العنوان عرفات في حقل الألغام
الكاتب أسامة أبو رشيد
تاريخ النشر السبت 09-مارس-2002
مشاهدات 26
نشر في العدد 1491
نشر في الصفحة 22
السبت 09-مارس-2002
■ شارون يبتزه بطرح البدائل، واتفاقية أوسلو لم يبق منها إلا طلب تنازلات فلسطينية بلا حدود!
■ عملية اغتيال وزير السياحة الصهيوني كانت ضربة كبيرة تبعتها خطوات واسعة.
■ في مواجهة محاولات إقصائه سعى عرفات لإعادة ضبط المشهد السياسي ولملمة خيوط اللعبة في يديه.
■ لماذا تغير الموقفان الأمريكي والمصري بعد التنازلات التي قدمها عرفات بشأن إدانة الجهاد والتفريط في حق العودة؟
شهدت الساحة الفلسطينية منذ اغتيال وزير السياحة الصهيوني رحبعام زئيفي تطورات متسارعة، ونتائج دراماتيكية، ما زالت تطبع بصماتها على الساحتين السياسية والميدانية، ووصل الأمر إلى بدء طرح بدائل لعرفات إسرائيليًّا وأمريكيًّا، بل ومن بعض الأطراف العربية والفلسطينية، لما يمثله عرفات حسب ادعاء هذه الأطراف من عقبة كأداء في طريق التسوية.
عملية اغتيال زئيفي في ١٧أكتوبر الماضي على يد «كتائب الشهيد أبو علي مصطفى» الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في فندق حياة ريجنسي في القدس، شكلت من ناحية ضربة كبيرة للأمن الصهيوني الفردي، الذي يعتبر حجر الزاوية في الاهتمامات الصهيونية، فإذا كانت قوات الأمن لا تستطيع أن تحافظ على سلامة وزير يتمتع بحراسة خاصة، ويتم اغتياله في فندق يقيم فيه عدد من قادة الكيان وأركان جيشه وضباط مخابراته، فهي أعجز من باب أولى عن حماية أمن الناس العاديين.
ومن ناحية ثانية، شكلت هذه العملية منعطفًا حاسمًا في مسار الانتفاضة؛ حيث جاءت بعد أقل من شهرين على اغتيال أمين عام الجبهة الشعبية أبو علي مصطفى بقصف صاروخي لمكتبه في رام الله يوم ٢٨ أغسطس الماضي، وهو ما اعتبر في حينه تجاوزًا لكل الخطوط الحمر؛ حيث كان مصطفى أرفع مسؤول سياسي فلسطيني تتم تصفيته منذ انطلاقة الانتفاضة، فضلًا عن أن الرجل عاد إلى مناطق السلطة من دمشق بموافقة إسرائيلية خاصة، وبطلب شخصي من رئيس السلطة ياسر عرفات مباشرة، الذي كان يعمل بجد ونشاط على فكفكة بنى وأطر تحالف الفصائل العشر بقيادة حركة المقاومة الإسلامية حماس-المناوئ لمسار أوسلو، وتعد الجبهة الشعبية ركنًا في هذا التحالف لناحية انضوائها في إطار منظمة التحرير الفلسطينية؛ حيث تشكل الفصيل الثاني من حيث القوة داخل المنظمة بعد حركة فتح، وأبانت عملية اغتيال زئيفي أن المقاومة الفلسطينية قادرة على أن ترد بنفس منسوب القوة التي يوجهها لها الاحتلال، وهو ما أضاف عنصرًا نوعيًّا لمنطق الردع الفلسطيني.
ومن ناحية ثالثة، كانت عملية اغتيال زئيفي أول عملية فلسطينية ناجحة منذ انطلاق الثورة الفلسطينية تستهدف سياسيًّا صهيونيًّا.
إذن عملية اغتيال زئيفي شكلت ضربة موجعة ومحرجة جدًّا لحكومة شارون، الذي وصل إلى كرسي رئاسة الوزراء بناء على وعود بالأمن، وقمع الانتفاضة وسحقها في مائة يوم، كما كان يؤكد في برنامجه الانتخابي.
ومن ثم فإن فشل شارون في توفير الأمن لأركان حكومته - بعد أكثر من سنة من الحكم على عكس وعوده بتحقيق الأمن خلال مائة يوم - يعني بدرجة أولى أنه عاجز عن توفير الأمن للعامة، وإذا كان شارون يبرر فشله في منع وقوع العمليات الفلسطينية داخل عمق الأرض المحتلة عام ١٩٤٨م، بأنها مسألة وقت فقط، وأن سياسات الاغتيال والاختطاف لنشطاء المقاومة الوطنية والإسلامية والحصار غير المسبوق ستؤتي أكلها بعد حين، فهو بعد عملية مقتل زئيفي، فقد كل الحجج والذرائع.
ومع تصاعد عمليات المقاومة، والعمليات الفدائية في قلب فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨م، وفي كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وفشل كل سياسات التصفية الميدانية والاختطاف لقادة المقاومة، وبعد فشل القصف بطائرات أباتشي وإف ١٦في إخافة الشعب الفلسطيني وردعه عن مواصلة انتفاضته، فضلًا عن إخفاق سياسات الحصار، وتدمير البيوت، وتعويق حركة الناس على الجسور، ثم فوق كل ذلك اغتيال وزير في أحد الحصون كثيفة الحراسة، بدا واضحًا لشارون وحكومته أنه لا بد من إجراءات جديدة غير اعتيادية وغير مسبوقة تناسب جرعة الألم الجديدة التي جاءت بها عملية اغتيال زئيفي، وتمثلت هذه الإجراءات بتدمير المروحيات الثلاثة الخاصة برئيس السلطة أثناء ربوضها في مطار غزة في ديسمبر الماضي، ولكن الإجراءات لم تقف عند هذا الحد، فجرعة الألم أكبر من تدمير عدد من المروحيات وتجريف مطار غزة، وقصف مقار بعض أجهزة أمن السلطة، وعلى رأسها جهاز حراسة رئيس السلطة. القوة (۱۷) عندها بدأت بعض الأصوات داخل حكومة الاحتلال تطالب بفرض حصار على تحركات عرفات إلى أن يعتقل من أسمتهم المسؤولين عن اغتيال زئيفي وتسليمهم لها.
وقتها كان عرفات موجودًا في مقر رئاسة السلطة في رام الله، وفي الثالث من ديسمبر الماضي اتخذت الحكومة الصهيونية قرارًا بفرض الإقامة الإجبارية عليه في مقر إقامته في رام الله، وتحركت الدبابات باتجاه مقره؛ لتتوقف على بعد سبعين مترًا عن نوافذه، في إشارة إلى أن تل أبيب جادة في مطالبها.
ولم تنفع بيانات الاستنكار والتنديد العربية والدولية برفع الحصار عن عرفات، كما لم تجد أيضًا جهود الاستعطاف التي قادتها بلجيكا وروسيا؛ للسماح لعرفات بالتوجه لبيت لحم للاحتفال بقداس أعياد الميلاد التي دأب على أن يشهده سنويًّا، منذ امتداد نطاق سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني؛ ليشمل بيت لحم عام ١٩٥٥م، وجاء في بيان لمكتب شارون يوم ۲۳ ديسمبر الماضي، أن عرفات لم يفعل شيئًا من أجل تفكيك المنظمات الإرهابية والتصدي للاعتداءات الإرهابية ضد إسرائيل، كما لم يوقف ويعاقب الإرهابيين بمن فيهم قتلة وزير السياحة، وذلك في إشارة إلى المطالبة باعتقال أحمد سعدات - الأمين العام للجبهة الشعبية - التي تبنت عملية اغتيال زئيفي.
توتير الساحة الفلسطينية مقابل رفع الحصار
عندما تبين لعرفات جدية المسعى الإسرائيلي لعزله عن العالم، ورفض كل الجهود الدولية لرفع الحصار عنه، سعى عرفات جاهدًا للتجاوب مع الشروط الجديدة التي وضعتها له الحكومة الأمنية، ففي ١٦ ديسمبر الماضي ألقى خطابًا اعتبر فيه أن القضية الفلسطينية تعيش أعقد مراحلها، وأعلن عن أوامر الفصائل المقاومة بصفته رئيس السلطة، يشدد فيها على ضرورة عدم القيام بأي عمليات فدائية أو مقاومة ضد الاحتلال، مشددًا على عدم الرد حتى على الرصاص الإسرائيلي برصاص مقابل، ولا كذلك على عمليات الاغتيال واقتحام المدن، ووصلت الدرجة بالسلطة الفلسطينية في سعيها لتطبيق قرارات عرفات وفرضها على فصائل المقاومة، إن ردت بالرصاص أكثر من مرة ضد المتظاهرين الفلسطينيين العزل الغاضبين لقرارات عرفات تلك، وفي غضون يومين ما بين العشرين والثالث والعشرين من ديسمبر الماضي، سقط سبعة شهداء فلسطينيين وأكثر من ثمانين جريحًا برصاص قوات الأمن الفلسطينية بقطاع غزة أثناء محاولتهم التصدي لقوات الأمن التي جاءت؛ لتعتقل القيادي البارز في حركة حماس الدكتور عبد العزيز الرنتيسي.
وعلى إثر ذلك عاشت الساحة الفلسطينية على فوهة بركان الحرب الأهلية، وتدخلت الرموز الوطنية والإسلامية وأعضاء من مجلس السلطة التشريعي لتهدئة الأمور وجبر الخواطر، وتشكلت لجنة للإصلاح إلا أن إصرار السلطة على تنفيذ قرارات رئيسها ولو بالقوة، وإبدائها استعدادًا لدفع الساحة باتجاه احتراب فلسطيني - فلسطيني، في سبيل تطبيق هذه القرارات دفع بكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس إلى الإعلان عن مبادرة لوقف العمليات داخل الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨م؛ لتجنيب الساحة الفلسطينية احترابًا داخليًّا، ورغم قرار حماس سارع الاحتلال يوم ۲۲ ديسمبر إلى رفض موقف كتائب القسام؛ لأنه استثنى المستوطنات اليهودية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧م، ونقلت الإذاعة العبرية عن مصادر سياسية إسرائيلية قولها: إن الإعلانات التي صدرت عن التوصل إلى تفاهم بين السلطة الفلسطينية وحماس، حول وقف الأعمال الانتحارية داخل إسرائيل مرفوضة، مشيرة إلى تواصل استهداف نشطاء المنظمات الفلسطينية المسلحة طالما استمرت العمليات الهجومية في مختلف المناطق، مؤكدة أن إسرائيل تصر بكل إلحاح على ضرورة وقف الأعمال الهجومية الفلسطينية داخل إسرائيل وفي المناطق الفلسطينية بصورة تامة على حد قولها، ورغم كل جهود عرفات بقيت تل أبيب مصرة على استمرار حصارها على عرفات حتى يتم اعتقال أمين الجبهة الشعبية أحمد سعدات.
بعد كارين أ.. اعتقال أمين الجبهة الشعبية
وفي ضوء هذا الإصرار لم يبق أمام عرفات غير اعتقال سعدات، وهو ما اضطر له فعلا مع تفجر قصة سفينة الأسلحة «كارين أ» في الخامس من يناير الماضي التي قالت تل أبيب: إنها اعترضتها في المياه الدولية في البحر الأحمر، وعلى متنها خمسون طنًّا من الأسلحة قادمة من إيران إلى السلطة الفلسطينية.
حاولت السلطة امتصاص القضية الجديدة باعتقال سعدات، وهو ما تم فعلًا في رام الله يوم ١٥ يناير الماضي، ورغم أن قرار اعتقال سعدات لم يكن بالقرار السهل، خصوصًا لما تتمتع به جبهته من موقع القوة الثانية بعد فتح في منظمة التحرير، ومن ثم تهديد الجناح العسكري للجبهة الشعبية باغتيال قادة السلطة إن لم يتم الإفراج عن زعيمها، بما يعنيه ذلك من أن قرار الاعتقال هدد وحدة الساحة الفلسطينية الداخلية، على الرغم من ذلك رفضت إسرائيل بشكل مطلق رفع الحصار عن عرفات، وقال رعنان جيسين - المتحدث باسم شارون -: «لن أصدق حتى أراه «أحمد سعدات» خلف القضبان»، بل لم تقتصر المطالب باعتقال من يصفهم الاحتلال بقتلة زئيفي وتسليمهم، بل أضاف مطلبًا آخر يتمثل في: ضرورة تحمل عرفات شخصيًّا مسؤولية سفينة الأسلحة، واعتقال كل المتورطين فيها من الأعضاء الأمنيين الكبار في سلطته، ومما عقد الأمور أكثر أن الولايات المتحدة دخلت على الخط مؤيدة للمطالب الصهيونية، وأعلن بوش عن خيبة أمله في عرفات، وازدادت الأمور سوءًا أكثر وأكثر على عرفات عندما دخل الرئيس المصري على خط الحانقين على عرفات، بحجة أنه عقد تحالفًا مع إيران.
وقبل أن يستوعب عرفات التطورات الجديدة كانت تل أبيب تغتال الشهيد رائد الكرمي - قائد كتائب شهداء الأقصى في منطقة طولكرم - في الرابع عشر من يناير الماضي، وابتدأ مسلسل الرد الفلسطيني الذي تقاسمته كل من كتائب القسام، وكتائب شهداء الأقصى «المقربة من فتح»، ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد؛ حيث كان تحد آخر يطل برأسه، فقوات الاحتلال اقتحمت نابلس يوم ٢٢ يناير، واغتالت أربعة من كبار قادة كتائب القسام فيها، بينهم قائدها في الضفة الغربية الشهيد الشيخ يوسف السركجي، ولم تمض ساعات حتى نفذت مروحيات عملية اغتيال جديدة لناشط في القسام في قطاع غزة، فأعلنت حماس بعد العمليتين تعليقها لمبادرتها بوقف إطلاق النار، وتعهدت بالانتقام معلنة حربًا مفتوحة على الاحتلال.
كل هذا وعرفات ما عاد يملك السيطرة على زمام الأمور في الشارع الفلسطيني الغاضب من قراراته للالتزام بالهدوء، ومن الموقف الصهيوني المصعد للتوتر، وكان واضحًا أن تل أبيب تدفع بهذا الاتجاه عمدًا؛ حيث إنها تريد إبقاء الضغط على عرفات وتصويره على أنه زعيم عاجز عن ضبط إيقاع حركة شعبه وسلطته، فضلًا عن المقاومة، وفي هذا الوقت تحديدًا، كانت إسرائيل تطرح علنًا ومن دون مواربة نيتها للبحث عن بدائل فلسطينية لعرفات، وبدعم أمريكي واضح.
بدائل عرفات فلسطينيًّا
إذن لم تجد كل قرارات عرفات - المتجاوبة مع الضغوط الصهيونية الأمريكية - التي اتخذت بعدًا عمليًّا من اعتقال الرموز المقاومة، وإيقاف العمليات العسكرية، والتهديد بحرب أهلية، واعتقال أمين الجبهة الشعبية أحمد سعدات، وصولًا إلى مرحلة إصدار قرار يوم ٢٧ يناير باعتقال واتخاذ إجراءات ضد «المتورطين» في قضية سفينة الأسلحة «كارين أ» من المسؤولين الفلسطينيين، الذين وردت أسماؤهم في القضية، والذين تطالب واشنطن وتل أبيب بمعاقبتهم، على الرغم من كل ذلك، فإن إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا وبعض الأطراف العربية، بدأوا بنشاطات علنية وسرية في البحث عن بدائل لعرفات بعد أن حسمت حكومة شارون أمرها بأن عرفات ليس شريكًا لها في التسوية.
ففي تقرير نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية «٢٤/١» زعمت أن معلومات مؤكدة وصلت إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية تفيد بأن «المجتمع الدولي بدأ من اليوم يستعد لمن سيخلف رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، وأن دولًا مركزية في العالم بدأت توجه دبلوماسييها في إسرائيل للقيام بعملية تشخيص لورثة ياسر عرفات المحتملين»، مشيرة إلى أنه في حالات معينة طلب من الدبلوماسيين إجراء اتصالات معهم وتنمية مكانتهم؛ حيث أشير في كل الأحوال إلى قائدي جهازي الأمن الوقائي في الضفة والقطاع جبريل الرجوب ومحمد دحلان ضمن الخلفاء المحتملين. وأضافت الجريدة تقول: إنه «قبل أيام عدة زار إسرائيل دبلوماسي ياباني رفيع المستوى، واجتمع مع أربعة من كبار المسؤولين الفلسطينيين محمد دحلان، وجبريل الرجوب، ومسؤول ملف القدس في منظمة التحرير سري نسيبة، وأمين سر حركة «فتح» في الضفة الغربية مروان البرغوثي»، مشيرة إلى أنه حين وصل هذا النبأ إلى علم إسرائيل أرسلت لليابانيين احتجاجًا على اللقاء مع البرغوثي، الذي تعتبره مسؤولًا عن العديد من العمليات ضدها، وكان الرد الياباني أن الحديث يدور عن لقاءات مع شخصیات بارزة وسط الفلسطينيين سيخلفون عرفات ذات يوم» على حد قولها.
وفي السياق ذاته، كشفت الجريدة أن تقارير سرية وصلت إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن، تفيد بأن الإدارة الأمريكية بدأت بفحص سيناريوهات محتملة لليوم الذي ينتهي فيه حكم عرفات، إلا أن التقارير أشارت إلى أن دحلان والرجوب رفضا التعاون مع الجانب الأمريكي للبحث في هذه السيناريوهات المحتملة؛ خوفًا من أن ينظر لهما من قبل الشعب الفلسطيني كعملاء للكيان الصهيوني.
وقالت جريدة ها آرتس «٢٤/١» أيضًا: إن من وصفتهم بالأوساط المعتدلة في القيادة الفلسطينية تجري اتصالات مع الأمريكيين ومع إسرائيل للتأكيد لهما بأنهم يعارضون سياسة عرفات.
وتشير أوساط سياسية فلسطينية وإسرائيلية إلى أن عرفات يعيش حالة من العزلة والانقطاع عن العالم الخارجي، خصوصًا وأن كثيرًا من الزعماء العرب يرفضون تلقي مكالماته الهاتفية، ويقول المعلق السياسي الصهيوني أليكس فيشمان في مقال له في صحيفة أحرنوت «۲۱ يناير»: إن الرئيس المصري يرفض أن يجيب على أي هاتف لعرفات؛ احتجاجًا منه على ما وصفه بخداع عرفات له في قضية سفينة الأسلحة القادمة من إيران كما تزعم إسرائيل. ويضيف فيشمان: «الأوروبيون يضغطون وأعضاء كبار في السلطة الفلسطينية يفكرون بصوت عال آن الأوان لإعادة تدريج مكانة عرفات، وتثبيت مكانته كرمز وطني، ولكن الصلاحيات التنفيذية عمليًّا، تنقل إلى أطر أخرى، فهم يتكلمون عن ترويكا ثلاثة أشخاص يديرون شؤون السلطة، أو تعيين رئيس حكومة مع صلاحيات واسعة، وكل هذا ما زال في إطار الكلام، ولكن فيه ما يدل على أن الساعة الرملية لرئيس السلطة الفلسطينية بدأت بالانتهاء».
وتناقلت مصادر إسرائيلية وفلسطينية وعربية وأمريكية معلومات عن أن عرفات يشعر بالخيانة والغدر؛ حيث يشارك عدد من المسؤولين الفلسطينيين بخاصة الأمنيون منهم في عزله وفرض الإقامة الجبرية عليه، خصوصًا في ظل ضغوط أمريكية متواصلة على دول عربية وصلت إلى مطالبتها بعدم دعوة عرفات للقمة العربية القادمة في بيروت، والبدء في البحث عن بدائل له؛ حيث لم يعد صالحًا لصنع السلام حسب الموقف الأمريكي الرسمي، ويسود اعتقاد أن البديل القادم يتم بلورته بين أربعة أطراف فلسطينية، ثلاثة منهم أمنيون وواحد سياسي.
فحسب معلومات صهيونية أمنية، فإن ثمة اتصالات مستمرة بين مسؤولي جهازي الأمن الوقائي الفلسطيني في الضفة والقطاع جبريل الرجوب، ومحمد دحلان لتنسيق المواقف في مرحلة ما بعد عرفات، وانضم لهما رئيس جهاز المخابرات في الضفة توفيق الطيراوي، وحسب المصادر نفسها، فإن الاتفاق بين القوى الثلاث يميل لصالح تنصيب محمود عباس أبو مازن عراب أوسلو بديلًا لعرفات على شرط تمتعهم بالقوة الحقيقية من وراء الستار، كما في الحالة الجزائرية؛ حيث يحكم الجيش عبر رئيس مدني.
في هذا الإطار جاء الإعلان عن اللقاءات السرية التي عقدها شارون مع ثلاثة من قادة السلطة الفلسطينية، الذين يوصفون بالمعتدلين، وهم محمود عباس «أبو مازن» - أمين سر منظمة التحرير -، والرجل الثاني فعليًّا بعد عرفات فيها، وأحمد قريع «أبو علاء» - رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني -، ومحمد رشيد - مستشار عرفات الاقتصادي.
هذه المحادثات التي كان من المفترض أن تبقى سرية قبل أن تكشفها الإذاعة العبرية في فبراير الماضي، عبرت بشكل واضح عن حقيقة المؤامرات وراء خلافة عرفات خلال حياته، فقد تكهن معلقون إسرائيليون بأن تكون محادثات شارون مع قريع وعباس ورشيد قد استهدفت جذب من تعتبرهم إسرائيل معتدلين للمساعدة في إنهاء ١٦ شهرًا من المواجهات، ورغم محاولات عرفات التأكيد على أن هذا اللقاء تم بإذن مباشر منه وبعلمه شخصيًّا، إلا أن الصحف العبرية ومصادر إسرائيلية وفلسطينية أكدت أن عرفات صدم كغيره من أخبار الاجتماعات عندما سربت بطريقة ما، وسعى عرفات في محاولة منه لإعادة ضبط المشهد السياسي الفلسطيني، وإعادة لملمة خيوط اللعبة في يديه إلى التأكيد في تصريحات صحفية في الثاني من فبراير على أن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي عقدا مباحثاتهما السياسية والأمنية الأخيرة بإذن منه، وقال: «أصدرت أوامري بمواصلة بذل كل الجهود لاستمرار الاتصالات مع الإسرائيليين بجميع الوسائل وعلى جميع المستويات».
إلا أن المفاجآت التي نزلت تترى على رأس عرفات لم تقف عند هذا الحد؛ حيث كشف مرة أخرى أن المخابرات الأمريكية دخلت على خط البحث عن بدائل لعرفات، إلا أنه أكد أن تلك المحاولات قوبلت بالرفض من قبل الفلسطينيين المرشحين من وجهتي النظر الأمريكية والإسرائيلية لخلافة عرفات.
عرفات يسعى لحفظ زعامته، والظهور بدور المعتدل
في ظل هذه الأجواء وبعد سلسلة من العمليات الفلسطينية، ودخول صواريخ «قسام ۲» معادلة الصراع، واقتراب موعد زيارة شارون وبن اليعازر لواشنطن، والتي قيل وقتها إنها ستعطي الضوء الأخضر الأمريكي لاستبدال عرفات، خصوصًا بعد أن كان شارون أعلن أنه نادم على عدم تصفيته لعرفات إبان اجتياح لبنان عام ۱۹۸۲، في ظل هذه الأجواء جاء مقال عرفات في صحيفة النيويورك تايمز في الثالث من فبراير الماضي بعنوان: «رؤية فلسطينية للسلام»، والذي قدم فيه تنازلات جوهرية في قضية تعد من أهم دعامات أي تسوية مزعومة قادمة، ثم أتبعه بمقابلة صحفية مع صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية «۱۰-۲»، قدم فيها شروحًا أوفى لمقاله حول موضوع اللاجئين، قبل أن يعود مرة أخرى، ويتبع ذلك برسالة إلى وزير الخارجية الأمريكي كولن بأول (۱۲-۲) حول سفينة الأسلحة «كرين أ».
ففي مقاله في النيويورك تايمز، دان عرفات المقاومة الفلسطينية ووصفها بالإرهابية؛ إذ قال: «لكن بداية، اسمحوا لي أن أكون واضحًا، فأنا أدين الهجمات التي نفذتها الجماعات الإرهابية ضد المدنيين الإسرائيليين، وهذه الجماعات لا تمثل الشعب الفلسطيني ولا تطلعاته المشروعة من أجل الحرية، وهي تنظيمات إرهابية، وأنا مصمم على وضع حد لنشاطاتها». بعدها يتحول عرفات إلى تنازل جوهري لم يكن أحد يتوقع أن يعلنه، وذلك عندما يشير إلى أن عودة اللاجئين الفلسطينيين ستراعي مخاوف إسرائيل الديموجرافية: «كذلك نسعى إلى حل عادل، ومناسب المشكلة اللاجئين الفلسطينيين الممنوعين من العودة لديارهم منذ ٥٤ عامًا، ونحن ندرك مخاوف إسرائيل الديموجرافية، وندرك أيضًا أن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين-الحق المقرر بموجب القانون الدولي وقرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤-يجب أن يتم بطريقة تراعي هذه المخاوف الإسرائيلية.
وفي مقابلته مع يديعوت أحرونوت، يوضح عرفات موقفه من قضية اللاجئين، فيقول: «أنا لا أطلب من كل الفلسطينيين العودة ليس جميعهم سيرغبون بذلك، هل تعتقد أن رئيس حكومة بليز، الذي هو فلسطيني الأصل سيرجع إلى هنا؟، وهل سيرجع كل الفلسطينيين الأثرياء الذين يعيشون في البرازيل وتشيلي، هل يبدو لك أنهم سيرغبون بالعودة أنا أطلب منهم الحضور للزيارة فقط لا أكثر، ولكنني قلت لكلينتون وباراك: إنه يجب أولًا حل مشكلة اللاجئين في لبنان الصعبة، الذين يبلغ تعدادهم حوالي ۲۰۰ ألف، أما بالنسبة للآخرين فسنجري مفاوضات فيما يخصهم، إن مشكلة اللاجئين في لبنان هي أولًا مشكلة إنسانية، وأنتم كيهود لا يمكنكم القول «لا» لعودة اللاجئين في لبنان الذين يشكلون مشكلة إنسانية».
وعلى صعيد رسالته لباول التي جاءت بعد زيارة شارون وبن إليعازر لواشنطن، يعرب عرفات عن تحمله بعض المسؤولية المتعلقة بسفينة الأسلحة، ويأخذ على نفسه المسؤولية كونه رئيس السلطة، وليس مسؤولية شخصية لما حدث، ويتعهد أن عملًا من هذا القبيل لن يتكرر، رغم أن عرفات نفسه كان يصر على نفي أي مسؤولية له بسفينة الأسلحة.
ما بعد تنازلات عرفات
وفي ضوء تلك التنازلات الأخيرة، رفضت الولايات المتحدة طلبات شارون التي حملها معه للبيت الأبيض خلال زيارته لواشنطن، وأعلن باول في الكونجرس «۱۳-۲» أن عرفات زعيم فلسطيني منتخب، كما قبل الرئيس المصري ولأول مرة منذ قصة سفينة الأسلحة الرد على مكالمة هاتفية لعرفات للتشاور يوم «۱۳-۲» في حين بقيت تل أبيب مصرة رغم كل شيء على أن عرفات لا يصلح شريكًا في التسوية، وفي هذا السياق نصح زعيم حزب العمل وزير الدفاع في حكومة «شارون» بنيامين بن إليعازر الأمريكيين بتبني واحد من الخماسي الفلسطيني أبو مازن، أبو العلاء، دحلان، الرجوب، ونسيبة بديلًا لعرفات، فيما اعتبرت وزارة الخارجية التي يرأسها شيمون بيريز رسالة عرفات في النيويورك تايمز، بأنها مقالة «للعلاقات العامة»، واعتبرتها مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندليزا رايس غير كافية.
تصريحات باول الأخيرة عن زعامة عرفات، مثلت تحولًا واضحًا في خطاب الإدارة الأمريكية، ويبدو من الواضح أن ثمة تلازمًا بين هذه التصريحات، وكل التنازلات السابقة التي قدمها عرفات، فضلًا عن أنها جاءت بعد يوم واحد من قرار سرب إلى وسائل الإعلام، اتخذه المجلس الثوري لحركة فتح، بزعامة عرفات بحل «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لفتح، والتي وضعت وحدة حركة فتح نفسها على المحك خصوصًا بعد رفض الكتائب الانصياع للأمر، وقد فسرت هذه الخطوة من قبل عرفات بأنها جاءت تجاوبًا مع شرط أمريكي أساسي للاعتراف به زعيمًا للشعب الفلسطيني وشريكًا في التسوية.
فشارون كان يطمح من خلال زيارته للبيت الأبيض إلى أن يحصل على ضوء أخضر أمريكي لعزل عرفات، ولكن البيت الأبيض سارع قبل الاجتماع إلى الإعلان عن رفض استبدال عرفات في المرحلة الحالية، وفي المقابل كانت ثمة رسائل أخرى مغايرة لموقف البيت الأبيض، تم تسريبه؛ حيث نقل وزير الدفاع الصهيوني ابن إليعازر، عن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني قوله: إنه لو تم شنق عرفات لما كان الأمريكان يعترضون، وأبلغ صحيفة يديعوت أحرونوت «۸-۲» أنه فوجئ من الموقف المتطرف لكبار الإدارة الأمريكية إزاء عرفات، وقال: «في هذا الموضوع كان تشيني أكثر تطرفًا من زنيفي». و«قال لي نائب الرئيس: من ناحيتي تستطيعون شنقه»، وسمع ابن إليعازر - حسب قوله - أقوالًا مشابهة من مستشاري وزير الدفاع الأمريكي، فيما قالت له كوندوليزا رايس باسم الرئيس بوش: إنها يائسة من عرفات، وأنه «ليس هناك ما يمكن الحديث معه بشأنه خسارة على الوقت»، ورغم أن البيت الأبيض نفى ما نسبه ابن إليعازر لتشيني من تصریحات، إلا أن مراقبين قالوا: إنه قد يكون تفوه بها فعلًا، لكنه لم يتوقع أن يسارع ابن إليعازر بنقلها للصحافة.
من خلال العرض السابق، يتضح أن ثمة تلازمًا ما بين الضغوط الأمريكية - الإسرائيلية، وما بين دفع عرفات باتجاه تقديم مزيد من التنازلات، كما يتضح أن جل التنازلات الجوهرية التي قدمها عرفات ارتبطت مباشرة ببدء الحديث عن بدائل فلسطينية له، خصوصًا مع تركيز الجانب الصهيوني بدعايته على أن عرفات لا يصلح شريكًا في تسوية.
لقد نجحت إسرائيل في جعل محورية قيادة عرفات، عامل ضغط عليه؛ لتقديم كل التنازلات التي تريدها منه، كما استغل شارون ذات القضية لخفض سقف اتفاق أوسلو، بل وحتى نسفه، وهو الاتفاق الذي عارضه شارون منذ البداية.
إن المسار الذي تسير به القضية الفلسطينية اليوم يعبر بعمق عن أزمة مشروع أوسلو، ومسيرة التسوية برمتها. إن عقود الغرر لا تأتي إلا بمزيد من التنازلات والغرر، كما أن اختزال قضية بحجم القضية الفلسطينية، التي تتشابك فيها الأبعاد الدينية والتاريخية بالسياسية والحضارية في شخص رجل واحد، مصيبة بكل المقاييس.
لقد طمح منظر أوسلو عن الجانب الفلسطيني بأن يأتي لهم الاتفاق بدولة فلسطينية مقامة على ٢٢%من أرض فلسطين التاريخية، هي مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين عام ١٩٦٧م، ولكن هذا المسار وصل الآن إلى حد أن نصر إسرائيل على أن لا دولة فلسطينية ستقوم فوق أكثر من ٤٢% من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، ما يعني قرابة ١٠٪ من أرض فلسطين التاريخية.
لقد كان من الواضح منذ البدء أن اتفاقية أوسلو الموقعة عام١٩٩٣م، تشبه بالنسبة للفلسطينيين وحقوقهم حقل الألغام، فأي خطوة تأخذها تعني أنك قد تدوس لغمًا، والخروج من ذلك الحقل سالمًا يوازي معجزة لن تتحقق.
لقد نجحت إسرائيل في ابتزاز الطرف الفلسطيني، حتى على مستوى فتات حقوقه، وها هي القيادة الفلسطينية اليوم ما زالت تسير في مسار المتاهات والمجهول مقدمة التنازل تلو التنازل؛ حيث لم تتعلم بعد أن مسار عشر سنوات من مسيرة تسوية قامت على أسس ظالمة، لم تزد الشعب الفلسطيني إلا مزيدًا من المعاناة والآلام، ومزيدًا من ضياع الحقوق ورغم كل ذلك، ما زالت تصر إسرائيل على أن الشعب الفلسطيني غير مهيأ بعد التسوية، وأن عرفات غير مؤهل لتقديم تنازلات مؤلمة، وكأنه بقي شيء له؛ ليقدم تنازلًا جديدًا فيه.