العنوان فرنسا تبحث عن دور جديد في العالم العربي
الكاتب د. محمد الغمقي
تاريخ النشر الثلاثاء 16-أبريل-1996
مشاهدات 18
نشر في العدد 1196
نشر في الصفحة 22

الثلاثاء 16-أبريل-1996
- فرانسوا ميتران هو أول رئيس فرنسي يزور إسرائيل.. وكان ذلك في عام 1983م.
- اعتمد العراق على التسليح الفرنسي له في غزوة للكويت في أغسطس عام 1990م.
قام الرئيس الفرنسي جاك شيراك بزيارة إلى كل من لبنان ومصر، وصفت بأنها «تاريخية»، ولئن كان الحضور الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط قديمًا قدم الحروب الصليبية، فإن تجديده منذ عودة اليمين إلى الحكم في فرنسا فيه حنين إلى دور الديجولية في العالم العربي، في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات عميقة في ظل نظام دولي تهيمن عليه أمريكا حليفة إسرائيل، وفي إطار سياسة عالمية تهدف إلى محاصرة تنامي الصحوة الإسلامية.
وكانت لفرنسا مع العالم العربي عمومًا، ومنطقة الشرق الأوسط علاقات مد وجذر تداخلت فيها عوامل عديدة: سياسية، ودينية، وثقافية، واقتصادية، وعسكرية، وتعتبر معاهدة ١٥٣٥م بين سليمان القانوني وفرانسوا الأول- ملك فرنسا- الخطوة الرئيسية للتغلغل الفرنسي في المنطقة العربية بما وفرت من امتيازات تجارية ودينية للفرنسيين داخل الإمبراطورية العثمانية.
لكن تبقى حملة نابليون على مصر في القرن الثامن عشر (۱۷۹۸ - ۱۸۰۱) مؤشرًا لتكريس الحضور الفرنسي الثقافي في قلب العالم العربي والإسلامي كمدخل للتواجد السياسي، بل العسكري أحيانًا في المنطقة، فقد كان للحملة النابليونية دور كبير في تهيئة المناخ السياسي والثقافي للاستعمار العسكري الفرنسي في المغرب وفي المشرق العربيين.
فبعد احتلال الجزائر (۱۸۳۰م)، ووضع كل من تونس (۱۸۸۲م)، ثم المغرب الأقصى (۱۹۱۲م) تحت الحماية الفرنسية، جاء دور المشرق العربي مع الفارق بأن الاستعمار البريطاني كان ينافس الفرنسيين على هذا الجزء من العالم العربي والإسلامي، وتمكن كل من الطرفين من بسط نفوذه الاستعماري عبر اتفاقيات ومفاوضات سرية وعلنية منها اتفاقية سايكس بيكو التي نصت أساسًا على منح فرنسا القطاع الساحلي المشتمل على لبنان، والأناضول وقلقيلية، ومنح بريطانيا القطاع الجنوبي من بلاد ما بين النهرين مع بغداد، ومينائي حيفا وعكا في فلسطين.
وردًا على تتويج الأمير فيصل على عرش سورية الكبرى التي تضم لبنان وفلسطين أيضًا، في مارس «آذار» ۱۹۲۰م، أقر مؤتمر سان ريمو بعد شهر من هذا التاريخ وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وكل من العراق وفلسطين تحت الانتداب البريطاني.
واضطرت موجة الاستقلال الدول المستعمرة إلى الانسحاب العسكري، ويلاحظ أن الاستعمار الفرنسي انسحب من الأقطار العربية المشرقية قبل الأقطار المغاربية، فقد تم إعلان استقلال سورية ولبنان عام ١٩٤٢ و ١٩٤٣م، في حين استقلت تونس والمغرب عام ١٩٥٦م، أما الجزائر فقد قدمت مليون شهيد قبل إجلاء القوات الفرنسية عن أراضيها عام ١٩٦٢م، ويعود هذا التفاوت في عملية الانسحاب العسكري إلى عوامل عديدة منها طبيعة التواجد الفرنسي في المنطقتين «انتداب في المشرق، ونظام حماية بل احتلال في المغرب»، إضافة إلى العامل الجغرافي «قرب المنطقة المغاربية إلى فرنسا».
وكانت الحقبة الاستعمارية الممتدة للمنطقة المغاربية هي السبب الرئيسي في إثارة الرأي العام السياسي والشعبي العربي والإسلامي ضد السلوك الفرنسي، ففي الأمم المتحدة على سبيل المثال كانت الدول العربية تنتقد السياسة الاستعمارية في الجزائر، وكانت أحداث ١٩٥٦م «انسحاب القوات الفرنسية من السويس تحت ضغط أمريكي وسوفييتي»، عاملاً هامًا في تكريس كراهية العنصر العربي لدى الرأي العام الفرنسي.
- عظمة فرنسا
وقد استغل الجنرال ديجول كل هذه العوامل لطرح سياسة جديدة لبلاده تقوم على فكرة« استقلالية فرنسا وعظمتها»، فمع توليه للحكم عام ١٩٥٨م، بدأت فرنسا حقبة سياسية جديدة بما يعرف به «الجمهورية الخامسة»، وكان لإشعاعه وشخصيته الكارزماتية دور كبير في إقناع الرأي العام الفرنسي- علمًا بأنه لم ينجح في ذلك كليًا- بضرورة الانسحاب من الجزائر التي كانت تعتبر قطعة من فرنسا، في المقابل ركز ديجول على البعد الخارجي في السياسة الفرنسية بمحاولته إيجاد نخوة وطنية جديدة تغسل آثار ومخلفات السياسة الاستعمارية والضربات المتتالية للشعور بالكبرياء والاستعلاء الإمبريالي الذي كان طاغيًا على العقلية الفرنسية. وقد لعب العجز السياسي لحكومات «الجمهورية الرابعة» في تصفية الاستعمار وانفتاح البلاد على محيطها دورًا هامًا في سياسة ديجول البراجماتية، ومن أهم ما جاء على لسان ديجول قوله: «ففرنسا لأنها فرنسا، يجب أن تكون سياستها في وسط العالم سياسة عالمية، لأنها بتراثها العريق، وبتاريخها النابض والمتقلب مؤهلة لأن تدرج تحركها في اتجاه تحقيق غايات تستجيب لمصالح الإنسان».
من هذا المنطلق، يعد الانسحاب الفرنسي من الجزائر عام ١٩٦٢ بداية تحول في السياسة الفرنسية تجاه العالم العربي، فمنذ ذلك الوقت، بدأ تطبيع العلاقات العربية- الفرنسية على المستوى الرسمي من الجانب الفرنسي، وعلى المستوى الرسمي والشعبي من الجانب العربي، فبالإضافة إلى مصداقية ديجول لدى الشعوب العربية باعتباره «رجل مبدئي»، فإن الحكومات العربية اعترفت لهذه الشخصية الفرنسية بدورها الظاهري في الوقوف موقفًا متوازنًا إزاء قضية الشرق الأوسط، وبالتحديد القضية الفلسطينية، وقد استطاع ديجول من خلال مواقفه الشهيرة في حرب ١٩٦٧ م كسب الشارع العربي، وإعادة الحضور الفرنسي والثقافي والاقتصادي والسياسي في المنطقة العربية بالرغم من تأكيد الجانب الفرنسي على علاقات الصداقة بين فرنسا وإسرائيل، بمناسبة كل زيارة يقوم بها مسؤول إسرائيلي إلى فرنسا.
- ديجول والعرب وإسرائيل
ومعلوم أنه منذ تولي ديجول الحكم عام ١٩٥٨ م لم يزر أي وزير فرنسي إسرائيل، وبأمر من ديجول نفسه تم إيقاف العلاقات المميزة بين الطرفين على الصعيد العسكري «إدماج بعض المسؤولين الإسرائيليين في جميع درجات القيادة العامة والمخابرات الفرنسية خلال الجمهورية الرابعة عند الهجوم الثلاثي على السويس وبعده»، وخلال أزمة ١٩٦٧م وقف ديجول ضد الطرف الإسرائيلي لأنه بادر بفتح الصراع بهجومه الخاطف على مصر، وقد أثار تصريح لديجول بهذه المناسبة في حديث صحفي قلقًا كبيرًا لدى الرأي العام الفرنسي المؤيد لإسرائيل فقد جاء في كلامه أن إسرائيل، «شعب نخبة واثق في نفسه ومهيمن».
يضاف إلى هذا الموقف قرار ديجول بتعميم الحظر على الأسلحة الموجهة لإسرائيل بعد هجومها على مطار بيروت في ١٦ ديسمبر ١٩٦٨م.
ومعلوم أن فرنسا تعير اهتمامًا خاصًا للبنان التي ظلت تنظر إليها نظرة خاصة، كامتداد ثقافي لها في المنطقة من خلال الدور المسيحي في هذا البلد وعلاقته بالسند المادي والمعنوي الفرنسي للمسيحيين هناك، وبالرغم من التعاطف مع لبنان، إلا أن اللوبي اليهودي في فرنسا استاء كثيرًا لإجراءات الردع ضد إسرائيل، وتحرك من أجل إسقاط ديجول، فلا غرابة أن الاستفتاء على بقاء أو عدم بقاء ديجول في السلطة كان بالسلب فانسحب من السلطة وخلفه جورج بومبيدو عام ١٩٦٩م.
- العلاقات الفرنسية العربية بعد ديجول
ويلاحظ بأن النهج الديجولي تواصل في خطوطه العريضة فيما يتعلق بسياسة فرنسا في منطقة الشرق الأوسط، لكن البعد الإستراتيجي ضعف، فيما قوي البعد الاقتصادي والتجاري والعسكري، وفي هذا الإطار، تضاعف التعاون العلمي والتقني والخدماتي، والتبادل التجاري بين فرنسا والأقطار العربية، فقد تم تأسيس اتحاد البنوك العربية- الفرنسية عام ١٩٧٠م، والشركة العربية والدولية للاستثمار عام ۱۹۷۳م، كما ارتفعت مبيعات الأسلحة الفرنسية إلى الدول العربية، خاصة في عهد جيسكار ديستان الذي خلف بومبيدو عام ١٩٧٤م، وجاء في الإحصائيات أن هذه المبيعات قاربت ثلثي أو ثلاثة أخماس الصادرات العسكرية الفرنسية الذي ارتفعت من ملياري فرنك عام ١٩٦٩م، إلى (١٥ مليار) فرنك عام ١٩٧٤م، و (٣٥ مليار) فرنك عام ۱۹۸۱م، وبالرغم من أزمة النفط عام ١٩٧٣م إلا أن تجارة الأسلحة لم تتوقف.
إلى جانب ذلك، تعاونت فرنسا مع العراق من أجل تمكينها من اليورانيوم، وتجسد ذلك عند زيارة ريمون بار- رئيس الوزراء في عهد جيسكار إلى العراق عام ۱۹۷۹م، وقدم الخبراء الفرنسيون خبرتهم لبناء المفاعل النووي العراقي Osirak الذي دمره الإسرائيليون عام 1981م، مقابل ذلك استفاد الفرنسيون كثيرًا من النفط العربي واحتياجاتهم من الطاقة عمومًا، بالإضافة إلى الاستفادة العملية من اليد العاملة القادمة من الأقطار العربية أو من الأموال التي كانت تودع أو تستثمر في فرنسا.
بيد أنه لا يمكن فهم سياسة فرنسا تجاه العالم العربي عمومًا ومنطقة الشرق الأوسط خصوصًا بدون وضعها في الإطار الدولي العام.
فكما يرى العديد من الخبراء فإن الإستراتيجية الديجولية كانت محكومة بمنطق يقوم على تشجيع التعامل والاتكاء على الأقطار العربية بالنظر إلى التوافق بين التصور الديجولي للاستقلالية الفرنسية عن التبعية للقوتين العظميين قبل انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين من جهة، والتوجه العربي في ذلك الوقت القائم على نزعة المواجهة للهيمنة الأمريكية التي تقودها الناصرية والبعثية من جهة أخرى.
وهذا التوافق في التوجه هو الذي يفسر الالتقاء في وقت معين بين العرب والفرنسيين، وقد تم تضخيم الاهتمام الديجولي بالعرب، في حين أن الإستراتيجية الديجولية كانت تهدف إلى إبراز الخيار المتوسطي كبديل عن الخيار الأطلسي الذي يخفي الهيمنة الأمريكية، وهو ما كان يرفضه ديجول وخلفاؤه من اليمين، من هنا جاءت الدعوة الفرنسية إلى الاهتمام ب «أمن البحر الأبيض» المتوسط بخلفية أن هذا البحر أوروبي قبل أن يكون ميدانًا لصراع عالمي، وكان بومبيدو مؤيدًا لهذا النهج بدعوته لسياسة عربية في ظل مشروع متوسطي.
- اليسار يعيد التوازن لصالح إسرائيل
وبوصول اليسار إلى الحكم في فرنسا عام ۱۹۸۱م، توجهت السياسة الخارجية الفرنسية في اتجاه ما يسمى بإعادة التوازن للموقف الفرنسي من قضايا الشرق الأوسط، وتبين أن هذا التوازن ليس سوى تمهيد لتطبيع العلاقات الإسرائيلية- الفرنسية من أجل خدمة المشروع الصهيوني الشرق أوسطي الذي تشرف عليه الولايات المتحدة بعد انفرادها بالهيمنة على النظام الدولي الجديد.
وأهم عنصر تغيير في السياسة الخارجية الفرنسية تمثل في دخولها في منظومة الإستراتيجية الأمريكية، بالرغم من محاولة الظهور في بعض المواقف بصفة الاستقلالية، وباعتبار أن هذه المنظومة تقوم على هدف التطبيع الإسرائيلي- العربي، فقد لعبت الصداقات بين اليسار الفرنسي واليسار الإسرائيلي الذي وصل إلى الحكم دورًا أساسيًا في تذليل العراقيل والصعوبات أمام هذا التوجه.
فبالرغم من التنديد الفرنسي بالغارة الإسرائيلية على المفاعل النووي العراقي، فقد قام میتران بزيارة إلى القدس عام ۱۹۸۳م، بعد أن أرسل وزيره للخارجية كلود شيسون هناك، وتعددت الزيارات الرسمية الفرنسية لإسرائيل، في حين لم يسبق أن زار رئيس فرنسي إسرائيل قبل هذا التاريخ، وتكثفت الوساطات الفرنسية بين السلطات الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد تم حث هذه الأخيرة على الاعتراف بإسرائيل مقابل التأكيد بأن السلام يتم عبر هذه المنظمة.
إن الرئيس ميتران حث زعماء المعارضة الفرنسية في عهده شيراك وديستان على زيارة إسرائيل للتعبير عن تعاطفهم مع الرأي العام اليهودي بعد حادث انفجار يستهدف الجالية اليهودية في فرنسا، بل إنه نزل إلى الشارع في إطار مظاهرة ضخمة نظمت بعد نبش مقابر ليهود في فرنسا.
أما في لبنان، فقد عززت فرنسا حضورها، وقام الرئيس ميتران بزيارة إلى بيروت في أكتوبر ۱۹۸۳ م لتقديم دعم معنوي للجنود الفرنسيين، وبعد استهداف التواجد العسكري الفرنسي في لبنان (٥٤٠ قتيلا) قام ميتران بزيارة دمشق عام ١٩٨٤م، والتقى الرئيس السوري حافظ الأسد، وفسر المراقبون ذلك بالاعتراف الضمني بالدور السوري في المنطقة، وبالتحديد في لبنان.
وكان هدف فرنسا المحافظة على تواجدها التاريخي في لبنان بالتكيّف مع ميزان القوى المعقد هناك بسبب التعدد الطائفي والتداخل السياسي بين لبنان وسورية، والتواجد الفلسطيني على أرض لبنان والاحتلال الإسرائيلي للجنوب
من هذا المنطلق نددت فرنسا بالتدخل الإسرائيلي في لبنان عام ۱۹۸۲م وساعدت في المقابل على انسحاب عرفات وذهابه إلى تونس بمعية قوات منظمة التحرير الفلسطينية، وفي الواقع فإن الوقوف إلى جانب عرفات في محنته نتج عنه استجابة هذا الأخير للخطة الفرنسية في جره إلى الاعتراف بإسرائيل والدخول في مسار السلام حسب المشروع الواسع للتطبيع العربي- الإسرائيلي.
كما أن العلاقات الشخصية القوية بين الرئيسين الفرنسي والمصري ساهمت في دفع مسار السلام المشار إليه، إلى جانب النتائج الاقتصادية عبر المساهمة الفرنسية في العديد من المشاريع الصناعية الكبرى بمصر «مفاعل نووي- مشروع مترو القاهرة- خط سكة حديد بين القاهرة والإسكندرية...».
وفي حين تراجعت الواردات الفرنسية من النفط العربي، فقد ارتفعت مبيعات السلاح الفرنسي إلى البلدان العربية خاصة إلى العراق التي وجدت سندًا فرنسيًا قويًا في صراعها مع إيران، فيما بين ۱۹۸۱ و ۱۹۸5 م أرسلت فرنسا إلى العراق ما يقارب قيمته (۵۱۰۰ مليون) دولار، وما بين ۱۹۸4و ۱۹۸۸م ما يعادل (۳۱۰۰ مليون) دولار، في المقابل استوردت فرنسا (٣٢,6 مليون) طن من النفط العراقي ما بين ۱۹۸۱ و ۱۹۸۸م. أما مبيعات السلاح الفرنسي لمجمل بلدان المشرق العربي عدا العراق فهي تعادل في نفس الفترة حوالي (١٥٥٠٠ مليون) دولار، وأهم هذه الأسلحة طائرات هليكوبتر Puma وصواريخ Exocet وطائرات «ميراج» وبدون شك فقد استفاد العراق من التسليح الفرنسي بالخصوص لشن هجومه على الكويت فيما يعرف بحرب الخليج الثانية.
ومنذ ذلك الوقت.. لم تعد العراق الشريك الأول لفرنسا في منطقة الشرق الأوسط على عکس سورية التي بدأت تدخل أكثر ضمن الاهتمامات الفرنسية بسبب الأهمية الإستراتيجية للبنان بالنسبة لفرنسا، فعلى سبيل المثال في عام ۱۹۸۳م كان التبادل التجاري بين العراق وفرنسا يعادل (٩,٩ مليار) فرنك في حين لم تكن هناك مبادلات بين فرنسا وسورية، وفي عام ۱۹۹۱م، غابت العراق عن قائمة الشركاء الاقتصاديين في الشرق الأوسط في حين تلقت فرنسا (3 مليارات) فرنك من الجانب السوري.
لكن عودة العلاقات السورية- الفرنسية لم تكن محل ارتياح مسيحيي لبنان، وبالتحديد موازنة الذين كانوا يسيطرون على مواقع القرار، وكان لهم دور في إذكاء نار الحرب في لبنان، ولعل جماعة ميشيل عون هم أكثر الأطراف انتقادًا للتقارب السوري- الفرنسي، علمًا بأن عون مقيم في فرنسا، ويقوم بالعديد من التصريحات والمقابلات الصحفية التي تدعو إلى دعم التواجد المسيحي في لبنان، بيد أن فرنسا مدركة أنه لا حل للنزاع في الشرق الأوسط بدون التفاوض مع سورية.
وقد كان مؤتمر مدريد عام ۱۹۹۱ م حول ما يسمى بالسلام في الشرق الأوسط، بحضور فلسطينيين وإسرائيليين وأطراف عربية، وممثلين لقوى غربية يشكل تتويجًا لجهود هذه القوى وعلى رأسها الولايات المتحدة، وتليها فرنسا من أجل التوصل إلى التطبيع العربي- الإسرائيلي.
- الديجولية الجديدة
وتزامنت عودة اليمين الديجولي إلى الحكم في فرنسا عام ۱۹۹٥م برئاسة شيراك مع التقدم في مسار التطبيع وقطع أشواط كبيرة منه، إلا أن المعادلة الصعبة التي واجهت الديجوليين تتمثل في كيفية التوفيق بين التوجه الاستقلالي، عن القوى الكبرى الذي رسمه ديجول لبلاده في سیاستها الخارجية في ظرف مغاير يتسم بالأحادية القطبية الأمريكية.
يبدو أن الحنين إلى الديجولية دفع الجيل الجديد من أنصار هذا الخط السياسي إلى التحرك ضمن الهامش الذي يمكن أن تسمح به الهيمنة الأمريكية في إطار سياسة تقسيم الأدوار التي تضمن للطرف الأوروبي عمومًا والطرف الفرنسي خصوصًا لعب دور فعال في خدمة المشروع الكلي في الشرق الأوسط- «التطبيع العربي – الإسرائيلي» المتفق عليه من كل الأطراف الغربية مع ضمان المصالح الحيوية..
وقد كان للتناغم بين اليمين الديجولي والبيت الأبيض حول مسار السلام تأثير كبير في عودة الحضور الفرنسي إلى المنطقة، وقد بدأت مؤشرات هذا التناغم من خلال الاتفاق مع الطرح الإسرائيلي الذي يقول بأن «الخطر الأخضر» والمقصود به الصحوة الإسلامية هو العائق الكبير أمام إقامة النظام الشرق أوسطي، والمطلوب أن يعمل كل من موقعه على محاصرة المد الإسلامي بأساليبه وسياسته الخاصة من أجل تحقيق الهدف الكبير المشترك.
- لبنان ومصر
وفي ظل هذه المبادئ المتفق عليها، نشطت الدبلوماسية الفرنسية في المنطقة بهدف تفعيل الدور الفرنسي الذي أصابه نوع من الاختلال بسبب النزعة المفرطة أثناء حكم اليسار في ربط علاقات مميزة مع الطرف الإسرائيلي، وتأتي زيارة شيراك الأخيرة إلى كل من لبنان ومصر في هذا الإطار، واختيار هذين البلدين ذو أبعاد ورموز عدة، منها: إن لبنان سيبقى ضمن البلدان التي لها علاقات تاريخية، ومصالح حيوية مع فرنسا، علمًا بأن هذه هي الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس فرنسي إلى هذا البلد منذ نهاية الانتداب الفرنسي.
وبدون شك فإن النفوذ الثقافي الفرنسي هناك هو أحد العوامل الدافعة للديجوليين لتنشيط العلاقة مع بيروت من أجل إبراز عظمة فرنسا، وبالرغم من الانتقادات حول الموقف الفرنسي من التواجد السوري في لبنان، فإن شيراك حرص على زيارة لبنان، وعلى تشجيع المسيحيين على المشاركة السياسية عبر الانتخابات التشريعية القادمة.
أما اختيار مصر كمحطة ثانية في هذه الزيارة، فالهدف منه إحياء النفوذ الثقافي الفرنسي في هذا البلد، الذي يعود إلى حملة بونابرت (۱۷۹۸ - ۱۸۰۱م)، وإلى جانب تحريك العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فإن اختيار القاهرة للإعلان عن مستقبل السياسة الفرنسية في المنطقة العربية يعد دفعًا جديدًا ومساندة قوية للتوجهات الرسمية المصرية فيما يتعلق بمعالجة الملف الإسلامي، وتكريسًا للموقع الإستراتيجي الذي تحتله مصر في المنطقة بين أفريقيا وآسيا، ولهذا جاء في خطاب شيراك أمام طلبة جامعة القاهرة بأن أوروبا، وعلى رأسها فرنسا ستكمل هذا الدور بربط جسر بينها وبين مصر حتى يكتمل المثلث القاري مع التركيز على البعد المتوسطي.
ومع التأكيد على البعد الأوربي فإن فرنسا تريد أن يكون لها الدور المحرك في العمل المتوسطي، وتدخل هذه السياسة في إطار منافسة أوربية في اكتساب الأسواق العربية، ولذلك سارع شيراك في قمة «شرم الشيخ» بالتأكيد على الدعم الفرنسي للطرف الفلسطيني من أجل المساهمة في عملية التنمية كمفتاح للسلام من منظور غربي، وبعد القمة قدمت فرنسا الدعم الذي وعدت به إلى السلطات الفلسطينية، كما أن فرنسا لم تكن موافقة على إدماج إيران ضمن الأطراف المتهمة بمساندة عمليات التفجير والعمل المسلح الفلسطيني، وذلك لأن المصالح الفرنسية، وكذلك الألمانية تقتضي عدم خسارة سوق كبرى مثل إيران.
ويبدو أن فرنسا تسعى إلى كسب نصيب الأسد في العلاقات الأوربية- العربية، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي وإنما أيضًا على الصعيد السياسي والثقافي، وتستند في ذلك إلى الإستراتيجية الديجولية القائمة على إبراز العظمة الفرنسية وإلى قدرتها من خلال التأثير الثقافي على تغيير العقليات بما يخدم مشروع التطبيع العربي- الإسرائيلي، وهي تسير في اتجاهين: اتجاه التمايز عن الكتلة الأوروبية المشغولة بالانفتاح على أوروبا الشرقية ودعمها المادي، واتجاه مسايرة المنظومة الأمريكية المهيمنة على النظام الدولي الجديد.
وبذلك تكون قد تخلت عن أهم مقومات الديجولية القائمة أيضًا على مبدأ الاستقلالية عن المحورية، ولعل المشاكل الداخلية الاقتصادية التي تعيشها أوروبا وفرنسا تفسر التوجه الفرنسي الحالي الذي يحاول حل الأزمة الاقتصادية «بطالة....» الداخلية بالانفتاح على المحيط الخارجي، وكسب أسواق جديدة تحت منظومة أيديولوجية ديجولية جديدة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالقيم العلمية والأخلاقية في الحضارة الإسلامية.. الدين والحياة وجهان لعملة واحدة
نشر في العدد 1811
34
السبت 19-يوليو-2008


معالم الإصلاح والتجديد في تجربة نور الدين زنكي (2) بناء دولة العقيدة على أصول أهل السُّنة
نشر في العدد 2180
23
الخميس 01-يونيو-2023
