; لبنان الممزق | مجلة المجتمع

العنوان لبنان الممزق

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 21-سبتمبر-1982

مشاهدات 17

نشر في العدد 588

نشر في الصفحة 22

الثلاثاء 21-سبتمبر-1982

     بعد أن كادت الأزمة اللبنانية تأخذ طريقها إلى نهايتها، عادت ففرضت نفسها من جديد في واجهة الأحداث باغتيال رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخب، وما أعقبه من اجتياح إسرائيل للقسم الغربي من بيروت.

     صحيح أن مجيء بشير الجميل رئيسًا للجمهورية اللبنانية أزعج كثيرين، ‏وأن الاحتلال الإسرائيلي كان له نصيب وافر في دعم ترشيحه كرئيس للجمهورية، وأن التاريخ القصير للرجل -وما يحمله من مآسي وذكريات- لم يكن يبشر بنهاية مرضية للأزمة اللبنانية، لكن رغم كل هذا فقد اعتبر خصومه من اللبنانيين أن انتخابه رئيسًا للجمهورية أصبح أمرًا واقعًا، وأنه جاء بطريق دستوري صحيح، رغم ما أحاط بزمان انتخابه ومكانه من مؤثرات.

  •  من قتل بشير الجميل، ومن صاحب المصلحة في تلك؟

     إن خصوم الرجل كثيرون؛ لأنه كان -خلال سنوات الأزمة اللبنانية السبع- قائد عصابات (ميليشيا) مسلحة، أغرقت لبنان في الدم والدمار.

     يأتي في طليعتهم رئيس الجمهورية السابق سليمان فرنجية الذي قاتل معه الجميل في أول الأزمة، ثم انقلب عليه، فقد أغارت ميليشيا الكتائب على دار فرنجية في مصيف أهدن، وقتلت النائب طوني فرنجية (ابن سليمان) وزوجته وابنته وتسعة وعشرين من أنصاره، نشبت إثر ذلك معارك طاحنة بين الفريقين، وجرت عمليات نسف، ومحاولات اغتيال، أصيب في إحداها بيار الجميل (والد بشير)، وقتلت ابنة بشير في محاولة أخري.

      المستفيد الثاني هو كميل شمعون رئيس الجبهة اللبنانية، ورئيس جمهورية سابق، فقد خاضت ميليشيا حزبه «الوطنيون‏ الاحرار» معارك طاحنة مع قوات الكتائب بقيادة بشير الجميل، كان أبرزها معركة «صفرا» وهي منتجع على الساحل اللبناني، ومعركة عين الرمانة في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث جرت تصفية (غور الأحرار) بعد معارك عنيفة حملت ابن كميل شمعون وقائد ميلشياته إلى اللجوء للقسم الغربي من بيروت في حماية المقاومة الفلسطينية، ثم تعقبوا قائد ميليشيا الأحرار حتى قتلوه، ويوم رحيل ياسر عرفات عن بيروت نفذت الكتائب تفجير سيارة ملغومة بزوجه وأولاده، فاضطر عرفات لأن ينقلهم معه على الباخرة إلى اليونان.

     ولا داعي لعودة أبعد إلى مجازر التبعة والكرنتينا وتل الزعتر، وإلى الخطف والقتل على الهوية، ومجازر السبت الأسود المشهورة، فالرجل قد أفضى إلى ما قدم.

     لكن هذه الخصومات قديمة، وقد حاول هذا الصنف من الخصوم الانتقام مرات دون جدوى، ثم أن تنفيذ عملية تدمير البيت المركزي لحزب الكتائب بالأشرفية تمت بواسطة عناصر من داخل الحزب، وليس من خارجه؛ لأن العبوة التي قدرت قوتها بزنة مائتين أو ثلاثمائة كيلو غرام ت.أن.ت. وضعت داخل مبنى الحزب أو على سطحه، وهذا أمر لا يستطيعه إلا من ضمن لنفسه اختراق الحزب من أجل تنفيذ الضربة في الوقت المناسب، فمن هو المستفيد الأكبر من مقتل يشير الجميل؟

  •  لقد كانت إسرائيل دون منازع:

      وأسباب انتقامها منه واضحة، واستغلالها لمصرعه كان أوضح، لقد راهنت إسرائيل على أن يكون بشير الجميل رجلها في لبنان بالشكل المكشوف المفضوح الذي يقتنع به أمثال بيفن وشارون، لكنه بدأ يناور ويحاول التخلص من التزاماته بعد أن فاز برئاسة الجمهورية، لقد أذاعت مصادر إسرائيلية أن بشير الجميل التقى مع مناحيم بيغن في الأرض المحتلة، فنفى مكتب الجميل ذلك، فاضطر راديو إسرائيل لأن يؤكد الخبر مع ذكر تفاصيل اللقاء، وأسماء من حضروه، ثم أن بشير الجميل أخذ يركز على انسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان، ولم يتجاوب مع ما طلبته إسرائيل من ضرورة إبرام معاهدة سلام مع لبنان، بل كان يعلق ذلك على أن الحكومة اللبنانية الجديدة هي التي ستقرر‎ ذلك.

  • استغلال إسرائيل البشع:

     أما استغلال إسرائيل للحادث، وإفادتها منه فأمر أكثر وضوحًا، لقد زحفت قواتها على بيروت الغربية برًا وبحرًا بعد ساعات قليلة من مصرع الجميل، بعض هذه القوات أنزل بحرًا بواسطة قوات مطاطية على ساحل بيروت، وإنجاز كهذا لا يمكن أن يتم خلال هذه الساعات القليلة، ولا بد أنه جاء نتيجة ‏ترتيب مسبق.

     ثم أن التوقيت جاء مناسبًا تمامًا لغزو بيروت، لقد جاء ذلك بعد يوم واحد من رحيل القوة الفرنسية التي كانت ستعيق الغزو، وبعد أن أنجزت قوات الأمن اللبنانية تمركزها في المواقع التي جلت عنها قوات الأحزاب اللبنانية الوطنية، وبعد أن تم جزف كل السواتر الرملية، وإزالة المتاريس والاستحكامات من الشوارع عندها فقط يجري اغتيال الجميل لتزحف إسرائيل على بيروت الغربية من أجل ضبط الأمن والنظام فيها.

‏     وبعد ذلك أكملت إسرائيل الخطة، فقد اجتاحت بيروت من ثلاثة محاور بدباباتها ودروعها، ورغم عدم التكافؤ فقد واجهت مقاومة فعالة بالأسلحة الصغيرة والقذائف المضادة للدروع، كانت مقاومة رمزية من شارع إلى شارع حتى لا تكون بيروت قد سقطت أخيرًا دون مقاومة.

  • الرئيس المرشح بعد بشير نسخة مكررة لأي مرشح كتائبي:

     وفتح ملف رئاسة الجمهورية من جديد، فولاية الرئيس سركيس تنتهي في ‎٢٣‏ أيلول (سبتمبر) الجاري، وينبغي أن يعقد مجلس النواب جلسة يختار فيها رئيسًا جديدًا للبلاد قبل هذا التاريخ، وكما هي العادة في لبنان فقد رشح حزب الكتائب النائب أمين الجميل لمنصب الرئاسة بعد مصرع أخيه، ومن المتوقع ألا يصل هذا العدد إلى أيدي القراء إلا بعد أن تكون الجلسة قد انعقدت، وتم انتخاب الرئيسي الجديد، إلا إذا حدثت مفاجئات كالتي ذهبت بأخيه بشير على الرغم من تقدم عناصر أخرى بترشيحات لانتخاب الرئاسة.

‏     المعروف عن أمين الجميل أنه لم يتورط في موقف يسيء إلى سمعته السياسية؛ فهو ميال إلى الحوار مع الجميع، وقد كانت له لقاءات خارجة مع زعماء المقاومة الفلسطينية في أسوأ الظروف السياسية، كذلك هو معروف بعزوفه عن العنف وتعاطي الأعمال العسكرية الإرهابية التي انتشرت في لبنان منذ بداية أزمته، لكن هل يغير هذا من واقع حاله شيئًا؟! فهو ‏ماروني كتائبي، وسيكون محكومًا بمنطلقات الحزب والطائفية في تحركه السياسي والاجتماعي، ولبنان الآن واقع تحت الهيمنة الإسرائيلية، وسبق لحزب الكتائب أن تلقى دعمًا عسكريًا من إسرائيل خلال سنوات الأزمة اللبنانية، وإسرائيل ستصر على أن تقبض ثمن ما قدمته مضاعفًا، بل سوف تحرص على أن تبتز أي رئيس لجمهورية لبنان من أجل فرض شروطها عليه، وأمين الجميل يدرك قبل غيره أن أخاه ذهب ضحية محاولته التملص من التزاماته تجاه إسرائيل، لذلك فإنه سيكون نسخة مكررة لأي مرشح كتائبي لرئاسة الجمهورية مهما قيل فيه من اعتدال أو تعقل، ‏وتبقى القضية الأساسية التي تعنينا بعد كل هذا: المسلمون في لبنان، مستقبلهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وما هو مطلوب من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، معروف أن المناطق الوطنية الإسلامية في لبنان جرى تدميرها على دفعات متلاحقة، ضربتها الحرب اللبنانية بمراحلها الأولى عامي (‎1975و1976‏)، وتلقت الموجه الثانية من الدمار في بيروت والجنوب على يد الطيران الإسرائيلي الذي ركز على المؤسسات الإسلامية من مساجد ومؤسسات تعليمية ومستشفيات ودور أيتام،‏ إضافة إلى المؤسسات الصناعية واستئصال مزارع البرتقال في الجنوب بحجة حماية القوات الغازية من التسلل خلالها.

سقطت بيروت شهيدة القضية الفلسطينية:

‏     وجاءت الموجة الثالثة بعد رحيل المقاومة الفلسطينية باجتياح بيروت، وضرب البنية العسكرية الإسلامية المتبقية فيها، إضافة إلى تدمير ما أخطأته الموجات السابقة، معنى هذا أن المسلمين في لبنان يعانون الآن حالة انكشاف فظيعة أمام التيارات الجاثمة فوق زكام مناطقهم، سواء كانت مارونية، أم يهودية.

     لقد دخلت سوريا إلى لبنان عام ‎(١٩٧٦‏) بحجة إنقاذ لبنان، وإعادة وحدته، والدفاع عن المقاومة الفلسطينية، فتركته بعد تمزيق الكيان الإسلامي، وإضعاف البنية السياسية والاقتصادية الإسلامية دون أن تخوض معركة جادة لحماية لبنان أو المقاومة الفلسطينية، أما المقاومة الفلسطينية فقد رحلت عن لبنان تاركة المسلمين فيه لبنانيين وفلسطينيين؛ ليواجهوا قدرهم القاتم أمام المارونية الحاقدة واليهودية الزاحفة، وما كان للمسلمين في لبنان (لبنانيين وفلسطينيين) أن يدفعوا هذاالثمن الباهظ لولا تلاحمهم مع الثورة الفلسطينية، ودفاعهم عنها بعد أن ضاقت بها الأرض، وتخلى عنها الجميع، لقد سقطت بيروت شهيدة القضية الفلسطينية، والعرب والمسلمون شهود، دون أن يحركوا ساكنًا من أجل إنقاذها. 

يحلو للبعض بعد كل الذي حصل أن يعمد إلى تبسيط الأمور، وحصر محنة المسلمين في لبنان بأن ما نزل بهم كان عقوبة من الله؛ لأنهم انحرفوا، وفسقوا، وضلوا سواء السبيل، هذا التفسير مقبول لأن الانحراف حصل، والفساد استعلن، وذلك يستدعي عقوبة الله وانتقامه، ولكن كيف هي حال بقية العرب المتفرجين؟ هل يجوز ‎لهم أن يروا إخوانهم المسلمين في لبنان تستباح أرضهم، وتنتهك حرماتهم، وتدك بيوتهم، ويشرد أطفالهم ونساؤهم دون أن يبدي أحد حراكًا من أجل إنقاذهم؟ إن ذلك منكر كبير، هو أكبر عند الله من الانحراف السلوكي الذي ‏إن كان في لبنان ظاهرًا فهو في بقية الأقطار مغلف بغلاف واهية من الخداع والنفاق، فلندرك أبعاد المؤامرة، ولنعطيها الأهمية اللائقة، وإلا فإن الزحف اليهودي لن يقف عند حد، وسيغرق المنطقة كلها، ولو بدت حتى الآن بعيدة عن متناول يده.

‏     يقولون: إن الاسلام في لبنان هو في غالبيته انتماء سياسي وجغرافي أكثر منه التزام عقيدي وسلوكي، قد يكون هذا صحيحًا كذلك، لكن المسلمين المنتمين إلى الإسلام سياسيًا وجغرافيًا هم الواقفون الآن في مواجهة الغزو الشرس بجناحيه الصليبي واليهودي، وانتماؤهم قابل لأن يتطور إلى التزام عقيدي لو وجد اليد الحانية الداعية، فضلًا عن الوجود الإسلامي العقيدي الملتزم القائم في لبنان.

     مطلوب للمسلمين في لبنان إذن شيء كثير من المسلمين والعرب على وجه الخصوص، إن كل مؤسسات السلمين في لبنان تقريبًا قد أصابها الدمار، يأتي في مقدمة ذلك المؤسسات التعليمية في ذلك المدارس أو جامعة بيروت العربية، ومن المعروف أن التعليم الخاص في لبنان يغطي خمسة وستين بالمائة من قطاع التعليم لانعدام الثقة بالتعليم الرسمي، ومعنى هذا أن المسلمين سيكونون على أبواب المؤسسات التبشيرية إذا لم يبذل عون جاد من أجل إعادة بناء مؤسساتهم، وقريب من ذلك المستشفيات ودور العجزة والأيتام، فهل يتقدم العرب لإنقاذ المسلمين في لبنان: فلسطينيين ولبنانيين؟

‏     أما الكيان السياسي والعسكري للمسلمين فإنه يعاني انهيارًا أكبر، لقد كانت الطائفية السياسية واحتكار المناصب الرئيسية في الدولة يتركان القيادات الإسلامية -على ضعفها الذاتي- تتصارع حول حطام لا قيمة له، وجاءت الأحداث الأخيرة فخسر المسلمون الرهان سواء على الوجود السوري أو الفلسطيني.

     وسيكون لبنان على أية حال واقعًا تحت النفوذ اليهودي بأدوات مارونية لفترة طويلة، وإذا عدنا إلى الوضع العسكري للمسلمين فإن اجتياح الجنوب وبيروت، وحملات التمشيط التي تمارسها إسرائيل قد ذهبت بكل القدرة العسكرية الإسلامية تقريباً.

     بقي الوضع الاقتصادي، وهو يشكل أساسًا هامًا لأي صمود سياسي أو اجتماعي، لقد دمرت الحرب البنية الاقتصادية للمسلمين في لبنان، فالمعروف أن الاقتصاد اللبناني قائم على الخدمات، ويشكل قطاع الخدمات (مصارف، سياحة، استيراد وتصدير، فنادق)  ما يزيد على سبعين بالمائة من الدخل القومي، وما تبقى فهو لزراعة الفواكه والخضروات، ولصناعة استهلاكية وغذائية، ولقد انتقلت المؤسسات المصرفية ومكاتب الشركات المتبقية في لبنان إلى القسم الشرفي من بيروت، سواء بفعل تدمير بيروت الغربية، أو بسبب الفوضى التي كانت تسود القسم الغربي، وهنا يستطيع النفوذ الاقتصادي العربي في لبنان أن يفعل الشيء الكثير دون أن يخسر شيئًا بتركيزه على القسم الغربي من بيروت، وعدم السماح بانتقال مكاتب تمثيله إلى الجزء الشرقي، والموارنة في لبنان لهم مصالح كبيرة في المنطقة العربية، ومصالحهم هذه تستطيع التحكم بمسارهم السياسي في لبنان إلى حد بعيد، وبإمكان العرب أن يفعلوا الشيء الكثير للمسلمين في لبنان من خلال الضغط على المصالح المارونية في البلاد العربية، إن لم يكن بالإمكان نقل الثقل اللبناني في العالم العربي إلى أيدي المسلمين.

     إنها مجرد محاولات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتبقى عملية الإنقاذ مرهونة بتوجه المسلمين في لبنان إلى أعلى من جديد، وتوحد كلمتهم، واعتمادهم على الله، ثم أنفسهم؛ ففي ذلك الخلاص، والعزة، والقوة، والكرامة.

تنويه: 

  • بمناسبة عيد الأضحى المبارك نتقدم إلى قرائنا الكرام بالتهنئة القلبية، مع الدعاء إلى الله -تعالى- بأن يعيده على الأمة الإسلامية، وقد هيأ لها من يقودها إلى تحقيق غاياتها النبيلة في تحكيم كتاب الله في الأرض؛ لتنعم بالحرية، والعدالة، والكرامة.

     ولهذه المناسبة الكريمة فإن (المجتمع) ستحتجب عن الصدور يوم الثلاثاء القادم، على أن تعاوده في الأسبوع التالي -إن شاء الله-، وكل عام وأنتم بخير. 

 

الرابط المختصر :