الثلاثاء 12-يناير-1971
· الحج ليس رحلة سياحية أو دراسة آثارية
· العمل للعقيدة لا يحتاج لمؤتمرات
· في بيت أحد المسؤولين عن القافلة رأيت رجلًا يُحاول الشيب أن يجد له في لحيته السمراء مكانًا، حادّ النظرات لكنَّه دائم خفض البصر، لسانه ذاكر إلا أنه يكاد ألا يكون مسموعًا.
شدَّني إليه سؤال وُجِّه إليه من أحد الحاضرين:
- كم مرة حججت؟ فأجاب عشر مرات.
فوجدتني أنتقل إلى جواره لأجري الحديث التالي:
ما اسم الحج؟
أجاب: عبد الله.
- قلت له: وقد عرف مهنتي، ما اسم أبيك قال: عبد الله. قلت: ما اسم جدك؟ قال: عبد الله. قلت: من أي القبائل أنت؟ قال العبادلة.
- أين تقطن؟ قال: في أرض الله.
- ولما أعياني التعرف إليه، قلت له: لماذا تصر على هذا الإخفاء؟
قال: خير ما يشعر الإنسان به ويُسمى «عبد الله»، وأخشى أن يطير قلمك إلى جريدتك فتعلن عني فيذهب ثوابي ويلاحقني زملاؤك الصحفيون.
- قلت له: كم من العمر بلغت؟
قال: خمسًا وستين.
- لكنك ما زلت شابًّا، وصحتك موفورة بالعافية بحمد لله؛ فهل لذلك من سر؟
- الحمد لله، لم أذهب إلى طبيب قط، ولم أقعد عن التجارة مع الناس والتجارة مع الله، وفي الأولى ثلاثة أرباع الرزق، وفي الثانية البركة في المال والبدن.
- قلت له: ألم تشعر في تكرار حجك نوعًا من الملل وسأمًا من المناظر المكرورة؟
رد عليّ في عنف لم يبلغ درجة الانفعال:
كيف ذلك؟ وأنا وافد على الله ورسله وصديقيه وشهدائه في أرض النبوة والمقدسات، إن كل عام يوصلني إلى الآخر بدرجة من الشوق تتباين في شدة اللهفة وانتظار الأشهر الحرم بفارغ الصبر.
قلت له: إذن ما رأيك فيمن يرون الحج نوعًا من الإنفاق في غير فائدة ما دمت قد أديت الفريضة مرة في العمر، وأولى بالمال والجهد أن يُنفقا في سبيل آخر؟
قال: اسمع يا بني، هم يستحلون الإنفاق والجهد في المصايف، وينكرون علينا البذل في البقعة المباركة، فإذا كانوا يتزودون بالمتع المشبوهة؛ فنحن نتزوَّد بخير زاد، أما قرأت في سياق الحديث عن الحج قوله تعالى ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 197)
ثم ألم تسمع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول الله عز وجل: «إن الله تعالى يقول: إنَّ عبدًا أصححت له جسمه، ووسَّعت عليه في معيشتهِ، تمضي عليه خمسة أعوام لا يَفِد إليَّ لمحروم».
ثم استطرد قائلًا: إن الذين يذهبون إلى الحج كرحلة سياحية أو بعثة لدراسة الآثار قد يبعدون بأنفسهم عن المعاني الأساسية، وهي في جملتها «ذكر الله» في كل موقف من بداية الرحيل إلى نهاية الأوبة، وذكر الله هيهات أن يصيبه ما يصيب الغافلين.
- قلت له: ما شعورك عند كل حجة؟
قال: جسد تبدَّل وقلب تنظَّف.
- زدني إيضاحًا، قال: بدن تقوَّى برياضة السفر وأداء المناسك، واغتسال بماء زمزم يُذهِب الضعف، ويأتي على المرض، أما سمعت الحديث «ماء زمزم لما شرب له»، فما بالك بمن يشرب ويغتسل، وتطهير وتنظيف للقلب من كل ما ران عليه من صدأ الغفلة وهنات المعصية، إنه شعور إنسان محموم أخذ حمامًا باردا.
قلت له: ما هو برنامجك لحج هذا العام؟
قال: دراسة لشهداء المسلمين في أحد، ولقاءات مع إخواننا حجاج باكستان.
قلت له: كيف اخترت هذا البرنامج؟
قال: اعتزاز بمجموعة «عبد الله بن جبير» التي صمدت في موطن اليأس، وتعالت على عرض الدنيا، والتزمت تعاليم القائد عليه الصلاة والسلام، وقدمت أرواحها فداء لدين الله وتنفيذًا لأوامر رسوله، وما أحرى المسلمين اليوم بفئة مثلها.
أما عن لقائي بإذن الله بإخواننا حجاج باكستان؛ لأنه قد هزني أن تقوم باكستان منذ اثنين وعشرين عامًا باسم الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة، هللنا لها، وساعدنا في إنشائها أملًا أن تقوم للمسلمين دولة في العصر الحديث، تستعيد مجدنا التليد، ثم بعد هذه السنين الطوال لا تستقلها في عمر الأمم، تسقط التجمعات الإسلامية في الانتخابات، وينجح دعاة الفرقة والتقسيم وعملاء العلمانية الحديثة.
قلت له: هل يمكن أن أفهم من ذلك أنك ستعقد لهم مؤتمرًا هناك؟
قال: لا يا أخي وما لمثلي على عقد مؤتمر، وما كان العمل للعقيدة يحتاج إلى مؤتمرات، وحسبي لقاءات مع بعض الرجال الوافدين إلى بيت الله، نتدارس الأسباب ونتناصح العلاج.
· أنهيت الحديث مع الحاج عبد الله الذي رفض أن يُصوّر، كما رفض أن يُعرف، داعيًا الله له التوفيق في أداء رسالته.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل