; في ليلة استشهاد حسن البنا | مجلة المجتمع

العنوان في ليلة استشهاد حسن البنا

الكاتب حمدي عبدالعزيز

تاريخ النشر الثلاثاء 27-فبراير-2001

مشاهدات 10

نشر في العدد 1440

نشر في الصفحة 46

الثلاثاء 27-فبراير-2001

قبل اثنين وخمسين عامًا كان ميلاد الكيان الـصهيوني والاستبداد

  • آمن بأن الطريق السليم لتخليص حقوقنا الشرعية في فلسطين من المحتل هو الجهاد ولذا لم يتوقف عن إرسال كتائب المجاهدين

عاش البنا بضعة وأربعين عامًا، وتألق وهو لما يبلغ الثلاثين، وحمل رسالته إلى العالمين في شجاعة المؤمن، وبراعة القائد، وحكمة المجاهد، وصدق الداعية، فلم يلبث أن استمعت له الدنيا، واجتمعت حوله القلوب، فهز دوائر الأحزاب السياسية، وأزعج الزعماء، وأقض مضاجع المستعمرين، وتكالبت القوى كلها على الخلاص منه. 

لقد عاش بين عامي ١٩٠٦م، حيث ولد، و١٩٤٩م حيث استشهد، وهذه الرحلة تمثل أخطر مراحل العلاقات بين المسلمين والإمبريالية الغربية، فكان سقوط معظم بلاد المسلمين في قبضة الاستعمار أول الأحداث التي هزت النفس، وما كاد يخطو خطوة أخرى حتى سقطت الخلافة الإسلامية، وتفككت وحدة المسلمين، وفرض الاستعمار نفوذه وسلطانه في مدارسهم ومصارفهم، وقوانينهم، وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كل ذلك أحاطت به هذه النفس المؤمنة، واستوعبته جيدًا، ثم عملت على تغييره بالفكر والحركة التي انتشرت في أقطار العالم الإسلامي، فجدد الله به دعوة الإسلام في القرن العشرين.

كان الرجل أمة وحده، رأى كل المنطلقات عاجزة بعد التجربة الطويلة، ومنهج الغرب لم يحقق الهدف الذي تتطلع إليه الأمة، وبدا وكأن الأمة قد أحيط بها، والذين وعدوها بالنصر في ظل تقليد الغرب، قد بدوا كأنهم ظالمون غاشمون وكان لابد من منطلق صحيح، ولم يكن هذا المنطلق إلا ذلك الذي وضعه رسول الله ﷺ منهجًا للتربية.. تربية جيل يؤمن بأن الإسلام منهج حياة ونظام مجتمع.

لحظات فارقة

وأراد له البعض أن يموت دون أن تقوى الفكرة والحركة التي تتعجل المسير نحو النصرة والدفاع عن فلسطين، ولكن مشيئة الله أرادت أن يمضي فيكون استشهاده على حد قول الشهيد سيد قطب- على النحو الذي أريد له – عملية جديدة من عمليات البناء. 

وجاءت حادثة اغتيال الشهيد حسن البنا في ۱۲ من فبراير ١٩٤٩م في لحظات تاريخية كانت القوى الداخلية والخارجية تتربص فيها بالجماعة، فالملك بدأت تهتز مكانته لتدهور سمعته بفعل الفضائح الخاصة به وبأسرته، والحكومة التي يتزعمها حزب السعديين بقيادة محمود فهمى النقراشي صاحبة الأداء الضعيف على صعيد قضيتي الاستقلال وفلسطين، وكذلك القوى الغربية بما لها من مصالح ونفوذ، وبما تملك من وسائل ضغط على الملك واليهود الذين بدأوا في تثبيت وجودهم في فلسطين المحتلة، وكان الإخوان المسلمون العقبة الكبرى في طريقهم، ولو وجدت في هذه اللحظة التاريخية إرادة سياسية في مصر لما قام كيان الصهاينة في الأساس، ولكن نجحت القوى الغربية في إضعاف هذه الإرادة وخلق الضباب حولها.

وقد ربط الشهيد البنا بين استعادة هذه الإرادة التي ستفتح الباب لمصر كي تعود إلى دورها القيادي في العالم الإسلامي، وبين قضية تحرير فلسطين على اعتبار أن كليهما يؤدي للآخر.

وآمن بأن الطريق السليم للمحافظة على حقوقنا الشرعية في فلسطين وتخليصها من مغتصبيها هو الجهاد، وتحقيقًا لذلك أرسل كتائب الإخوان إلى فلسطين، وأرسل برقية إلى زعماء الدول العربية المجتمعين في بلودان بسورية- قبل إعلان قيام الكيان الصهيوني- يخبرهم أنه على استعداد أن يقدم عشرات الألوف من شباب الإخوان إلى فلسطين لتحريرها أو الاستشهاد فيها، وأن كتيبة من عشرة آلاف متطوع مجهزة للدخول والقتال، ولكن حكومة النقراشي قامت بمنعهم من دخول فلسطين وتلتها حكومة إبراهيم عبد الهادي التي شددت حملاتها في مطاردة الإخوان، وكانت تلك الأحداث تعتصر قلوب المجاهدين، وكان البنا حريصًا على استمرار الجهاد، فأرسل رسالة إلى إخوانه المجاهدين في فلسطين يقول فيها : لا شأن للمتطوعين بالحوادث التي تجري في مصر مادام في فلسطين يهودي واحد، فإن مهمتهم لم تنته.

وقال: إننا نحتسب هذا الدم العزيز المسفوح إعذارًا إلى الله، وتذكيرًا لهذه الأمة- إن كانت تنفع الذكرى- وربما تكون هذه الرؤية الواضحة للموقف في المنطقة هي التي عجلت بحادثة الاغتيال، وحرمت العالم الإسلامي من قيادة وطنية مجددة، كما توقع الكاتب الغربي روبير جاكسون بعدما التقى الشهيد في العام ١٩٤٦م.

موقف شاذ

ونتيجة لهذه الرؤية أيضًا بدأت خطوات التضييق على الجماعة في تلك اللحظات الفارقة ومن ذلك التصدي للتظاهرات المطالبة بالاستقلال وإطلاق الرصاص على بعضها كتظاهرات الأزهر وكوبري عباس، والانقضاض على المجاهدين بقبول حكومة النقراشي الهدنة في 11/6/1948م، وتبع ذلك إصدار الحكومة الأمر إلى الجيش المصري بسحب الإخوان من فلسطين في 11/11/1948م وسعى المرشد العام وقتذاك إلى إنقاذ الموقف إلى أن أعلن الراديو نبأ الأمر الصادر من وزارة الداخلية بحل جماعة الإخوان المسلمين بكل فروعها في 8/15/1948م، ونشرته الصحف في اليوم التالي بمبررات أغلبها ملفق، واعتقلت الشرطة- التي كانت تحيط بالمركز العام- كل المجتمعين فيه باستثناء البنا، وصودرت أموال الجماعة وصفيت شركاتهم. وأرجع الشهيد البنا سبب موقف الحكومة الشاذ الذي لم تقفه حتى من الصهاينة أعداء الأمة إلى:

  1. ضغط أجنبي دولي وقع على الحكومة وخاصة من بريطانيا التي كانت تعتبر الإخوان من ألد أعدائها، وتمثل هذا الضغط في مذكرة رفعها كل من سفيري بريطانيا وفرنسا، والقائم بأعمال السفارة الأمريكية في مصر، بعد اجتماعهم في فايد في 6/12/1948م، وطالبوا الحكومة المصرية بحل الإخوان، وهو طلب تكرر كثيرًا ورفضه النحاس باشا في العام ١٩٤٢م، وكانت الحرب العالمية على أشدها، وكان هذا الطلب الأخير مشفوعًا بالتهديد باحتلال القاهرة

والإسكندرية في حال عدم الاستجابة.

  1. الإعداد للانتخابات البرلمانية التي كانت ستجرى في سنة ١٩٥٠م، وهدف قرار الحل كان حرمان الإخوان من المنافسة في هذا الميدان.

  2. الأصابع الخفية، ويقصد بها شهيد الدعوة أصحاب الغايات الذين خاصموا الدعوة منذ مولدها، ودأبوا على التدبير ضدها، وهم الطابور الخامس من أنصار اليهود والشيوعيين الإلحاديين والإباحيين.

هدية عيد الميلاد

ولم يقبض على البنا تمهيدًا لإعداد خطة لاغتياله، وكان البنا يدرك أبعاد الموقف حاول التقاء النقراشي لتهدئة الموقف، لكن قبل أن يتم اللقاء، في ۲۸ من ديسمبر ١٩٤٨م أطلق الشاب عبد الحميد أحمد حسن- طالب طب بيطري- الرصاص على النقراشي فأرداه قتيلًا ، ونادى أتباع القتيل بالثأر، وكان نداؤهم ستارًا اختفت وراءه القوى التي دبرت لاغتيال البنا بعد مرور أقل من شهرين على اغتيال النقراشي، وكان ذلك في يوم عيد ميلاد الملك فاروق يوم 10/2/1949م.

وأعقب النقراشي وزارة إبراهيم عبد الهادي التي حاولت استئصال جماعة الإخوان، وقد علق عليها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي قائلًا: إنها قررت مد الأحكام العرفية سنة أخرى ثم تمادت في استخدام هذا النظام لاضطهاد كل من اشتبه فيه رجال القسم السياسي بأنه من الإرهابيين وأهدرت في هذا السبيل ما كفله الدستور من حقوق وحريات للمواطنين.

واستمرت حكومة إبراهيم عبد الهادي في مطاردة الإخوان واعتقالهم بشكل روتيني أخذ يتكرر يوميًّا، حتى إنه لم يعد للشهيد البنا حرس سوى شقيقه عبد الباسط الذي قبضوا عليه في ١۳ من يناير ١٩٤٩م.

وعقب ذلك سحبوا مسدس الشهيد الذي كان يحمله بصفته رئيسًا لإحدى الهيئات في 7 فبراير، ثم صادروا سيارته الشخصية وسيارة أحد إخوانه التي أعطاها له لتنقلاته، وهكذا صار الشيخ بلا حارس أو سيارة، وحتى الهاتف فقد حرارته بأمر من وزارة الداخلية، وبقي المرشد موضع رقابة دقيقة من القسم السياسي، وكان الهدف هو أن يظل مكانه معلومًا حتى الوقت المحدد الذي تتيحه الفرصة، ويصفه الشهيد عبد القادر عودة في تلك الأعوام قائلًا: «صار الشيخ البنا عصفورًا في قفص».

الموعد

ويحكي الأستاذ عبد الكريم منصور- المحامي، وصهر الشهيد ورفيقه في أثناء حادث الاغتيال- قائلًا: إن السيد رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين جاءه وأخبره بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات، وأن شخصية حكومية ستحضر لهذا الغرض، وقد فضل الأستاذ عبد الكريم منصور ألا يذهب الشيخ، ولكنه صمم على الذهاب قائلًا: إني وعدت ولا يجوز أن أخلف الميعاد، وذهبا إلى الموعد، وكان عقب صلاة المغرب، ولكن لم تحضر الشخصية الحكومية حتى العشاء، فقام الإمام الشهيد وصلى بالناس في الجمعية صلاة العشاء، ثم جلسا بعدها، ولم تحضر الشخصية الحكومية، وهنا أرادا الخروج وكانت الساعة تشير إلى الثامنة والثلث مساء، واستوقفا سيارة وركابها، وفي هذه اللحظة تقدم شخص وأراد فتح الباب من ناحية الأستاذ عبد الكريم منصور فأغلقه، فقام هذا الشخص بإطلاق الرصاص على صدره ثم على مرفقه الأيمن، وعندما حاول مقاومته أطلق رصاصة أخرى أسفل بطنه فعجز عن الحركة.

ثم توجه هذا الشخص إلى الإمام، وحاول فتح الباب من ناحية الإمام الشهيد، ولما لم يستطع أطلق الرصاص عليه، ثم فتح الباب وظل يطلق الرصاص على الشهيد وهو يتراجع، وقام الشهيد بالجري خلفه نحو مائة متر إلا أن سيارة كانت تنتظر القاتل فاستقلها وهرب.

وبعد نقل الشهيد ومرافقه إلى مستشفى قصر العيني جاء الأميرالاي محمد وصفي- مندوب الملك لمتابعة الأمور- وقال لهما عندما دخل عليهما "انتو لسه ما متوش یا مجرمين"، وأكد الأستاذ عبد الكريم منصور أن حالة الشهيد لم تكن خطيرة ولكنهم تواصوا بأن يتركوا دماءه تنزف حتى فاضت روحه، وجاء البوليس السياسي بجثمان الشهيد إلى أبيه في الظلام، وحاصروا بيته واعتقلوا بعض الإخوان الذين حاولوا الحضور وقام الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا- والد الشهيد بتغسيل ابنه الذي لم يتجاوز الثالثة والأربعين وأحضروا له نعشًا ورفضوا حمل الجنازة، وقالوا: تحمله النساء فقامت الأم والزوجة وإحدى بنات الشهيد بمعاونة الشيخ الكبير ومعهم ابنه أحمد سيف الإسلام، وكان في الرابعة عشرة من عمره في حمل الجنازة لمسافة طويلة حتى المسجد للصلاة عليه، وتم دفنه بمقابر الأسرة بمنطقة الإمامين "الشافعي والليث بن سعد"، ولم يستطع أحد من الإخوان الحضور لأدء واجب العزاء، ولم يفلت من الطوق الأمني سوى الرجل القبطي والوزير السابق مكرم عبيد باشا الذي كان يقول: أنا مسيحي دينًا، ومسلم وطنًا.

وحفظت حكومة إبراهيم عبد الهادي التحقيق في القضية ضد مجهول حتى وقعت ثورة ٢٣ من يوليو 1952م، وأرادوا فضح النظام الملكي فأعادوا التحقيق في القضية، وصدرت أحكام بالسجن على القتلة، ولكن ما إن ساءت العلاقات مع الإخوان حتى أصدرت الحكومة عفوًا عن المجرمين.

رحم الله الإمام الشهيد، وليعلم الجميع في هذه المناسبة من هو المعتدي، ومن هو المتعدى عليه: ﴿وَلَنَصۡبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيۡتُمُونَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ  (إِبۡرَاهِيم :12) 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل