامية، لكي يحملوا مسئولية الدعوة هناك، وأنه يعتبر الجهاد في فلسطين هو أول مراحل هذه التربية، وجاء إلى مصر لهذا الغرض، ودعا من يستطيع من الشباب لكي يلحقوا به.
أما حزب بورقيبة فهو لا يعطي له اهتمامًا كبيرًا، لأنه يسير في طريق المفاوضات والمظاهرات والزعامات المتطلعة للسلطة، وأن له تحفظات كثيرة على رئيسه الحبيب بورقيبة الذي كان قد لجأ إلى مصر قبله منذ عام ١٩٤٥م، ودخلنا في حوار حول فائدة اتصالاتي مع هذا الحزب وغيره من الأحزاب الوطنية، في شمال إفريقيا وكان يرى أن ذلك لا فائدة منه لأنهم جماعة انتهازيون أداروا ظهرهم للأصول الإسلامية والتيار الفكري الأصيل، وأن بورقيبة وأمثاله ليس لديهم مانع من التخلي عن هوية شعبهم وأصالته الإسلامية وعروبته إذا كان ذلك يمكنهم من الوصول إلى المناصب والسلطة في بلادهم، وأدهشني أن الشيخ الفضيل قد انحازإلى هذا الرأي- لأنه يمثل جمعية العلماء، ولم يكن معروفًا عنها الدعوة للكفاح المسلح- والآن وجدته يعلن أن الطريق الوحيد للعزة والحرية هو طريق العمل الجذري والمقاومة المسلحة لاقتلاع النفوذ الأجنبي، وبأن طريق المفاوضات والحوار مع الاستعمار سيؤدي إلى وجود عملاء من نوع جديد يرفعون شعارات وطنية يكونون أشد بأسًا على شعوبهم من العملاء «التقليديين»، أنهم يتبرعون من الأصول الإسلامية، بل ومن العقيدة والشريعة إذا وجدوا في ذلك مصلحة لأشخاصهم أو أحزابهم.
وفي هذه الفترة عرفني الفضيل الورتلاني كذلك بعالم تونسي كبير هو الأستاذ الشيخ الفاضل بن عاشور الذي كان يزور مصر وجلسنا معه مرارًا وتحدثنا عن الحركة الوطنية في تونس فأيد ما قاله لي الشيخ القليبي وأبدى شكوكه فيما يتعلق بمن يتزعمون الحزب الدستوري الجديد وبالسيد الحبيب بورقيبة بالذات، وتمنى أن توجد في تونس حركة مماثلة للإخوان المسلمين، ولكنه يرى أن تبدأ كفاحها في تونس على الأصول الإسلامية، وأعرب عن أمله في أن يرسل الإخوان دعاة إلى تونس وتمنى أن أستطيع زيارة تونس أثناء إقامتي في باريس، حيث إن الطريق من هناك مفتوح على حد قوله ووعد بأن يساعد من يرسله الإخوان من الدعاة ويساعدني أيضًا إذا ذهبت إلى تونس بأن يعرفني ببعض تلاميذه وطلبته الذين يتمنون السير في هذا الاتجاه الإسلامي الأصيل.
وهنا أيد الورتلاني هذا الاقتراح، وقال: إننا يجب ألا ننحصر في مصر وفلسطين بل لا بد من الاهتمام بإفريقيا الشمالية، وقلت له: إن مهمتي هي التعاون مع الأحزاب الوطنية، أما تربية الشباب وتكوينهم سواء في مصر أو في غيرها فهي من اختصاص قسم الدعوة، فقال: إن واجب الإخوان الأول أن ينشروا دعوتهم في جميع البلاد العربية والإسلامية وإن تعاونهم مع الأحزاب الوطنية ليس معناه ألا يكون لديهم دعاة في كل البلاد، وقلت له إنني أعتقد أن هذا هو المبدأ الذي سار عليه الإخوان، كل ما هنالك أنهم قرروا أن يكون عمل الدعاة من اختصاص المركز العام في مصر، وألا يتدخل فيه من يكلفون بالتعاون مع الأحزاب الوطنية أمثالي، وأن تكون مهمة هؤلاء هي إقناع ممثلي الأحزاب الوطنية وقادتها بأنه لا تعارض مطلقًا بين تعاون الإخوان معهم في عملهم الوطني وبين قيام دعاتهم بنشر الفكر الإسلامي وتدعيم التيار الإسلامي في المجتمع وخاصة في أوساط الشباب والطلاب.
«*» أستاذ القانون الدولي السابق بجامعة القاهرة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل