العنوان علمنة التصوف ونصبه عدوًا للشريعة
الكاتب د. محمد يتيم
تاريخ النشر السبت 03-مايو-2008
مشاهدات 14
نشر في العدد 1800
نشر في الصفحة 66
السبت 03-مايو-2008
التصوف والسياسة.. علاقة وجودية «2 من 2»
يذهب بعض من ساءت نياتهم من المنتسبين إلى «العلمانية» الشاملة المتطرفة إلى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، بين التجربة الصوفية والممارسة السياسية، فإنهم يقصدون بذلك تحييدًا للدين، وإعادة إنتاج للتجربة الغربية في العلاقة بالدين في صورتها الغربية المتطرفة، ومن ثم يريدون أن يفرضوا على الإسلام تصورًا لا يستقيم مع حقيقته وجوهره وتاريخه وحضارته .
وإذا تحدثوا عن التصوف تحدثوا عن سلوك أقرب إلى «الترهبن» و «الدروشة»، بترك الدنيا لأرباب الدنيا، أي على تجربة تؤمن بالخلاص الفردي، تجربة سلبية لا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكرًا، بل وجدنا بعض غلاة «العلمانيين»، أنصارًا لنمط من التصوف ذهب باسم طلب الحقيقة إلى هدم الشريعة، وباسم «المعرفة»، و «الذوق» إلى القول بإسقاط التكاليف.
بعض غلاة «العلمانية» ودعاة الاستئصال -يا للعجب- أصبحوا فجأة يدعون وصلًا بالتصوف، وهم أبعد الناس عن «الحقيقة» وعن «الشريعة»، سعيًا لتكرار تجربة حاولها الاستعمار وهي زرع الشقاق بين «أهل القبلة» وجعلهم شيعًا يضرب بعضهم بعضًا.
وهيهات هيهات، فلأهل الشريعة والحقيقة من التبصر والاعتبار بالتاريخ القريب والبعيد، ما يجعلهم يفوتون الفرصة على من يصطادون في الماء العكر، ويريدون باسم «تصوف خلوي محايد» تصوفًا غارقًا إلى النخاع في أسوأ أنواع السياسة، أي سياسة قائمة على النزاع والشقاق وتوجيه سهام «المتصوف» إلى «الفقيه»، و «صاحب الحقيقة» إلى «صاحب الشريعة»، والعكس بالعكس.
وتجدر الإشارة إلى أن فساد السياسة ليس داخلًا عليها من قبلها ولا هو مرتبط بهويتها وحقيقتها، فالسياسية في أصلها ومقاصدها نبيلة، والفساد اللاحق بها قد لحق بها بالعرض، لا بالذات بتعبير «ابن رشد»، ولذلك نقول، ونؤكد: إن فسادها راجع لأحد أمرين:
-فساد في «التجربة الصوفية» ونقصد بذلك إخفاقًا في حمل النفس على مراد الله -عز وجل-، وفشل في تجربة «التخلية» و «التحلية»، إما بسبب راجع إلى السالك نفسه، وإما إلى النهج أو الطريقة التي اختارها.
ومن المعلوم أن أفضل طريقة هي الطريقة النبوية المحمدية. وكل التجارب والطرق التي ظهرت في التاريخ الإسلامي اعتمد نجاحها أو فشلها بمقدار الاقتداء بصاحب الطريقة المحمدية «حقيقة» و «شريعة».
-أو أن تكون مقطوعة الصلة بتجربة صوفية من الأساس أو بانقطاع عنها: إذ يقل رجوع السياسي لذاته من حين لآخر لتعهدها والرجوع بها إلى العهد الأول، أي إلى عهد: «الترويض» و «التحلية» و «التخلية».
أما الانقطاع عن التجربة الصوفية فذلك هو ما تنتهي إليه الدعوة إلى «العلمنة السياسية»، فالوصل بين الدين والسياسة، والدين والدولة ليس مطلوبًا فقط على مستوى المرجعية التي ينبغي أن تنطلق منها التجربة السياسية، وهو أمر لا يتصور غيره في دولة إسلامية ومجتمعات إسلامية، لأن الدين ليس فقط مجرد تجربة فردية روحية وأخلاقية وشعائر خاصة بل هو يضع أسسًا كلية لبناء نظام اقتصادي واجتماعي وقانوني، ومن ينكر ذلك يفعله مكابرة ويريد أن يلغي تجربة أمة بكاملها في مجال التشريع وفي مجال اشتقاق عدة نظم اقتصادية واجتماعية وثقافية من رحم مرجعية الإسلام.
إن الوصل بين الدين والسياسة لازم وضروري أيضًا على مستوى الممارسة الخلقية والسلوكية. والذين يدعون إلى فصل الدين عن السياسة يحرمون هذه الممارسة ذات الصلة بميدان التدافع والنضال، من أجل إحقاق الحقوق، وتدبير الشأن العام، من خلفية خلقية قوية وأرضية تربوية عظيمة لا غنى عنها لصلاح المتصدي للشأن العام، الذي يفترض فيه درجات عظيمة من التجرد والزهد.
إن التجارب القريبة والبعيدة تدل على أن فساد السياسة والبنيات الحزبية لم ينتج من نقص في البرامج والمؤسسات والقوانين فقط، بل إنه راجع في الجزء الأعظم منه إلى فساد السياسيين وافتقارهم إلى تجربة صوفية حقيقية سابقة أو توقفهم عن ترويض النفس ومجاهدتها حتى لا تقع في أمراض السياسة، والتي على رأسها هوى متبع وإعجاب بالرأي ودنيا مؤثرة، وسقوط في المفسدات الكبرى للسياسة وعلى رأسها حب الجاه والتسلط.
ويتوهم الكثيرون، حينما يعتقدون أن معالجة أمراض السياسة وأعطابها تكمن في «لعنها» وإعلان الطلاق بينها وبين «التجربة الصوفية»، أو بلغة أخرى «التجربة التربوية»، وخوض تجربة صوفية «محضة»، بعيدة عن «أدران» السياسة ومؤامراتها وحيلها وألاعيبها. فتلك علمانية من نوع آخر، لا يأمن مريدها من أمراض وعيوب تظهر بشكل أو بآخر عند «المتدينين» و «السالكين» المنقطعين لـ «الذكر» و «العبادة»، ظانين أنهم سينجون من آفات كبرى متأصلة في الطبيعة البشرية، ومنها «حب الجاه»، و «الذكر الحسن».
ألم يقذف بذاكرين لله -عز وجل- في جهنم لأنهم لم يكونوا مخلصين في ذكرهم؟ ولعلماء معلمين لم يكونوا مخلصين في علمهم؟ فدخلوا النار ليس بسبب السياسة وصراعاتها: بل بسبب النفس وأهوائها ويقول الرسول ﷺ: «لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي شهرًا»
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل