العنوان كلمات شهيد تنبض بالحياة.. على أبواب كابل
الكاتب د. عبد الله عزام
تاريخ النشر الأحد 17-مايو-1992
مشاهدات 83
نشر في العدد 1001
نشر في الصفحة 26
الأحد 17-مايو-1992
رغم أن
هذه السطور قد صاغها الشهيد عبدالله عزام- رحمه الله- منذ سنوات افتتاحيةً لنشرة
«لهيب المعركة» وكان ينظر إليها حينئذ على أنها حلم بعيد المنال، إلا أنها ظلت حية
حتى كأنها كتبت قبيل لحظات من فتح كابل منذ عدة أسابيع وها نحن نوردها حية بكل
نبضها سائلين الله تعالى أن يتغمد صاحبها بواسع رحمته وأن يتقبله في الشهداء
والصالحين.
«المجتمع»
«إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وبعد:
فالآن
تصطف الجياد في أرجاء كابل تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، والنفوس مشدودة،
والعيون متسمرة، والكلمات جفت على شفاهها، والقلوب زاد نبضها ووجيبها، والأجساد
تكاد تمنع لهاثها المتقطع لتحسن الاستماع، وأطرقت الأعناق لتحسن الإصغاء لأنها
تنتظر خبر الميلاد.
والناس
كلهم كمن له زوج في عنفوان مخاضها، وما حملت زوجه إلا بعد أن بلغت سن الإياس، ولم
يبقَ إلا ساعة أو دقائق على الوضع، واشتد الطلق وفرائص الحامل كلها تنتفض تريد أن
تلقي الجنين وتتخلص من آلامها التي تكاد تزهق روحها، وزوجها يراقب الوضع، واضعًا
يده على قلبه، يكاد يتوقف عن النبض خوفًا على روح زوجه أن تفلت، وخشية على المولود
الذي طال انتظاره لرؤيته وتقدمت به السن ولم يرَ قبله ولا يأمل أن يرى شيئًا بعده،
إنه يؤمّل أن يكون المولود ذكرًا..
هكذا كل
مسلم في الأرض الآن ممن يحس بأدنى حرقة لهذا الدين أو يعتلج في أعماقه شيء من
الآلام على حال المسلمين، أو يراود قلبه أمل من آمال أبناء هذا الدين، إنهم
يتابعون الجرائد والتلفاز والمذياع دقيقة دقيقة، ويسألون عن أخبار المجاهدين
منتظرين رؤية المجتمع الإسلامي، والمسلمون معذورون.. إن قلوبهم مثخنة بالجراح ومازالت
كلومهم تنزف دمًا، والمصائب التي حلت بهم والدواهي التي ألمت أصبحت لا تطيقها
نفوسهم، وكأن لسان حالهم يردد مع أبي الطيب:
تمرست
بالآفات حتى تركتها
تقول: أمات الموت أم ذعر الذعر
وبعضهم
ينشد البيت الآخر:
لم يترك
الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئًا تتيمه عين ولا جيد
المسلمون
يبكون وحق لهم أن يبكوا، فالشواهد الشاخصة في أذهانهم الآن ثورة الجزائر وتحرير
سوريا، والجهاد في ليبيا وفي تونس والسودان.. آلت إلى ما آلت إليه من نتائج، يدفع
المسلمون الضرائب الفادحة من التضحيات ويقطف الثمار العلمانيون والملحدون
واللادينيون.
إن
المسلمين يتابعون التحركات العالمية، والأصابع الخفية التي تريد أن تعبث بأقدس
قضية يخوضها المسلمون في هذا العصر.. إنهم يرون إيران وقد كشرت عن أنيابها وشمرت
عن سواعدها بعد أن تفرغت من حرب العراق لتعكر صفو المجاهدين وتقاسمهم الغنائم، إن
وزراءها وسفراءها لا تتوقف حركاتهم المكوكية بين طهران وإسلام آباد، وأحيانًا
يلوحون بالوعيد والتهديد وأخرى بالإغراء والإطراء والتحميد.
وأما
الشيوعيون تركهم سادتهم تحت رحمة المجاهدين وقد عجزوا أن يوفروا لهم حماية،
ولطالما بحثوا عن مخرج لعملائهم.. وأين يولي الشيوعيون؟ وأنى لهم بالفرار؟ ولات
حين مناص، وأين يمكنهم اللجوء؟ إن سيوف المجاهدين لم ترتوِ منهم، والمجاهدون
ينتظرون الساعة التي يشفون بها غليلهم من مصاصي الدماء عملاء روسيا.
نفر إذا
غابت غمود سيوفهم
عنها فآجال العباد حضور
ولطالما
انهمرت بماء أحمر
في شفرتيه جماجم ونحور
وتجمع
المصادر السياسية الدولية الآن على أن المجاهدين قادمون إلى الحكم.
ربما
يعقب سائل: ولكن كيف يكون الوضع في أفغانستان بعد أن يحكم المجاهدون؟ وما هي
قدراتهم على استقرار الوضع؟ هذا ما يرقبه الجميع.
إنها
حقائق كبرى لا يستطيع أحد أن ينكرها لأنها قائمة مجسدة لا تخفى على كل ذي عينين،
ولكن الرهان حول إمكانية المجاهدين أن يقيموا دولة ويثبتوا أركانها، ونحن نعلم
الكيد العالمي والغيظ الدولي على الإسلام وأهله خاصة على المتطرفين أو الأصوليين!
لقد
حاولوا كثيرًا أن يحولوا بين المجاهدين وبين الوصول إلى سدة الحكم، ولكنهم باءوا
بكل محاولاتهم بالفشل الذريع والخزي الشنيع، ونحن لا ننكر أن هنالك مكائد تنتظر
المجاهدين وتنتظر الدولة الإسلامية القادمة، ونحن نعلم أن هنالك مشاكل داخلية
تنتظرهم والتي سيثيرها أعداء الله.
ولكنني
من هنا أطمئن المسلمين في كل أنحاء الأرض بما اختلج في صدري ووقر في نفسي:
1- إن
كانت النيات صادقة والنفوس مخلصة فسينصرهم الله عز وجل كما نصرهم في هذا الجهاد
المشرف، وهذا الدين دينه وهذه الشريعة شريعته وهذا الشعب الأصيل خلقه ﴿إِنَّ
اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 143).
2- إن
حكومة نجيب آيلة إلى السقوط، وأرجو الله ألّا يخيب ظني وظن جمهرة المجاهدين أن عيد
الأضحى لهذا العام في كابل.
3- إن
الوارث الوحيد للحكم القائم هو الإسلام والمسلمون فقط.
4- إن
الجهاد الأفغاني يتفرد من بين كل التجارب السابقة في هذا العصر في بلدان المسلمين،
إن قادة الجهاد الأفغاني الحقيقيين إما من أبناء الحركة الإسلامية أو من العلماء،
وكل واحد منهم يطالب بالحكم الإسلامي، سواء الموصوفون بالتطرف والأصولية أو
المنعوتون بالاعتدال والمرونة.
بينما
لم يكن قائد واحد في جبهة التحرير الجزائرية يرفع عقيرته ويعلي صوته بوجوب تحكيم
الإسلام، ولذا لم نرَ كلمة واحدة حتى في اسم دولة الجزائر تنبئ أنها تمتُّ إلى
عروبة أو إسلام: الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية.
إنني
أطمئن المسلمين وأبشرهم بإذن الله أن الجهاد الأفغاني لن تقف آثاره عند اجتثاث
الشيوعية من جذورها من أرض أفغانستان بل ستتعداها- إن شاء الله- وإن قلبي ليحدثني
أن أفغانستان ستكون بداية خط التحول التاريخي للعالم أجمع، إنه غيب لا يعلمه إلا
الواحد القهار، ولكنه غالب ظني وأرجو الله ألّا يخيب ظني، وأن يصدق فألي.
فعلينا
الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل أن يحفظ المجاهدين وينصرهم وعلينا ألّا نغادر
ثغورنا وألّا نتخلى عن واجبنا وهو دعم المجاهدين وألّا ندعهم على أبواب كابل
جائعين، وعلينا أن نتوقع الكثير من المشاكل لهم، وألّا نستغرب ما يحصل، ولكن:
إذا
اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوحول
﴿وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21)،
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128)، ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 193).
وختامًا
نردد كلمة الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله: «لابد للمجتمع الإسلامي من
ميلاد، ولابد للميلاد من مخاض، ولابد للمخاض من آلام».
وسبحانك
اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.