; «عبد الحميد».. شهید فلسطين الأول.. «رد على مقال مجلة العربي» | مجلة المجتمع

العنوان «عبد الحميد».. شهید فلسطين الأول.. «رد على مقال مجلة العربي»

الكاتب محمد أحمد الراشد

تاريخ النشر الاثنين 24-سبتمبر-1973

مشاهدات 14

نشر في العدد 169

نشر في الصفحة 24

الاثنين 24-سبتمبر-1973

الحلقة الأولى:

«عبد الحميد».. شهید فلسطين الأول.. «رد على مقال مجلة العربي»

كاتب «العربي» يخونه منهجه في البحث والتحليل.

العلامة «البيطار» يفتي بأن من خلع بيعة ««عبد الحميد»» يعد باغيًا.

«شکیب أرسلان» یروي اعتقاد الجمهور حُسن إیمان ««عبد الحميد»».

المؤرخ «محمد جميل بيهم» يجزم بأن »«عبد الحميد»» لم يكن طاغية.

بقلم محمد أحمد الراشد.

كان العلامة الدمشقي، عميد كلية الآداب بجامعة دمشق سابقًا الأستاذ «سعيد الأفغاني» قد نشر في العدد ١٦٩ من مجلة العربي الكويتية، مقالا بعنوان: «سبب خلع السلطان «عبد الحميد»»

أورد خلاله وثيقة معزوة إلى السلطان نفسه ينسب فيها إلى رجال حزب الاتحاد والترقي سعيهم لديه للاعتراف بوطن قومي لليهود في فلسطين وأنهم قرروا خلعه لما رفض ذلك، ومع صراحة الوثيقة، وكثرة القرائن التي أوردها الأستاذ «الأفغاني» للتدليل على صحتها، فإن الدبلوماسي الكويتي الأستاذ «عبد الله أحمد حسين» قد رد عليه في العدد ۱۷۸ من مجلة العربي نفسها، وأتى بمقال عنوانه «السلطان «عبد الحميد» طاغية وليس خليفة» رجَّح فيه أن الوثيقة موضوعة، ونفى منقبة «عبد الحميد» هذه، وانتقد عموم سياسته، ووصفه بالاستبداد، ورماه بكل نقيصة.

وقد حدد الأستاذ «عبد الله حسين» منطلقه في تبرير ردِّه فقال:

«إن المقال هذا -يعني مقال الأفغاني- والأمة العربية تخوض معركة التشكيك والحرب المعلنة عليها فكرياً وعقائدياً لا يجوز أن يمر دون أن يحاول أي مفكر عربي حر أن يناقشه مع الأستاذ أملاً في الحصول على الحقيقة..»  

ولاشك أنه منطلق جميل بسنده الواقع، ونحب نحن أيضًا - مع ما لنا من ملاحظة على اصطلاح الأمة العربيةـ أن تنطلق منه في محاولة للوصول إلى حقيقة «عبد الحميد»، لا نرتاب في أن الأستاذ «عبد الله» أراد مثلنا الوصول إليها، ولكنه أخفق وخانه منهج البحث الذي ارتضاه لنفسه، فراح ضحية للإشاعات وذهل عن أقوال الثقات. 

فالكاتب يعتمد على مصدر سماه:- عصر السلطان «عبد الحميد» دائرة في الأقطار العربية - ولم يسم مؤلفه ولا أعرف هذا الكتاب ولا أحب معرفته، بما أغناني الثقات المشاهير من أوصاف لعصر ««عبد الحميد»» وما إخال الكاتب يصدر عن نيسان في إغفاله ذكر المؤلف وإنما يرجح عندي أن المؤلف ليس بمسلم فتعمد إهمال ذكره.

وأما الكتاب الأخر الذي اعتمده الأستاذ فهو لمؤلف سوري اسمه «يوسف الحكيم» لم يذكره »الزركلي» في «الأعلام» ولا أعرفه، وليس هو بالمشهور، وكأني بهذا الاسم يحمل نغمة مسيحية. 

فمن هدين الكتابين استمد كاتب العربي منهج بحثه، وهو منهج قاصر يرى كل منصف قصوره ثم قرنه بمنهج في التحليل مستمد من خلفية قومية عربية عارمة يكاد الجيل المحدث من القوميين العرب يتنكر لضيق أفقها، فضاق مجال رؤية الحق عنده بسبب هذين المنهجين في البحث والتحليل، وفاته ما قصد..

منهجنا في البحث

وأما نحن فقد اتخذنا هنا منهجاً في البحث أدق وأسلم فلجأنا إلى «شكيب أرسلان ومحمد جميل بيهم، وعبد الرزاق البيطار، ونعمان خير الدين الألوسي ومصطفى كامل.»

• فأما «شكيب» فمن أشراف الناس، عربي قح، ثابت النسب إلى ملك العرب «النعمان بن المنذر»، وقد عاصر ««عبد الحميد»» وعاش دهرًا في الآستانة يخالط الساسة، ولا نعرف أحدا يشك في سعة علم «شکیب» وصدقه وإخلاصه وحيازته الزعامة السياسية عن جدارة وإن كنا نحن دعاة الإسلام لنبلو عليه بعض الفلتات، مثل حسن ظنه ببعض قادة الاتحاد والترقي وببعض زعماء البهائية.

ومن دلائل الأمانة التي يحملها «شكيب» أنه بيروتي وكان بعض صحبه فيمن أعدمهم «جمال باشا» في بيروت ومع ذلك ظل يؤرخ للعهد العثماني بروح متفتحة، ولم يستفزه ما حدث وقصر انتقاده فوجهه إلى جمال فحسب.

• وأما الأستاذ «بيهم» فمؤرخ اختص بدراسة التاريخ العثماني وله فيه أربعة كتب جعلته مقدمًا على غيره في الجامعات والمجامع العلمية بعيدًا عن التهم وقد تورط فيما تورط فيه غيره من الاستعجال في وصف ««عبد الحميد»» بالاستبداد و اتباع السياسة الخاسرة، ثم تبين له الصواب بعد معاناة نفسية طويلة وتأمل وازن ونظر متان، فنشر مقالاً استدراكيًا في العدد ٥٥٦ من مجلة «الأسبوع العربي» اللبنانية الصادر في ٢ شباط ۱۹۷۰ بعنوان -السلطان الأحمر لم يكن طاغية- واصطلاح الأحمر يورده رواية عن الغير، أي أن من يقولون عنه أنه الأحمر ليس طاغية، وقد رجع في هذا المقال رجوعاً شجاعاً عما ذكره في كتبه ومدح «عبدالحميد»، وأعلن براءته، وكل الذي نورده هنا من الأستاذ «بيهم» فمن مقاله هذا فقط وفي كتبه فوائد أخرى ولاشك ولكن حال ضيق وقتنا عن النقل منها.

وأظن أن الأستاذ «بيهم» في غنى عن التعريف بشرف مكانته، فهو ينتسب إلى أسرة بيروتيه عريقة في الفضل.

• وأما «البيطار» فعالم دمشقي فاضل، عرف بالورع ومكارم الأخلاق، وله شعر ومشاركات أدبية، وكان معاصراً لـ««عبد الحميد»»، ومن حاشية الأمير «عبد القادر الجزائري»، وهو جد الأستاذ «محمد بهجة البيطار».

• وأما «نعمان الألوسي» فعلامة بغداد المقدم زمن ««عبد الحميد»»، وهو ابن علامة العراق الجهبذ «أبي الثناء الألوسي» صاحب تفسير روح المعاني، وناهيك به فضلاً وشرف نسبة.

• وأما «مصطفى كامل» فهو زعيم ساسة مصر وقائد جبل النهضة، كان فائر الحماسة عظيم الإخلاص، وقد اشتهر بتأييده لـ««عبد الحميد»» وفكرة الجامعة الإسلامية، وقرأت بعض كتابه عن «تاريخ الدولة العلية العثمانية» ، حيث أخلص خلاله الدفاع عنها، ولكنى لم استشهد بشيء منه هنا لعدم وجود الكتاب بين يدي.

• وأما أنا فعربي عبَّادي، عامري مضري، عدناني، فرح بنسبي هذا، ولكن عربيتي لم تمنعني من العمل لاستئناف الحكم الإسلامي، ولا من الشعور بروابط الإخوة الإيمانية التي تربطني بكل مسلم غير عربي. أقول هذا دفعًا لما يتوهمه البعض حين عبت على كاتب مجلة العربي منهجه القومي العربي العارم، فانا لا أعرف نفسي إلا عدوا للشعوبية، ولا أعرف أجيال فقهاء الإسلام على مر العصور إلا أعداء لها.

• منهجنا في التحليل والحكم

وإسلامية المنهج والمصادر لا بد أن تدفع إلى نظرات إسلامية في تحليل الأحداث والنصوص، وفي تحليل أهمية مكانة التوصل إلى حكم صائب حول «عبد الحميد» في هذه «الحرب المعلنة علينا فكريًا وسياسيًا» كما يقول كاتب العربي. 

فهناك جملة موازين إسلامية وتقديرات واقعية يغفل عنها كل من ينطلق من خلفية قومية.

• نزن المسلم بحسناته وأخطائه معًا

فالميزان الأول يدعونا إلى أن نزن كل مسلم بحسناته وأخطائه، و إيجابيات أعماله وسلبياته معًا، فقد حفزتنا عقيدتنا إلى أن نزن الناس في الدنيا كما يزنهم ربهم تعالى في الآخرة، وليس هناك من كامل أو معصوم غير الأنبياء، وإنما نعرف أن فلانًا له حسنات ترجح على ذلاته، أو العكس، فيكون ممدوحًا أو مذمومًا بحسب ذاك، وهذا الميزان يوجبه العقل والذوق السليم قبل الشرع.

إننا حين نمدح «عبدالحميد» لا ندعى أنه سادس الخلفاء الراشدين بعد الأربعة وعمر بن عبد العزيز، ولا نجرده من الأخطاء، ولكنا جمعنا أخباره واستقصينا، فرأينا صوابه أكثر من الخطأ، وحميته الإيمانية أعظم مما جاء به من التقصير.

• الأعمال فاضلة ومفضوله ثم كبائر ولمم

والميزان الثاني يتمم الأول، بـه تكون الحسنات درجات متعددة في الفضل، والآثام درجات في السوء، تتصاعد وتتنازل، فتم أعمال فاضلة ومفضوله، وكبائر ولم، ورب عمل فاضل واحد بمحو مئات صغائر الإثم. 

ومنقبة «عبدالحميد» الكبرى تكمن في وفائه لفلسطين ورفضه إغراء اليهود ولم يستطع أحد بعده من حكام العرب والترك أن يأتي بما يفوق مأثرته هذه التي تكفي لإهدار كل ما ينسب له مــن أخطاء على فرض ثبوتها، بل لم يجد أخلافه إلا التراجع والهزائم وطلب الحلول السلمية التي تعترف بإسرائيل. 

وأما فكرة الجامعة الإسلامية، وما كان لها من الأهمية في محاربة الاستعمار وانهاض مسلمي الهند وغيرها فمأثرة أخرى قد لا تقل عن الأولى.

• كل حاكم بما كسب رهين

والميزان الثالث يقضي بفصل عمل كل عهد من عهود العثمانيين وتحديد مسؤوليته، فغالبًا ما يجابهنا القوميون بهجوم على الاتحاد والترقي، وسياسة التتريك، وإعدامات جمال باشا هين نتحدث دفاعًا عن «عبد الحميد»؟ إنما كلامنا عن «عبد الحميد»، وأما عهد الاتحاد فقد حمل الأتراك فيه مسئولية ما حدث بالدرجة الأولى، وحملها العرب بدرجة ثانية وكلاهما أخطأ، وربما يكون أنور باشا هو الوحيد الذي حاول تكفير أخطائه، فقاد مقاومة إسلامية في أنحاء بخاري للاستعمـــــار البلشفي الأحمر، وخر قتيلاً في ساحة المعركة فيما نحسبه شهادة والله أعلم سنة ۱۹۲۲، ووجد المصحف مربوطًا على يده.

• احتمال صواب كل مجتهد

وثمة ميزان رابع يجيز اختلاف الحكم على الحوادث تبعا لوجهة نظر المحلل، وكم في سياسة «عبد الحميد» من صواب يراه البعض جريمة، وأخطاء يرونها صواباً اضطر إليه. 

فمساعدته المعنوية لمرابي باشا مثلاً ضد الخديوي المصري يراها شكيب من جملة أخطائه، وأنه كان يجب على «عبد الحميد» أن يفرط بعرابي لكي يستميل الخديوي فتتقوى الجبهة المناولة للغرب بدل إعطائه مبرراً للارتماء في أحضان الانكليز. ()، بينما يرى المحلل القومي وجوب مساعدة عرابي، لعواطفه العربية الأصيلة ضد نفوذ الجنود المنحدرين من أصل شركسي وتركي في جيش الخديوي، ممن لا يخلون من منازع شعوبية أو مصلحية.

إن «شکیب أرسلان» لم يكن خائناً للعرب لما جهر برأيه هذا، ولكن اختلاف التقدير السياسي، ورؤية الحوادث عن قرب ومعاصرتها أقنعته بذلك.

• تماثل الأحداث يقتضي تماثل الأحكام

وهو ميزان خامس سيق آليه كاتب العربي سوقاً، فمن غريب الأقدار أن أكثر ما أورده من تهم ل«عبد الحميد» استند فيها على ظواهر في حكمه، أو نسبها له، تكررت بحذافيرها في عهد السياسة القومية التركية التي أعقبت «عبد الحميد»، أو في عهد السياسة الحاضرة للقومية العربية، مع أن التهم التي نسبها إلى «عبد الحميد» تحتاج إلى دليل لثبوتها، وبعضها سنورد أدلة على خلافها، بينما سياسة القوميتين هي مسرح شاهدناه ولا زلنا نعيش مآسيها.

فمثلا يقول الكاتب: «قد سار السلطان على أسلوب استبدادي، ولم يلغ الدستور لأنه يريد أن يسلك طريق الشريعة الإسلامية، وإنما لأنه ضاق صدرًا بوقوف النواب في المجلس يهاجمون قواد جيشه ورجال حكومته، لأنهم جميعًا اثبتوا بشهادة الأتراك أنفسهم الإهمال الذي وصل إلى حد الخيانة، حتى لقد كان بعضهم يدس على بعض خلال معاركهم مع الروس، وكانت فضائحهم تزكم الأنوف، حتى أهدوا الروس نصرًا رخيصًا ضد امبراطورية آل عثمان» .

وكأنه يتحدث هنا عن الهزائم الشنيعة التي مني بها الجيش الذي خلع «عبد الحميد» في الحرب البلقانية سنة ۱۹۱۲ أمام من هم أقل شأناً من الروس، من البلغار والحرب واليونان، فقد وصفها شكيب وصفاً مطولاً، ولنقف عند وصفه لجبهة الحرب الرئيسة مع البلغار حيث يقول: «صارت المعارك هناك عبارة عن سلسلة هزائم، تتلو إحداها الأخرى بدون أن يوفق الترك في معركة واحدة إلا ما ندر، فسقطت المراكز التركية المهمة، مثل قوصوه، ومناستر، واسكوب، وجميع البلاد التي تتبعها، وكل هذا بين ٢٣ اكتوبر و ۱۸ نوفمبر ولو قيل إنه لم تقع مع تركيا حرب أشأم من هذه الحرب من أول الدهر إلى ذلك الوقت لم تكن في هذا القول مبالغة»

«واستولى الذعر على الدولة نفسها في الآستانة، فأصبح رجالها لا يعلمون ماذا يعملون، وكان عندهم جيبوتي كثيرة في المملكة لا تزال في أراضيها، وإنما كانوا في جمود تام بسبب الفشل غير المنتظر، علم يذكروا في استجماع قواهم، وكانت الإدارة انيه بالفوضى، وقد رأينا ذلك بأعيننا» .

ثم تحدث عن القائد البارع أحد عزة باشا الأرناؤوط الذي لم يكن حاضرًا تلك الحرب، فقال: «كان لا يصدق بانكسار الجيش العثماني في ظروف الأحوال التي انكسر بها، لكثرة ما رأى من أغلاط القيادة»  ()

فهذا مبلغ من القادة الذين خلعوه، والذين خاب نقدهم للقادة الذين استعملهم فألغى الدستور كما يقول الكاتب.

وأما فضيحة القادة الذين استعملتهم القومية العربية سنة ١٩٦٧ فسببوا لها هزيمة سيناء، وفضائح الظافر و القاهر، وفضيحة سهرة الخـــمــــور ليلة العدوان لضباط القوات الجوية كما ورد خبرها خلال محاكمات زمرة المشير عبد الحكيم عامر مما نشر في جريدة الأهرام، والنصر الرخيص الذي حازه اليهود، فنترك تقدير كل ذلك لا نصاب الكاتب.

إن الإعتذار لقادة القومية العربية أو الاعتذار لرجال الاتحاد، يوجب اعتذارًا مثله لـ«عبد الحميد».

وكذلك ما ينسب لـ«عبد الحميد» من البطش بخصومه، فعلت أضعافه حكومة الاتحاد وحكومة أتاتورك، ولم تتخلف حكومات القومية العربية من السياق، فاعتلي عبد القادر عودة ومحمد فرغلي وسید قطب وزمرة من الأبرار في مصر المشانق بأمر القومية العربية، وأندقت أعناق المئات في العراق بأمر القومية العربية، ويوم صدور عدد مجلة العربي الذي ننقده كانت الأخبار تحمل أنباء إعدام أكثر من ثلاثين ضابطاً في سورية بأمر القومية العربية، ولا تجد فيمن أعلم في هذه البلاد الثلاث إلا عربياً مناهضًا للشعوبية، أو لعله كان يحكم باسم القومية العربية قبل يوم.

أن تماثل الأحداث يقتضي تماثل الأحكام، ولا يجوز للكاتب أن ينزه القومية عن الخضوع للمقاييس التي انتقد «عبد الحميد» وفقها، فإن كان يرى الاعتذار لها، فليعتذر له، وليس له أن يرد هذا بأن الذين قتلتهم القومية العربية خونة من الرجعيين، فإنه يتفق وإيانا مثلاً على أن المشير عامر كان اليد اليمنى للقومية العربية قبل قتله،

 • الأتراك المسلمون قبل اليسار العالمي

وهذا میزان سادس يفرضه واقع المعركة التي نخوضها كما يقول الكاتب فقد تنادت القومية العربية في مرحلتها الحاضرة لاستغلال اليسار العالمي وتجنيده إعلامياً للضغط على إسرائيل، وصرنا نقرأ اخبار فتوح دعاة القومية ونجاحهم في استمالة انفار من الهيبين اليساريين ذوي الشعور الطويلة والروائح الكريهة وجعل مجالسهم المني تئن منها كراسي مقاهي أرصفة شارع الشانزيليزيه بباريس تنتصر للقضية الفلسطينية، وتؤيد الحل السلمي، وتطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن.

إن التخطيط القومي يريد للعرب بهذا أن يغفلوا من أسود إسلامية تريض حول بلادهم مستعدة لأن تعدى تمامها فلسطين.

ومن هذا فإن الدفاع عن «عبد الحميد» يتجاوز في أهميته مجرد الأمانة التاريخية وإنزال الناس منازلهم ويقوم بدور الانفتاح العربي، يتجاوز القوميات، ليجند المد الإسلامي الجديد في تركيا، الذي يحزنه الطعن في «عبد الحميد» والتاريخ العثماني ليضعه في خدمة القضية الفلسطينية.

أن الحكومة التركية الحاضرة شأنها لميس أسوا من بعض الحكومات العربية التي أسرفت تجاه فلسطين وقصرت، وهي إلى زوال، ولا يزال الشعب مسلمًا، ويجب أن تتعامل مع التيار الإسلامي الجديد الجارف في تركيا تعاملاً مباشراً، وأن نقدمه على اليسـار العالمي التافه المخادع. ولن نتمكن من التعامل معه حتى نطرح تأثير الدعايات اليهودية القديمة والماسونية عنا، ونعى منقبة «عبد الحميد» كما وعاها الجيل الجديد العاشر من الأتراك.

إن الطعن ب«عبد الحميد» ليس إلا استمرارية لتخبط السياسة القومية العربية في ناميتها اليونان في قبرص ضد الأتراك، وللهند ضد باكستان، وللحبشة دون مراعاة أوضاع ثورة إرتيريا، ولن نستقطب أبطال المستقبل في تركيا حتى نعي حقائق تاريخ إبطال الماضي من أسلافهم.

• الثقات يوثقون «عبد الحميد»

بمثل هذه الموازين كان الثقات من معاصري «عبد الحميد» يزنون، فلم يبد لهم «عبد الحميد» في غير صورة التوثيق. 

فللشيخ «عبد الرزاق البيطار» شبه فتوى في توثيقه وتصحيح ببعته أوردها خلال ترجمته لـ«عبد الحميد» ضمن كتابه القيم «حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر»، فقال: «أما الآن، فالناس لله الحمد لهم خليفة، وهو أمير المؤمنين مولانا السلطان «عبد الحميد» بن المرحوم مولانا السلطان عبد المجيد، وبيعته في أعناق المسلمين، وسلسلة سلطنته من أحسن الدول الإسلامية، مقيمين للشريعة السنية، محبين للصحابة وآل البيت ناصرين أهل السنة المحمدية، قامعين أهل البدعة الردية فلا يجوز خلع بيعته، ولا الخروج عن طاعته، ثبت الله دولته، وأيد، سلطنته، فمن خلع بيعته أو ترك طاعته أو خرج عليه فهو باغ معتد. ()

ومثله نعمان خير الدين الألوسي، له شعر قدم به كتابه «غالية المواعظ»  و اقتبسه البيطار حلية البشر يقول:

بمولانا أمير المؤمنين

لقد سرت قلوب العالمين

وفي ظل الإله هم أقاموا

وظل الله يأوي القاتلين

أنام الكل في ظل ظليل

فكان لجميعهم كهفاً أمين

وأصناف الرعية قد تراءت

بأنواع المعارف عارفين

مليك ليس بشبيه مليك

فلا تطلب له ملكًا قريناً

أدام الله دولته علينا

وأيدنا به دنيا ودينا

وأبقى ذاته العلياء فينا

وأعطانا به فتحًا مبينًا

وأبقى عبده المولى «حميدًا»

حميد العيش دهر الداهرين ()

ومن عادة كاتب مقال مجلة العربي أن يتململ في مثل هذه المواضع، فهو يسارع خلال مقاله إلى رمي كل عالم من علماء الإسلام عاون «عبد الحميد» بأنه مصلي متستر بالدين، إلى آخِر الدعاوي الفارغة التي لا برهان لها، ومن الأحوط له هنا، قبل أن يتورط بمهاجمة هذين الرجلين، أن نذكره بانهيار من أعيان الناس ووعاتهم و فضلائهم، ولا يأتيان بمثل هذا الكلام مجازفة، ويعلمان ما في نطقهم من إثم لو خالف الحقيقة. 

وأما شهادة «شكيب» فأوضح، ونقل شهادة جمهور الناس له يوم موته فقال بعد أن شرح نفي «عبد الحميد» إلى سلايك: «ولا شك في أنه كان قد بقي أُناس كثيرون متحفزون لإعادة السلطان «عبد الحميد» إلى العرش في أول فرصة، ولكن هذا الحزب كان يرى لزوم السكينة إشفاقاً على الدولة.

ولما اشتعلت الحرب البلقانية أعادت الدولة السلطان «عبد الحميد» إلى الآستانة، وأنزلته في قصر «بكلر بنك»، حيث بقي إلى أن مات سنة ۱۹۱۷، وحضرت مأتمه، وشهد الجمهور شهادة حسنة، لأنهم كانوا يعتقدون إسلامه و أيمانه».  ()  وهذه شهادة قيمة جدا تنهض للرد وحدها على كل افتراء وتضعيف، ولو نظرنا إلى القسم الأول من هذا القول لمعلمنا مبلغ اعتقادهم إيمان «عبد الحميد» بحيث جعلهم يتحفزون لانقلاب يعيده ولم يحجموا إلا سدًا للذريعة.

فلو أضفنا إلى هذه التوثيقات عنوان مقال الأستاذ «محمد جميل بيهم»، والذي صار حكمة سائرة وبندًا في قانون التاريخ الحديث، حيث قال: «السلطان الأحمر لم يكن طاغية»  ثم لو أضفنا السلوك العملي السياسي للزعيم مصطفى کامل، لانكشف النانور وجه «عبد الحميد» الذي يبدد دائمًا كل ما هنالك من ظلام.

 هذا ما سمح به المجال في هذا العدد، وإلى الحلقة القادمة حيث سنفصل الرد على جميع الشبهات التي أثارها مقال مجلة العربي. 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

لا... يا مجلة العربي!

نشر في العدد 3

93

الثلاثاء 31-مارس-1970

مع القراء - العدد 8

نشر في العدد 8

53

الثلاثاء 05-مايو-1970

أصلحوا مجلة العربي وطهروا جهازها

نشر في العدد 19

34

الثلاثاء 21-يوليو-1970