; ضوابط في العمل الدعوي تأثير الهوى على صاحب القلم.. منزلق خطير | مجلة المجتمع

العنوان ضوابط في العمل الدعوي تأثير الهوى على صاحب القلم.. منزلق خطير

الكاتب د. جاسم المهلهل آل ياسين

تاريخ النشر الثلاثاء 24-أكتوبر-1989

مشاهدات 27

نشر في العدد 938

نشر في الصفحة 44

الثلاثاء 24-أكتوبر-1989

 

العلم بالكتاب والسنة أمان من السقوط والتخبط في مستنقع الخلافات.

العمل الدعوي ميدانه واسع ومجال التحرك فيه بحر لا نهاية له.

ولم لا، وإطاره الأرض، مطلق الأرض وميدانه الإنسان من غير حد للون أو جنس أو لغة، وعمل بهذه الفسيحة من غير شك، ستعصف فيه رياح الأفكار والاجتهادات وستعتلي به أمواج المقالات والأطروحات، وهذا الكم الهائل من الوجودات الكتابية الإسلامية الشرقية والغربية لدليل واضح على ما ذكرنا. وهذه الثروة الفكرية والكتابية بلا شك لها جوانب سلبية كما لها مجالات إيجابية، أما السلبية فترجع لأمور كثيرة منها:

1.     عدم انضباط ما هو مطروح بالكتاب والسنة وبمنهج، وثوابت سلف الأمة رضوان الله عليهم.

2.     تدخل الهوى والضغوطات السياسية والاجتماعية والحزبية على صاحب القلم.

3.     التحليلات الجزئية والإلزامات الكلية العامة.

4.     محدودية المطلع على ما هو مطروح وعدم إدراكه للمراد كما قال ابن مسعود: «ما أنت محدثًا قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».

5.     الاسترسال بالرمزية في الكتابات الإسلامية العامة.

هذا بعض وغيره مؤثر كذلك، وتأثيره متحصل بصور مختلفة منها:

1.     تشكيك الشباب في أفهامهم وعلومهم التي أخذوها.

2.     إيجاد حوارات ومجادلات خالية من النضج والفهم.

3.     انشغال الكتاب بعضهم ببعض ردًا ونقدًا، وما يترتب على ذلك من نزغ شيطاني يفسد الود في النفوس.

4.     وجود تحزبات حول الكتابات والتعصب لها وهدم الشخصيات الإسلامية.

5.     وجود مادة كتابية من خلال الردود بين الكتاب الإسلاميين يستغلها أصحاب الأغراض السيئة من العلمانيين وغيرهم.

6.     الالتهاء عن مواجهة العدو المشترك من أصحاب المعتقد الفاسد.

 

محاولة للعلاج

هذه بعض التأثيرات التي أسأل الله أن يعين العاملين في حقل الدعوة أن يعالجوها بكتاباتهم وحواراتهم، ومقالاتنا هذه التي بين يديك أخي الداعية هي محاولة لمعالجة الأمر الأول «تشكيك الشباب في أفهامهم وعلومهم التي أخذوها» وذلك من خلال وضع شبه ضوابط يحتكم لها حين القراءة والاطلاع على المكتوب والمعروض في أسواق المكتبات الإسلامية وكذلك ينظر فيها عند المساجلات وكتابات النقد والتجريح التي تكون بين الإسلاميين، كما أن الصواب فيها سيكون مساهمة في صناعة الزجاج المصمت الصلب الذي يرى فيه صاحبه الشبهات تمر عليه ثم تمضي من غير أن تنكت في قلبه نكتة سوداء وذلك بفضل الله ثم صلابة الجدار وصفاته.

 

الضابط:

لغةً: لزوم الشيء وحبسه، قال الليث: الضبط لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء (2)، وهو في الحالة المحكمة التي يمتنع فيها الخطأ (3). اصطلاحًا: الضابط الذي يجمع فروعًا من باب واحد في ضابط واحد (4). والضابط أخص من القاعدة والقاعدة تجمع فروعًا من أبواب مختلفة. وكل ضابط ستذكره يجمع فروعًا متعددة في فهم من المفاهيم الإسلامية، وهي محاولة قد تصيب بأن يكون الضابط متحققًا بالكامل، وقد تخطئ بألا يجمع الفروع من بابها ومن ثم لا ينطبق عليه الضابط اصطلاحًا، وهذا لا يمنع وجود النفع والخير فيه ولن يخرج الأمر من حد الفضل إلى خير المفضول في أسوأ الأحوال. ووجود هذه الضوابط بين يدي رجل الدعوة له فوائد متنوعة منها:

1.     تكوين الملكة الدعوية والحس الحركي لدى شباب الدعوة، وهذا من شأنه تلمس طريق الدعوة الصحيح في وسط الأطروحات الكثيرة الموجودة في المجتمع.

2.     صعوبة جمع الفروع في المسائل الدعوية كلها لكثرتها وتناثرها، ولهذا لا بد من وضع ضوابط يسهل حفظها والرجوع إليها عند وجود اختلال في الفهم. (5)

والضوابط هذه حازت قصب السبق لمن فيها يربح لأنه اتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصلت طلبته في أقرب الأزمان وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان (6) فالحكيم إذا أراد التعليم لا بد أن يجمع بين بيانين، إجمالي تتشوق إليه النفس وتفصيلي تسكن إليه. وأخيرًا نقول إن الأمر لا زال في دائرة الاجتهاد والنظر خاضعًا للتغير والتعديل كما قيل:

ما خط كف امرئ شيئًا وراجعه إلا وعن له تبديل ما فيه وقال ذاك كذا أولى وذاك كذا وإن يكن هكذا تسمو معانيه

 

الضابط الأول

1.     العلم درع من تحصن به حفظ، ومن أخذ به حاز قصب السبق وارتفع.

العلم الشرعي المؤصل بالكتاب والسنة الصحيحة هو الحافظ بفضل الله من السقوط وهو النور لمن عزم على المسير في طريق الأنبياء، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل: احفظ ما أقول لك، الناس ثلاثة فعالم رباني وعالم متعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل والمال تنقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة «تذكرة الحفاظ 1/11 سيرة الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه» وهذا يحصل بقوة تحصيلهم كما وصف ابن ناصر أبو الطاهر السلفي، كأنه شعلة نار في التحصيل «تذكرة الحفاظ 4/1301 ترجمة السلفي أبو طاهر عماد الدين أحمد الأصبهاني» فنورهم من جدهم وسهرهم كالحافظ الضياء أبي محمد المقدسي: كأن النور يخرج من وجهه ضعف بصره من كثرة الكتابة والبكاء «نفس المصدر 4/1374 ترجمة عبد الغني تقي الدين أبو محمد المقدسي»، وطالب العلم يتحصل على كرم الله بحفظه حتى بعد الممات، نقل الحافظ ابن عساكر أن الحميدي كان أوصى إلى الأجل مظفر ابن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند بشر فخالف وصيته، فلما كان بعد مدة رآه في النوم يعاتبه على ذلك فنقله في صفر سنة إحدى وتسعين وكان كفنه جديدًا وبدنه طريًا تفوح منه رائحة الطيب رحمة الله عليه «نفس المصدر 4/1221 من الحميدي أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأندلسي».

 

مكانة العلم وأهله

ولم لا ومذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة، وطالب العلم يوضع له القبول في الأرض قال الإمام الذهبي يصف أبا الحسن الزبيدي: قطع أوقاته في العبادة والعلم والكتابة والدرس والطلب حتى مكن الله منزلته في القلوب وأحبه الخاصة والعامة «تذكرة الحفاظ 4/1361 ترجمة أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن عمر الحسيني الزيدي». لهذه المكانة العالية للعلم وأهله كان العقلاء يحرصون عليه، ولبيان ذلك نسمع لابن العميد وهو يقول: ما كنت أظن في الدنيا حلاوة كحلاوة الوزارة أو الرياسة التي أنا فيها حتى شاهدت مذاكرة الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي وكان الطبراني يغلبه بكثرة حفظه، وكان أبو بكر يغلبه بفطنته حتى ارتفعت أصواتهما إلى أن قال الجعابي: عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي فقال هات: قال حدثنا أبو خليفة أنا سليمان بن أيوب «وحدث بحديث» فقال «الطبراني»: أنا سليمان بن أيوب ومني سمعه أبو خليفة فاسمع منه عاليًا، فخجل الجعابي فوددت أن الوزارة لم تكن وكنت أنا الطبراني وفرحت كفرحته «تذكرة الحفاظ 3/915 ترجمة الطبراني أبو القاسم الشامي».

 

شروط المحافظة على العلم

وللمحافظة على هذا العلم لا بد من أمور منها:

1.     عدم السقوط بحطام الدنيا، قال جابر بن عبد الله ما منا إلا من مالت به الدنيا ومال بها إلا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «تذكرة الحفاظ 1/40 ترجمة عبد الله بن عمر»، وهذا من دقته في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والالتزام بأمره. ذكر نافع أن عبد الله تتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وأفعاله حتى كأنه خيف على عقله «تذكرة الحفاظ 1/39 ترجمة عبد الله بن عمر». والسقوط بالدنيا بداية الوهن، قال الإمام البنا رحمه الله تعالى: «تغليب المصالح المادية الزائلة على الأخوة الإيمانية الباقية أول الوهن وأصل الفساد» «مجموعة رسائل الإمام البنا ص /359».

2.     تكرار العلم والقراءة، ذكر ابن عطية أنه كرر على صحيح البخاري سبع مائة مرة «تذكرة الحفاظ 4/1269 (2) ترتيب المدارك 557». وكان يحيى بن هلال بن مطر يجلس كل يوم لإسماع المدونة من الظهر إلى الليل يستوعب قراءتها كل شهر «تذكرة الحفاظ 1/74 سيرة إبراهيم النخعي رحمه الله».

3.     عدم المباهاة عند الاجتماع مع طلبة العلم لا في اللباس ولا في الكلام خشية انكسار قلب من عنده نقص، قال إبراهيم النخعي يحدث عن واقع مجتمع العلماء الذي هو فيه: كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج الرجل أحسن ما عنده «تذكرة الحفاظ 1/74 سيرة إبراهيم النخعي رحمه الله» قال سعيد المؤدب قلت للحافظ أبي بكر الخطيب عند لقائي له: أنت الحافظ أبو بكر؟ فقال: أنا أحمد بن علي الخطيب انتهى الحفظ إلى الدار قطني «تذكرة الحفاظ 3/1141 ترجمة الخطيب أبي بكر أحمد البغدادي». وعدم المباهاة والورع يعبر عنها عمر بن خلدة المدني القاضي قال: إذا جاءك الرجل يسألك فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه، وليكن همك أن تتخلص عما سألك عنه.

4.     بذل السبب أيًا كان لكسب عيشه وحتى يتقوى على طلب العلم لينال بعد ذلك عون الله، حدث الوحشي أبو علي الحسن قال: - كنت بعسقلان أسمع من ابن مصحح وغيره فضاقت علي النفقة وبقيت أيامًا بلا أكل فأخذت أكتب فعجزت، فذهبت إلى دكان خباز وقعدت بقربه لأشم رائحة الخبز وأتقوى بها، ثم فتح الله تعالى علي «تذكرة الحفاظ 3/1173 سيرة الوحشي أبي علي الحسن رحمه الله».

5.     الوسطية في إعطاء الناس للعلم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يرخص لهم في معاصي الله ولم يؤمنهم مكر الله»، وأن يرد عليهم ما يناسب مقامهم، قال له رجل لمحمد بن يوسف بن مطروح: أتخرب جهنم؟ فقال: ما أشقاك إن اتكلت على خرابها «ترتيب المدارك ص/142».

6.     التعفف عما في أيدي المربي كما التعفف عما في الدعوة من مكاسب اجتماعية وسياسية ومالية، ذكر أبو العرب أن سحنون خلا بسعيد بن عباد يومًا، فقال له: ألست بإمامك؟ قال: نعم، قال: وتقبل قولي؟ فقال: نعم لو لم أقبله لم اختلف إليك، فقال له: هذا قولي ويميني، فحلف بالله وأراه صرة في يده، ذكر أن فيها ثلاثين دينارًا، وقال له ما هي من سلطان ولا من تجارة ولا وصية، وما هي إلا من ثمرة شجرة غرستها بيدي فخذها تتقوى بها على أمر دينك ودنياك فقال أنا عنها غني، وكان مفرط الحاجة إلى ما دونها فقال سحنون: خذها سلفًا، فتتزوج منها وتنفق فإن رزقك الله ردها أقبلها منك، فإن تعذر ردها فأنت منها في حل فقال: ما كنت بالذي آخذ دينًا في ذمتي من غير حاجة فقال سحنون فإذا أبيت فلا تذكره لأحد ما دمت حيًا «ترتيب المدارك ص 126».

 

التواضع حصن العلم

7.     الورع والتواضع مع العلم والرئاسة، قدم عيسى بن مسكين بن منصور إلى القيروان على حمار عليه إكاف، فقام الناس إليه على أقدامهم فقال: مكانكم رحمكم الله، إنما يقوم الناس لرب العالمين «ترتيب المدارك ص 226». وهذا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم أبو العباس الأبياني: إذا قيل له الفقيه يقول: لقب لقبنا به وقد سئل يومًا عن فقيهين من أصحابه وتلاميذه وهما أبو القاسم بن زيد، وسعيد بن ميمون، فقيل له: أيهما أفقه، فقال: إنما يفصل بين عالمين من هو أعلم منهما «ترتيب المدارك ص 350». وأبو سنان زيد بن سنان الأسدي مع علمه كان يحمل خبزه إلى الفرن على يده ولا يترك طلبته يحملونه تواضعًا «ترتيب المدارك ص 14»، وكانوا رحمهم الله تعالى يهربون من الزعامة لما فيها من تبعية ومسؤولية وأمانة، وهذا أمر ليس بالهين قال عبد الرحيم بن عبد ربه الرتعي: تجد الرجل يصبر على الصيام والصلاة، ويتورع فإذا جاءت الفتيا، لم يصبر «ترتيب المدارك 2/98» وذلك لما فيها من تصدر وظهور أمام الخلق، ولهذا كان يخافها أصحاب الورع ذكر ابن سعدون أن أبا الحسن لما جلس للناس وعزم عليه في التقوى تأبى وسد بابه دون الناس، فقال لهم أبو القاسم بن شبلون اكسروا عليه بابه لأنه قد وجب عليه فرض الفتيا، هو أعلم من بقي بالقيروان، فلما رأى ذلك خرج إليهم ينشد:

لعمر أبيك ما نُسب المعلى إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رعى الهشيم

«ترتيب المدارك 2/617». وهكذا يكون أثر العلم، قال الإمام الشافعي: «ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع» «تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/56»، وقد نفعهم العلم فحفظوا أنفسهم من فتنة المديح والرئاسة، قال أبو حفص بن الحكار لأبي القاسم بن الحداد عندما قام ليصلح له نعله اصفعني به يا أبا القاسم ولا تفتني في دين الله عز وجل «ترتيب المدارك 2/801».

 

خلاصة القول

وفي الختام يبتعد عن طريق محق البركة قال الإمام الأوزاعي: بلغني أن الله إذا أراد بقوم شرًا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل «تذكرة الحفاظ». قال الشاعر:

إن كنت تبغي الرشاد محضًا لأمر دنياك والميعاد فخالف النفس في هواها إن الهوى جامع الفساد

وهذا الهوى دافع للحابط عمله أن يعمل على الإيقاع بين الناس قال أبو سنان الأسدي، إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس متى يفلح. «ترتيب المدارك 14-15».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(1) فتح الباري 1/225 دار الفكر

(2) لسان العرب مادة ضبط ص 509

(3) المصطلحات العلمية ليوسف خياط في ذيل لسان العرب

(4) القواعد تحقيق الدكتور بن حيد ص 108

(5) بتصرف من كتاب القواعد تحقيق الدكتور بن حميد ص 114

(6) بتصرف من الفروق للقرافي 1/3

الرابط المختصر :