العنوان من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة (١٥٣)- عالم اللغة والأدب الأستاذ الكبير محمود محمد شاكر (۱۳۲۷ - ١٤١٨هـ / ١٩٠٩ - ١٩٩٧م)
الكاتب المستشار عبدالله العقيل
تاريخ النشر السبت 01-أغسطس-2009
مشاهدات 9
نشر في العدد 1863
نشر في الصفحة 46
السبت 01-أغسطس-2009
الأمين العام
المساعد لرابطة العالم الإسلامي سابقًا
قرأ
على الشيخ المرصفي وحصل على البكالوريا عام ١٩٢٥ م ودرس اللغة العربية بالجامعة
المصرية واختلف مع د. طه حسين
كتب
في مجلات الفتح والزهراء والمقتطف والرسالة والبلاغ وهو من مؤسسي جمعية الشبان
المسلمين ودار العروبة ١٩٥٧م
عباس
العقاد: رأس المحققين.. أديب وفنان
حمد
العلي: علم شامخ في وجه المستشرقين والمستغربين تقطعت دونه أعناق العتاق ونأت عنه
خطا الجياد
ابنه
د. فهر: والدي بحر العلوم العربية بعيد الغور صعب المنال لا يدرك شأوه ولا يبلغ
قعره
في
السابع من أغسطس ١٩٩٧م لقي الحارس اليقظ للغة العربية ربه بعد ٨٨ عاما حافلة بخدمة
الإسلام
هو محمود بن
محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر، من أسرة أبي العلياء ينتهي نسبه إلى الإمام
الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولد بالإسكندرية بمصر سنة (۱۳۲۷هـ /
۱۹۰۹م)،
وتلقى مراحل تعليمه الأولى في مدرسة الوالدة أم عباس بالقاهرة، ثم درس في مدرسة
القربية بدرب الجماميز، ثم التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية عام ١٩٢١م.
قرأ على الشيخ
سيد بن علي المرصفي سنة ۱۹۲۲م في جامع السلطان برقوق وحصل على
شهادة البكالوريا سنة ١٩٢٥م.
التحق بكلية
الآداب قسم اللغة العربية في الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن) سنة ١٩٢٦م، وما
لبث أن تركها، بسبب خلاف بينه وبين أستاذه د. طه حسين.
حياته
العلمية: سافر إلى السعودية سنة ١٣٤٧هـ /
١٩٢٨م، وأنشأ مدرسة جدة السعودية الابتدائية، وعمل مديرا لها، ثم عاد إلى القاهرة
سنة ۱۹۲۹م، وبدأ يكتب في عدد من مجلاتها الشهيرة كالفتح، والزهراء والمقتطف
والرسالة والبلاغ، وانكب على الدراسة العميقة في خزانة كتبه النادرة وقصده طلاب
العلم والمحققون للاستفادة منه، ومن خزانة كتبه.
عقد صلات وثيقة
مع عدد كبير من علماء عصره، وعلى رأسهم مصطفى صادق الرافعي، وكان من أصحاب فكرة
جمعية الشبان المسلمين، ولكنه تركها، لاختلافه مع محب الدين الخطيب، وأحمد تيمور
باشا والدكتور عبد الحميد السعيد، وأسس مكتبة دار العروبة سنة ١٩٥٧م، مع رشاد سالم
وإسماعيل عبيد بمدينة القاهرة لنشر كنوز الشعر العربي ونوادر التراث.
اعتقل في حكم
جمال عبد الناصر سنوات١٩٥٩، و١٩٦٥، و١٩٦٧م.
شارك في عدد من
المؤتمرات العربية فحضر مؤتمر أدباء العرب في بغداد سنة ۱۹۷۰م،
وانتخب عضوا ومراسلا في مجمع اللغة العربية في دمشق سنة ١٩٨٠م، وعضوا عاملا في
مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة ۱۹۸۲م، وحصل على جائزة الدولة التقديرية
في الآداب سنة ۱۹۸۳م، وجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي سنة ١٩٨٤م، وكان عضوا
في المجلس الاستشاري المؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن في الفترة (۱۹۹۱- ۱۹۹۷م)، وعضوا في مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية في الفترة (١٩٩٤ - ١٩٩٧م).
معرفتی
به
زرته مع بعض
شباب الإخوان في منزله لنستمع إلى دروسه، وبخاصة أنه من مدرسة الرافعي الذي أحبه
من كل قلبي منذ صباي حتى شيخوختي وأحب تلامذته محمود شاكر، وعلي الطنطاوي، وسعيد
العريان وعبد المنعم خلاف وغيرهم، ولكني نفرت منه حين سمعت الألفاظ القاسية
والشديدة التي يوجهها إلى مخالفيه وسخريته من أسئلة الطلاب الذين يقصدونه، ولم
تتحمل نفسي هذا الأسلوب الفظ من أستاذ كبير لطلابه وقاصدي مكتبته، فتركت التردد
عليه من وقتها، وانقطعت عن زيارته طيلة بقائي في مصر، واكتفيت بأن أقرأ كتبه
ومساجلاته وردوده على لويس عوض، وغيره في المجلات والصحف والكتب، وقد سعدت به في
الكويت وشرفني بداري، واجتمعت به كثيرا مع الإخوة: د. يعقوب الحكيم، وجمعة ياسين،
وصالح العثمان، وإبراهيم المهنا، وعبد العزيز كامل في سهرات طويلة تخللتها
المناقشات والحوارات وقد سألته عن سبب خلاف أخيه أحمد شاكر مع حامد الفقي، حيث
أصدر كتيبا «بيني وبين حامد الفقي»، فكان جوابه: إن سبب الخلاف مادي، ولقد قمت مع
الأخ جمعة ياسين بتوزيع كتابه «أباطيل وأسمار بكميات كبيرة داخل الكويت وخارجها،
لما فيه من الفائدة العظيمة الشباب الحركة الإسلامية المعاصرة، حيث أجهز على لويس
عوض ومن تتلمذ عليهم ومن ساروا على منهجهم وكشف عوارهم وزيف دعاوى المستشرقين
والمستغربين والعلمانيين وأعداء الإسلام في الداخل والخارج، على حد سواء.
قالوا
عنه
يقول عنه الكاتب الكويتي حمد عبد الله العلي: وقف أبو فهر في ساحة العلم والتحقيق والأدب والدفاع عن الدين واللغة
في وجه المستشرقين، والمستغربين علما شامخا، وطودا أشم، تقطعت دونه أعناق العتاق
السبق، ونأت عنه خطا الجياد القرح.
ويقول
الدكتور محمد حسن عواد - الجامعة الأردنية- القضية عند محمود شاكر هي صراع بين تصورين مختلفين للوجود والإنسان: أحدهما
تصور إسلامي، والآخر تصور كفر، وصراع بين حضارتين حضارة مادية حيوانية، وحضارة
إنسانية يجب أن تتجدد بمادتها النبيلة السامية.
ويقول
ابنه د. فهر محمود شاكر: والدي علم من
الأعلام الشوامخ، لا يدرك شأوه، ولا يبلغ قعره، فهو بحر العلوم العربية جميعا،
بعيد الغور، صعب المنال.
ويقول
عنه الوزير فتحي رضوان: كان إسلامه فوق
مصريته وعروبته، لأنه الإيمان الشامل الذي يمده بالقوة والصبر ويعينه على التجلد
والثبات أمام الكوارث التي تتتابع والمصائب التي تتلاحق، وصور الاستكانة والذل
التي تكوي عينيه، وتلهب كل جارحة في نفسه.
ويقول
عنه عباس محمود العقاد: هو رأس
المحققين، لأنه أديب فنان.
ويقول
عنه الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة: أدباؤنا
صنفان بعضهم يحسن كتابة المقال الأدبي، وبعضهم برع في تحقيق النصوص، وهاتان
موهبتان ما اجتمعتا لأحد - فيما أعلم - إلا للأستاذ محمود شاكر، فقد برع فيهما معا .
ويقول
محمد سعيد العريان: محمود شاكر
أديب واسع المعرفة، له دين ومروءة، وفيه تحرج وخشية، وقد نشأ في بيت له ماض في
الدعوة إلى الإسلام، والدفاع عنه، والذود عن حرماته مرهف الحس مرهف الأعصاب، على
أنه يعيش في ظل وارف ونعمة سابغة، فإنه من دقة حسه وحدة أعصابه، متشائم النظرة، لا
تراه إلا رأيت في وجهه، وعلى طرف لسانه معنى دفينا من معاني الألم، وما يرى نفسه
في أكثر أحواله إلا غريبا عن هذا العالم، فإن له من خياله دنيا غير دنيا الناس،
وعالما غير هذا العالم يتمثل فيه المثل الأعلى الذي أعياه أن يبلغه على هذه الأرض.
كتب الدكتور
محمد حسان الطيان في مجلة «الفيصل» العدد (٢٦٦) (١٩٩٨/١٢م) يقول: لقد كان أبو فهر
صاحب بيان لا يجارى في دنيا الأدب، وأسلوب لا يُبارى في دنيا الكتابة تقرأ له
فتسمو نفسك، وتعلو مشاعرك حتى تكاد تلامس نجوم السماء يأسرك أسلوبه الجزل، ويروعك
تركيب جمله وعباراته، ويبهرك روعة استشهاده وحسن تأتيه، ويخلبك تخيره لمفرداته
وانتقاؤه لكلماته.
أما الكاتبة
الصحفية عايدة الشريف فتقول عنه في كتابها (محمود شاكر. قصة قلم: إن عالمه ليس من
النوع المألوف الذي نقرأ عنه في صحفنا ومجلاتنا المعاصرة، إن صورته هي جزء من
مجالس العلم القديمة التي يصلنا شذاها عبر سطور التاريخ، ومن خلال أمهات الكتب
العربية.
أما الدكتور
حلمي محمود القاعود فيقول: «لا ريب أن العلامة محمود شاكر قد اختار النمط الصعب،
بل النمط المخيف من الحياة، وهو نمط الجدية والإخلاص الذي يلقي على صاحبه مسؤوليات
كبيرة وأعباء ثقيلة ارتضاها لنفسه».
أما تلميذه
الدكتور محمود الطناحي فكتب يقول: وغاية ما انتهيت إليه أن الرجل رزق عقل الشافعي،
وعبقرية الخليل، ولسان ابن حزم، وجلد ابن تيمية، بل إني رأيت أن ليس بينه وبين
الجاحظ أحد في الكتابة والبيان.
والمكتبة
العربية كلها عند أبي فهر كتاب واحد، والعلوم عنده علم واحد، فهو يقرأ صحيح
البخاري، كما يقرأ الأغاني، ويقرأ كتاب سيبويه قراءته لمواقف عضد الدين الإيجي،
وسيرته تنطق أنه واحد في هذا العصر فلا يشبهه أحد من أدباء زماننا.
ويقول عنه د.
خالد فهمي: إنه جبل علم شامخ لم تزل قامته مرفوعة ومازال صوته عاليا، ومازال قلمه
في كتبه وما تركه من علم شلالاً هادرا، إنه تاريخ ضخم لرجل تنبه منذ طراوة الصبا،
وأوائل الشباب إلى هموم أمته وما يُراد بها ويكاد، وقد فطن منذ عقل إلى أن الطريق
الوحيد للتغيير هو العلم والمعرفة فانصرف إليهما ولم ينشغل بغيرهما.
من
أقواله
في مقدمة كتابه أباطيل وأسمار يقول: ولهذه الفصول غرض واحد، وإن تشعبت إليه الطرق هو الدفاع عن أمة
برمتها ، هي أمتي العربية الإسلامية، وجعلت طريقي أن أهتك الأستار المسدلة التي من
ورائها رجال فيما خلا من الزمان، ورجال آخرون قد ورثوهم في زماننا، وهمهم جميعا
كان أن يحققوا للثقافة الغربية الوثنية كل الغلبة على عقولنا، وعلى مجتمعنا، وعلى
حياتنا، وعلى ثقافتنا، وبهذه الغلبة يتم انهيار الكيان العظيم الذي بناه آباؤنا في
قرون متطاولة، وصححوا به فساد الحياة البشرية في نواحيها الإنسانية والأدبية
والأخلاقية والعلمية والفكرية وردوها إلى طريق مستقيم، علم ذلك من علمه، وجهله من
جهله.
ويتكلم
الشيخ شاكر عن الغزو الأوروبي الحديث فيقول: ذلك الغزو خفي الوطء، بعيد المرمى طويل الأجل، لم يكن غزوا بالمعنى
الذي كان الناس يعهدونه يومئذ، أو الذي نعهده إلى اليوم، لم يكن جيوشا وجحافل لها
صليل يقعقع ونقع يثور، كان غزوا أقل ما فيه نكاية هو الجيوش، وأبلغه افتراسا هو
التجارة وأفتكه بالإنسان هو التبشير.
ويواصل
العلامة محمود شاكر كشف الكارثة في مقدمة كتابه المتنبي، فيقول: صار بينا عندي أننا نعيش في عالم منقسم انقساما سافرًا: عالم القوة
والغنى وعالم الضعف والفقر، أو عالم الغزاة الناهبين وعالم المستضعفين المنهوبين،
كان عالم الغزاة الممثل في الحضارة الغربية يريد أن يحدث في عالم المستضعفين تحولا
اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، فهو صيد غزير يمد حضارتهم بجميع أسباب القوة والعلو
والغنى والسلطان والغلبة، والطريق إلى هذا التحول عمل سياسي محض، لا غاية له إلا
إخضاع هذا العالم المتخلف إخضاعا تاما لحاجات العالم المتحضر التي لا تنفد ولسيطرته
السياسية الكاملة أيضا.
ويقول في ديوانه
القوس العذراء:
إذا ما مشى تزدريه العيون وإن قال رد كأن لم يقل
نعم إنه البؤس!! أين المفر من بشر كذئاب الجبل؟!
ثعالب نكر تجيد
النفاق حيث ترى فرصة تهتبل
كلاب معودة
للهوان تبصبص بين يدي من بذل
فويحي من البؤس..
ويل لهم!! أرى المال نبلاً يعلي السفل
فخذ ما أتيت به
...! إنه مليك يخاف ورب مجل
وسبحان ربي يدي
ما يدي؟! بريت القسي بها لم أمل
حباني بها فاطر
النيرات وباري النبات ومرسي الجبل
وأودعها سترها
عالم خبير بمكنونها لم يزل
وفي المال عون على مثلها وفي البؤس هون وذل وقل!
أهم
مؤلفات محمود شاكر وتحقيقاته:
1- أباطيل وأسمار.
۲ - نمط صعب ونمط مخيف.
3- جمهرة مقالات
محمود شاكر (مجلدان) صدرا بعد وفاته.
4- المتنبي.
5- القوس العذراء ديوان
شعر عام١٩٥٢م.
٦ - اعصفي يا رياح
ديوان شعر صدر بعد وفاته.
7- قضية الشعر
الجاهلي في كتاب ابن سلام.
8- تفسير الطبري
(تحقيق) في ١٦ مجلدا.
9- دلائل الإعجاز،
لعبد القاهر الجرجاني (تحقیق).
١٠ - أسرار البلاغة،
لعبد القاهر الجرجاني (تحقیق).
۱۱- جمهرة نسب قريش وأخبارها ، للزبير ابن بكار
.
۱۲- طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي (تحقيق) في مجلدين.
۱۳- الوحشيات، لأبي تمام (تحقيق).
١٤
-إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء
والأموال والحفدة والمتاع، للمقريزي (تحقيق) الجزء الأول.
١٥- تهذيب الآثار
وتفضيل الثابت عن رسول الله من الأخبار، للطبري (تحقيق) ٥/١٠م
١٦- المكافأة وحسن
العقبي لأحمد بن يوسف أبي الداية الكاتب.
۱۷- فضل العطاء على العسر، لأبي هلال العسكري.
أبو
فهر بين الرافعي وطه حسين يقول الدكتور محمد رجب البيومي:
كان الأستاذ
محمود محمد شاكر بماضيه الحافل، وثقافته الواسعة، وشجاعته العاصفة ودراسته العميقة
بأهواء المتربصين - شجا في حلوق هؤلاء، يحاولون هدمه، فلا يستطيعون لأنهم يرون من
صلابة فكره، ونفاذ رأيه والتفاف الشرفاء من حوله ما يجعله لواء خفاقا، وقد حاول
بعض زعمائهم . حين مهدت له أسباب الذيوع الكاسح. أن يفتري على العربية في سير
أعلامها وأبطالها وقادتها مموها حديثه ببعض البراهين المصطنعة التي لا تثبت
لتمحيص، حاول ذلك ووجد من أشياعه من يقعدونه في الصدارة، ويُسبحون بحمده حتى لا
يعلو صوت كاتب ما على صوته.
ثم فوجئ القراء
بمحمود شاكر يزار زئيره المرعب، في وجوه الطرائد المنتشرة في شتى البقاع، دون أن
تقدر على رد الهجوم الزائر فيكشف عورات كثيرة، ويرد الاعتبار الأعلام من القمم،
مثل أبي العلاء، وابن خلدون ويكشف عن المرض المعضل في نفوس يزعجها أن ينتشر فضل
لهذين العلمين في ربوع الغرب ومحمود شاكر لا يعبأ برأي الغرب، ولكنه يرى من ضعاف
النفوس طوائف تقرأ فتعتقد فتصفق، فبادر يكشف النقاب عن الأباطيل أولاً، وعن
دوافعها ثانياً، فإذا السر مكشوف مفضوح.
لم يكن محمود
شاكر رجل ثقافة أدبية على المتعالم المتعارف عند الأدباء المعاصرين وحده، ولكنه
كان يجمع ثقافة الأمة الإسلامية جميعها كأحسن ما يكون الجمع الواعي وكان يعرف علوم
الفقه والأصول والتوحيد والتفسير والحديث والتاريخ والمنطق معرفة الدارس المتعمق،
كما يعلم علوم النحو والصرف والبيان والمعاني والبديع واللغة سواء بسواء، وقد تكون
له من ذلك كله منطق عرف به وحده فهو رجل الثقافة الإسلامية في عصره بشعبتيها
الدينية والعربية معا، فإذا انضم إلى ذلك روايته المتسعة الممتدة لدواوين الشعر
العربي في شتى عصوره رواية الناقد المتذوق المتعمق، فهو بذلك كله صاحب القول
الفصل، والمنطق المفحم الصريح.. في كل ما خاضه من جدال.
لقد هيئ محمود
شاكر في صباه الأول لأن يكون راوية أمينا للشعر العربي، فحفظ ديوان المتنبي وهو
صبي لم يبلغ الحلم، ثم نزعه أستاذه الكبير سيد بن علي المرصفي شارح الكامل الأشهر
إلى الأدب الجاهلي شعرا ونثراً، فعكف عليه عكوف الصب المدنف، كان لا يكتفي
باستظهاره، وفهمه بل كان لكل بيت من أبيات هذا الشعر إيحاء خاص يُعطيه أكثر من
مدلوله المتعارف، فهو يتلمس الأغوار الدفينة، في مطاوي البيت ليعرف نوازع الشاعر
وخوالجه.
التحق الطالب
بكلية الآداب، ليكون تلميذا للدكتور طه حسين، وقد قيل: إن دروس الأستاذ ستكون في
الشعر الجاهلي أول ما تكون، فأحس الطالب بنشوة غامرة، واعتقد أنه سيجد من يفوقه
هياما وافتتانا بهذا الشعر، أو على الأقل اعتقد أنه سيجد من يقاسمه حبه الأكيد
لهذا الضرب من الإبداع عن بيئة صادقة، لا عن هوى مفتعل ولكن الدكتور طه حسين بدأ
بدعوى انتحال الشعر وأنه كاذب ملفق لم يقله أمثال امرئ القيس وزهير، وإنما ابتدعه
إسلاميون حاولوا أن يثبتوا به مجدا لقوم غابرين.
هكذا فوجئ محمود
بما قاله أستاذه ولم تكن المفاجأة ذات شق واحد، بل ذات شقين، لأن محمود شاكر قد
قرأ هذه الأفكار المستشرق إنجليزي هو مرجليوث أعطاه إياها فقيد العروبة والإسلام
أحمد تيمور منشورة في مجلة استشراقية، فقرأها الشاب الناشئ ونبذها وراءه ظهرياً،
لأن قائلها أعجمي لا يفهم اللسان العربي على وجهه الصحيح، ولا يضر الشعر الجاهلي
أن يذكره أعجمي لا يفهم ألفاظه، فضلا عن معانيه، أما أن ينقل ذلك أستاذ الجامعة
نقلا أن يشير إلى قائله، وأن ينقله معجبا مفاخرا، وكأنه من ابتكاره، فهذا ما أورث
الطالب صدمة عنيفة واضحا دون في شعوره نحو أستاذه.
ولم يقف الأمر
عند الشعر الجاهلي بل انتقل إلى كتاب الله، فزعم أن القرآن قد اختلق هجرة إبراهيم
إلى بلاد العرب مع ولده إسماعيل اختلاقا، وليس لها وجود تاريخي وقرن القرآن
بالتوراة في تلفيق هذا الزعم وهذا أيضا ما قاله مرجليوث، وما ردده مستشرق آخر
تابعه مرجليوث عن جهل. وجاء الدكتور طه حسين ليفاجئ طلابه أولا ثم قراءه ثانيا
بهذا الإفك المدخول، ناسبا إياه لاجتهاده، فماذا يصنع شاب غيور مؤمن مثل محمود
شاكر؟! لقد واجه أستاذه بشططه فيما قال عن الشعر الجاهلي، واحتاط فلم يقل شيئا عن
قصة إبراهيم وإسماعيل وفوجئ الأستاذ بمن يعرف الأصل المنقول عنه من طلابه، وكان
يظن أن هؤلاء الأغرار لا يمكن أن يكون فيهم من قرأ كلام «مرجليوث» فسكت على ألم،
ولم يرد عليه أمام الطلاب ولكنه استدعاه بعد المحاضرة ملاطفا ملاينا وكأنه يحاول
أن يصرفه صرفا عن مبتغاه وأصر الطالب على هجومه، فسكت الدكتور على غيظ، وأذنه
بالانصراف.
وظهر كتاب الشعر
الجاهلي وقامت الضجة حوله، وظهرت الكتب الناقدة تعلن السرقة المكشوفة من آراء
«مرجليوث ومن سبقه» وكان المنتظر إزاء هذه السرقة البلقاء أن يكون لدينا رأي عام
ينكر أن سرق الباحث أفكارا مسمومة لأعداء دينه، ثم يذيعها وكأنها من إلهامه
وابتكاره، كان المنتظر أن يكون لنا رأي عام يضع الدكتور موضعه الطبيعي بعد أن انكشف
عواره، ولكن الرأي العام تكون فعلا من الجمهور لا من المثقفين، فقد حملت الأمة
ممثلة في برلمانها، ونوابها على الكتاب، وصدر الأمر بمصادرته على أن المتزلفين إلى
الرؤساء لم يواجهوا السرقة مواجهة الجريمة بل اندفعوا إلى القول بحرية الفكر،
وكلمة حرية هذه لا تقال إلا عند مهاجمة الدين كأن الإسلام عدو للحرية الفكرية، وهو
باعثها الأصيل، لقد كان الظرف السياسي بين الأحزاب المتناحرة لا يسمح بالتشدد مع
الدكتور، فاكتفى القوم بمصادرة الكتاب، ورجع الدكتور إلى الجامعة، وكأنه انتصر في
معركة شبها الحاقدون لا المخلصون.
لقد ضغط الإحساس
الكظيم ضغوطه المرهقة على نفسية شاكر، فآثر أن يترك الجامعة نهائيا، ورأى جو
الصحافة حوله مريضا موبوءًا، فآثر أن يترك مصر جميعها وارتحل إلى جدة بالحجاز،
ليضمد جراحه وظل بها يدير مدرسة متواضعة حتى استدعاه والده الشيخ، فما استطاع أن
يتخلف.
حضر محمود إلى
مصر لا ليسكت عن طه حسين، كما كان يظن أن يفعل ولكن ليلتحم به أعنف التحام وأشده،
إذ كان مما قدر عليه أن يؤلف كتابا عن المتنبي بمناسبة ذكراه الألفية تصدره مجلة
«المقتطف» عددا ممتازا يكون بمنزلة احتفال خاص بالمجلة لذكرى الشاعر الكبير،
ومحمود يحفظ شعر المتنبي عن غيب في صدره، وقد أطال معاودته وترديده، حتى صار هذا
الشعر لديه تاريخاً لحياة المتنبي يغنيه أن يقرأ ما كتب عنه من أخبار تاريخية في
صحف التراث، وليس معنى هذا أنه لم يقرأ هذه الأخبار في مظانها الكثيرة، فهو طلعة
نقاب متمرس على صغر سنه بالنسبة لمن يتصدون للتحقيق الأدبي العميق، وإنما معناه
أنه استشف من قصائد الرجل جميع أحواله على نحو كشف له المكنون من سرائره، والخافي
المجهول مما لم يشر إليه أحد من المؤلفين.
وفاته
توفي هذا العلم الشامخ بالعلم الحارس اليقظ للغة العربية، في الساعة الخامسة بعد عصر الخميس، الثالث من ربيع الثاني ١٤١٨هـ الموافق لليوم السابع من أغسطس عام ١٩٩٧م بعد بضعة أشهر أمضاها على أسرة المرض في المستشفى.. توفي عن عمر يناهز الثامنة والثمانين من السنين الحافلة بالعمل الدؤوب في خدمة اللغة العربية، وخدمة الإسلام والمسلمين رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم، والحمد لله رب العالمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
الشيخ المجاهد محمد محمود الصواف (1) قصة قائد الجماعة العراقية
نشر في العدد 2111
51
الجمعة 01-سبتمبر-2017