; ليس بالنبوت تحيا الشعوب! | مجلة المجتمع

العنوان ليس بالنبوت تحيا الشعوب!

الكاتب أ.د. حلمي محمد القاعود

تاريخ النشر الثلاثاء 28-نوفمبر-1995

مشاهدات 17

نشر في العدد 1177

نشر في الصفحة 44

الثلاثاء 28-نوفمبر-1995

ذات يوم أراد كاتب مرتزق أن ينال مني فاتهمني بأنني من «الإخوان المسلمين» قلت له عندما رددت عليه: إن هذا شرف لا أدعيه، وتهمة لا أدفعها، وهي عبارة «سعد زغلول» المشهورة، تمنيت أن أكون من الإخوان حقًّا، وأن أسلك سلوكهم، وأبذل مثلما يبذلون في سبيل الله والأمة والوطن، ولكن طبيعتي الانعزالية، وظروفي الخاصة تمنعني من المشاركات الاجتماعية والسياسية والفكرية، اللهم إلا بقدر ما يسمح به الوقت ببعض الكتابات المتفرقة المتباعدة التي لا قيمة لها فيما أتصور.

ما يحدث لـ«الإخوان المسلمين» يمثل علامة فارقة على مستقبل الوطن ومصيره؛ لأنه نذير شر مستطير، فالقوم لم يحملوا السلاح، ولم يدعوا إلى حمله، أدانوا الإرهاب واستنكروا المحاولة الخائبة لاغتيال رئيس الدولة، ونشرت الصحف الحكومية بيانهم الذي يرفض العنف وإسالة الدماء.. ومع ذلك اعتقلتهم السلطة، وقدمتهم للمحاكمة العسكرية دون ذنب اقترفوه أو إثم اجترحوه.

التهمة الموجهة إليهم هي قيادة تنظيم غير مشروع، والسلطة قبل غيرها تعلم أن الحكومات المتعاقبة منذ عام ۱۹۲۸م تعترف بوجود الإخوان وشعبيتهم الغلابة سواء بالعضوية أو بالتعاطف أو بالاحترام والتقدير حتى من ألد خصومهم في الساحة السياسية، ومع أن الحكومة اغتالت «حسن البنا» قبل الثورة، وأعدمت الكثيرين وعذبتهم وغيبتهم في السجون بعدها، فإنها تقر وتعترف أنهم موجودون، وقائمون في بنيان المجتمع يؤثرون فيه بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة، والسلوك الرفيع، والعمل المثمر، والإنتاج المغدق.. لا تجد فيهم كذابًا، أو لصًّا، أو مرتشيًا، أو قوادًا، أو سكيرًا، أو مدخنًا، أو مخلفًا للوعد، أو خائنًا للعهد.. من لديه استعداد لذلك يسقط في الطريق ولا يواصل مسيرته معهم.. طبيعتهم أنهم أناس يتطهرون.. من طلب منهم الدنيا تركوه، من سعى إلى الزعامة قاطعوه.. وكان مرشدهم «عمر التلمساني» -رحمه الله- طرازًا فريدًا من الرجال في عفة اللسان وقوة القلب، وصفاء النفس، وهيبة الشخصية، وخفض الجناح.. لا تملك مهما اختلفت معه في الرأي، إلا أن تحبه وتحترمه وتقدره، وكان الرئيس الراحل «أنور السادات» -رحمه الله- يعلم مكانته جيدًا، ودعاه إلى لقائه الشهير في الإسماعيلية، حيث كان بينهما حوار ذائع شكاه فيه إلى الله بشجاعة راقية، غير هياب ولا وجل، وحين أمره الرئيس أن يسحب شكواه رفض في إصرار رائع قائلًا له: إنه يشكوه إلى عادل! وكان اللقاء والحوار دليلين على أن أكبر مسئول في الدولة يعلم أن الإخوان قوة شعبية قائمة ومشروعة، وإذا كانت الثورة قد حلت جمعيتهم فالأمر مطروح أمام القضاء لما يزل..

إن تيار استئصال الإسلام في السلطة يسعى إلى كسب المزيد من الأعداء والساخطين الحانقين على السلطة؛ لأنه كل يوم تقريبًا يشعل النار بينها وبين الشعب، ويسعى جاهدًا إلى استخدام «النبوت» لإرهاب الناس وإثبات قوة السلطة، وما هكذا تساس الشعوب ولا تعامل؛ لأن الشعوب هي سند السلطة، وهي قوتها الحقيقية، ولن يتم ذلك إلا بالتفاهم الطبيعي بين الطرفين، والتفاهم الطبيعي لا يتحقق بالنبوت، بل بالاختيار الحر والرغبة الصادقة والإرادة الطيبة، أما الضرب في سويداء القلب وتثقيب الأجساد وإخراج الناس «بلابيص» من بيوتها في سياسة عدوانية إرهابية تستفز عباد الله، وتورث الحقد، وتحض على الانتقام، وتدخل البشر في دوامة الثارات!

إن أي عاقل لا بد أن يؤمن بضرورة تجميع الطاقات، وبناء المجتمع بكل الخبرات ومواجهة الأعداء يدًا واحدة، ولكن تيار استئصال الإسلام في السلطة -وخاصة على مدى الأربعين عامًا الماضية- لا يعنيه ذلك، فتبديد الطاقات، وإهدار الخبرات، واشتعال الفرقة والشقاق، مسائل لا أهمية لها في عرفه ومفهومه، الأهم عنده هو سيادة «النبوت» والذراع القوية للحكومة المركزية!

لو أن مؤرخًا أراد إحصاء المحاكمات العسكرية والاستثنائية والثورية التي نصبت على مدى الأربعين عامًا لهاله العدد الكبير من القضايا التي حوكمت بمقتضاها تنظيمات سياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، كانت المحاكمات في أول الأمر تأتي على فترات متباعدة نسبيًّا، ومتوازنة إلى حد ما «يمين ويسار»، أما الآن فقليلة هي الأيام التي لا تعلن فيها السلطة عن ضبط تنظيم، والتنظيمات كلها أو معظمها مدعومة من الخارج، وأصحابها ينتمون إلى الإسلام أو جماعاته التي لا نسمع عنها إلا في بيان الضبط.

لماذا لا يعلن العدو اليهودي في فلسطين عن مثل هذه التنظيمات؟ لماذا لا تقام لديه مثل تلك المحاكمات؟ هناك أحزاب تعارض الحكومة وتتهم رئيسها علنًا وفي مظاهرات حاشدة بالخيانة والضعف والخيبة.. ومع ذلك لا تعلن الحكومة عن ضبط تنظيمات ولا إقامة محاكمات.

قبل سنوات رأيت في التلفزيون اليهودي يهوديًّا يجذب الإرهابي «إسحاق شامير» من كتفه بعنف يريد ضربه عندما كان رئيسًا للوزراء وهما على حافة مقبرة كان يدفن فيها قتيل يهودي، تصورت أن القيامة ستقوم، وأن الطوارئ ستعلن، وأن الكنيست سيجتمع ويطالب برأس هذا المعتدي الذي لا بد وأنه يعمل لحساب دولة أجنبية.. ولكن شيئًا من ذلك كله لم يحدث.. تقدم شرطي يهودي وفرق بين رئيس الوزراء الإرهابي والشخص العادي الذي حاول الاعتداء عليه.. وانتهت القصة!

ترى لو حدثت مثل هذه القصة في بلادنا؟ كان الأمر سيختلف كثيرًا، وكنا سنعيش أياماً وليالي عبر الصحف وأجهزة الدعاية نسمع قصة هذا الإرهابي الذي يعمل لحساب دولة أجنبية، وكنا أيضًا سنسمع عن التنظيم الذي يحركه والأموال التي يتلقاها، والفكر الذي يعتنقه، وتخطيطه، للوصول إلى قلب نظام الحكم... إلخ، بالطبع، لا ندعو الناس إلى ضرب الحكام، ولكن نقدم صورة للتعامل هناك.

الفارق بيننا وبين أعدائنا أن القوم هناك تعودوا أن يضعوا الأمور في نصابها وحجمها الحقيقي، فلا يهولون مثلنا ولا يهونون، وهم أيضًا يستثمرون -بذكاء- المعارضة في التعامل معنا أو مع غيرنا، وكثيرا ما يقولون في مفاوضاتهم: إن المعارضة لا توافق على كذا، والمعارضة ترفض كذا، حتى يحصلوا من الطرف الآخر على أكبر كسب ممكن.. وكان الإرهابي الهالك «مناحم بيجن» يقول للرئيس السادات في مفاوضات الإذعان كي ينسحب من سيناء: «سيادة الرئيس، إن لدي خمسة جنرالات كل منهم يدعي النصر في الحرب- يقصد عام ١٩٦٧م» وذلك كي يقبل السادات بما يعطيه له بيجين!

إن «الإخوان المسلمين» يمثلون حركة معتدلة عاقلة منذ بدأت حتى اليوم، وقد أسهمت في إحياء الأمة، وقدمت كثيرًا من الشهداء الأبرار في حرب فلسطين والقنال وأماكن أخرى، وأفرادها مع كل النكبات التي تعرضوا لها على يد الحكومات الظالمة ما زالوا يحملون الأمل، ويمثلون عنصر المقاومة الصلب في وجه الانهيار والتردي الذين أصيبت بهما الأمة، ويخرجون من المحن أشد إيمانًا وأقوى إرادة؛ لأن توجههم الأساسي نحو الخالق الأعظم وحده.. ولو أنهم أرادوا السلطة حقًّا كما يتهمهم خصومهم، لكانوا قد وصلوا منذ زمان بعيد.. لأن الوصول إلى السلطة في بلادنا سهل وميسور، يكفي أن تهتف: بالروح... بالدم.. نفديك يا.. أو تصفق، أو تمدح، أو تكتب مقالات النفاق التي تنقل صاحبها من القاع إلى القمة.. ولكنهم لا يريدون السلطة، إنهم يريدون بناء المجتمع وفق منهج الله.. وليس وفقًا لمناهج أهل الغرب أو الشرق..

إن المقدمين إلى المحاكمة من الشباب المؤمن، الذي خدم بلاده في شتى الميادين، ولو أرادوا الدنيا لكانوا مثل أقرانهم الذي اغتنوا بالحرام ونهبوا أموال الدولة واستولوا على ما ليس لهم -وكله بالقانون- و«هبروا» -معذرة للفظ الشائع- ما شاءوا من ثروات، و تسنموا ما أرادوا من سلطات.. ولكن الإيمان شدهم إلى الطريق الصعب.. طريق العطاء والمعاناة والصبر على المكاره.

إنني أناشد العقلاء في السلطة أن يفكروا فيما يجري بعين الإنصاف، وأن ينظروا جيدًا إلى مستقبل الوطن الذي فشا فيه الفساد وساده الإحباط وتحركت على أرضه -ربما لأول مرة في التاريخ- عناصر الشر والعنف والبهتان، مما أخرجه عن طبيعته التي عرف بها على مدى القرون!

إن تهدئه النفوس، وإشاعة الأمل، وإرساء المصالحة الوطنية، ينبغي أن تكون الهدف الذي يتحرك من أجله الجميع لتحقيق غايات البناء والحرية والعدل.

لا بد أن نوفر على شعبنا المزيد من الأحزان والآلام، وننتقل إلى مرحلة تضميد الجراح، وجمع الصفوف، وإرساء دعائم الاستقرار.. وكل هذا لا يتأتى إلا بالتسليم بحرية الشعب، وحقه في المشاركة أيًّا كانت الاجتهادات والتصورات.. ولنثق أن النصائح الأجنبية باستئصال الإسلام ليست في صالح أحد؛ لأن الإسلام باق بإذن الله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: ٩).

وبعد:

فتبقى كلمة تحية لهيئة الدفاع عن المظلومين من «الإخوان المسلمين» هذه الهيئة التي بلغت حجمًا كبيرًا لم يكن متوقعًا، وضمت كافة التوجهات والتيارات، حتى الكنيسة كان لها ممثلها في الهيئة الموقرة، مما يعني إجماعًا شعبيًّا على رفض ما يجري للإخوان، أيضًا فإن حضور محامين من ممثلي منظمة حقوق الإنسان في لندن، يعني أن المسألة لها صداها العالمي الذي لا بد أن ينبه أنصار «النبوت» إلى أن الزمان يتغير، ولا بد أن يتغيروا معه، ولن تجديهم نفعًا أصوات المأجورين والمنافقين التي تؤيدهم في بعض الصحف والمجلات.

ويا أيها المغيبون وراء الأسوار.. أعانكم الله، وقلوبنا معكم، وحسبنا وحسبكم الحاكم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة.

«*» أستاذ النقد الأدبي بجامعة طنطا.

الرابط المختصر :