العنوان ليلة القدر
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 24-نوفمبر-1970
مشاهدات 51
نشر في العدد 37
نشر في الصفحة 22
الثلاثاء 24-نوفمبر-1970
ليلة القدر
في حياة الأمم أحداث خالدات تحمل لها ذكريات عطرة، تبهج القلوب، وتنزل من النفوس بردًا وسلامًا نزول الماء إلى جوف الظمآن، وقد تكون هذه الأحداث انتصارًا في معركة، أو خروجًا من محنة، أو ذكری حاکم عادل أو قائد ملهم، وعندما تحتفل الأمم بأعيادها التي تذكرها بهذه الأحداث تعبر عن الفرحة النفسية بحركات همسية وأفعال مادية، فتنصب الأقواس، وتجملها بالألوان، وتُدق المزامير والطبول، وتُقيم المجامع، وتُرفع الأعلام، ثم يكون جزاؤها على احتفالها بأعيادها لا يتجاوز فرحتها بها.
ولقد كان نزول القرآن حدثًا ضخمًا في حياة الأمة المسلمة، فهو نورها الهادي، وحياتها الصافية الرقراقة، وسبيلها إلى العزة والكرامة، ورافعها إلى قمم المجد والخلود فيه تاريخ حاضرها ومستقبلها، وفيه تاريخ الأمم من قبلها بما فيه من عبر وعظات، فيه حياة القلوب وبلسم الأدواء التي أعيا علاجها الأطباء، فيه تحديد العلاقات أفرادها ببعضهم وعلاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم، لذلك كان نزول القرآن حدثًا ضخمًا ترتعش لذكراه القلوب المؤمنة فرحًا، ولذلك كان الشهر الذي أُنزل فيه القرآن خير الشهور، والليلة التي أنزل فيها القرآن خير الليالي ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾، ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ ، ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡر وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ﴾، غير أن الأمة لا ترفع لهذه المناسبة الضخمة أقواسًا، ولا تنصب أعلامًا، ولكنها تتسابق فيه إلى الفضائل والمكارم، فتجتمع فيه لا لتُضرب الطبول وتنفخ في الأبواق وترقص على وقع الأنغام، ولكن لِتُقيم الصلاة، وتقرأ القرآن، وتتدارسه آناء الليل وأطراف النهار يرجع في هذا الشهر الضال، ويؤوب الذنب، فيكثر فيه ذكر الله والدعاء والابتهال، وكفى بقدر ليلة القدر أنها ﴿خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ﴾ (سورة القدر: 3)، وأن القائم فيها: «إيمانًا واحتسابًا يغفر له ما تقدم من ذنبه»، وأن ملائكة السماء ومعهم جبريل يهبطون إلى الأرض، وناهيك بنزولهم بركة وخيرًا وفيها «يفرق كل أمر حكيم».
أي ليلة ليلة القدر
وقد عرفها الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ثم حدث ما تسبب في رفعها، عن عبادة بن الصامت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «ليخبرنا بليلة القدر فتلاحم رجلان من المسلمين، فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحم فلان وفلان فرُفٌعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخاصة»، وقد كان الرسول -عليه السلام- يعتكف العشر الأوسط من رمضان لغلبة ظنه أنها فيه، ثم اعتكف العشر منه وأمر بالتماسها فيه وفي الوتر منه، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجاور في العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين يُمسي في عشرين ليلة تمضي ويستفيد إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع منها، فخطب الناس، فأمرهم ما شاء الله، ثم قال: كنت أجاور هذه العشر ثم قد بدا لي أن أجاور العشر هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليلبث في معتكفه وقد أديت هذه الليلة ثم أنسيتها، فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كل وتر وقد رأيتني أسجد في ماء وطين فاستهلت السماء في تلك الليلة فأمطرت، فوكف المسجد في مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ليلة إحدى وعشرين فبصرت عيني: نظرت إليه أنصرف في صلاة الصبح ووجهه ممتلئ طينًا وماء» (رواه البخاري)
وقد أرى كثير من الصحابة ليلة القدر وأنّها في العشر الأخيرة، ولذلك قال لهم الرسول - عليه السلام -: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر»، «وكان الرسول -عليه السلام- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله».وقد سألت عائشة -رضي الله عنها- الرسول -عليه السلام- ماذا يقال إن علمت ليلة القدر، فقال لها قولي: «اللهم أنك عفو تحب العفو فأعف عني».
حول تطبيق الشريعة الإسلامية:
كلما عرض موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية، تعالت أصوات تحذر من «الهول الكبير» الذي سيصيب البشر من «الجلادين» و«والرجامين»، وكأن الشريعة الإسلامية نُزلت لتعذيب الإنسان في الدنيا والآخرة.. والواقع أن هذا خطأ كبير، وعدوان على الحقائق.. فليست الشريعة مجموعة من العقوبات قصدًا منها التنكيل بالناس.. بل هي على العكس تمامًا من ذلك. الشريعة تستهدف أمن الناس وصيانة حقوقهم ودرء الخطر قبل وقوعه، وكما يقول الفقهاء:
«أنها موانع قبل الفعل زواجر بعده»، أي أن العقوبة تستهدف منع وقوع الجريمة حمايةً للمجتمع، فإذا وقعت فهي تقوم بزجر الآخرين.. فهي رحمة بالناس ورعاية لأمنهم.
ولعل البعض لا يعلمون أن الحدود لا تتجاوز سبعة حدود لها عقوبات ملزمة، القاضي لا يستطيع الحفاظ عنها، وما عداها فهي تعازير تخضع لتقدير القاضي واجتهاد الحاكم وتحكمها ظروف المجتمع.. والحدود السبعة إنما تستهدف أمن المجتمع، فالسرقة تهدد الملكية الفردية والشريعة تُحرمها، والزنا يُهدر كرامة الأسرة ويبدد الأنساب، والخمر إتلاف للعقل والصحة والنفس، والردة خلخلة للعقيدة وضياع لمهاينها.. وباختصار؛ إن المُشرع إنما وضع العقوبات على هذا المستوى من الشدة؛ لأن الجرائم خطيرة ومدمرة لكيان الأمة.. ونحن مع رفضنا القياس على التشريعات المعاصرة، إلا أننا نلاحظ أن كثيرًا من التشريعات الأوروبية أُخذت بالشدة في بعض الجرائم، أن إنجلترا وفرنسا كانتا إلى أوائل القرن التاسع عشر توقعان عقوبة الإعدام على ما يقرب من مئتي جريمة.. فقد يُقال أن هذا مثال قديم وأن عالم اليوم يرفض أسلوب الشدة مع المجرمين، باعتبار أن الجريمة مرض اجتماعي يحتاج المبتلى به إلى علاج.. ولكن ما قولهم في عقوبات الإعدام التي تُوقع على المرتشين وتجار الحشيش، وعقوبات الإعدام بالجملة التي تُطارد خصوم الفكر والنظم الاجتماعية.. أي المرتدين عن النظم الاجتماعية التي تدين بها بعض الدول. ولعل المتتبع للتطبيق العملي للعقوبات في صدر الإسلام يستطيع أن يُقدر منصفًا مدى فعالية تطبيق الشريعة في إنجاح المجتمع.. مع التقدير الكبير في توقيع العقوبات، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- وقع عقوبة الزنا على ثلاث حالات.. وعقوبات السرقة وقعت على آحاد الناس في عهد صحابة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ومع هذا ظل المجتمع كله صحيحًا معافى..
• سبقت التربية والتوجيه الأحكام والتشريعات.. ونعني بهذا أن الإسلام اهتم بتربية المجتمع وتثقيفه وتحصينه من الآثام قبل أن يشهر في وجهه سلاح العقوبة.. فالبصلاة ننهي عن الفحشاء والمنكر، والصوم يهذب الغرائز، والزكاة والصدقة تدفعان الجوع والحاجة وتطهران المال، والحث على الزواج يخفف من غلواء الشهوات..
بهذا الأسلوب التربوي قطع الإسلام الطريق على كثير من الجرائم، وطهر منها المجتمع، ولكن ظل رافعًا سلاح العقوبة في وجه النشازين من الناس الذين صُرِفت قلوبهم عن كلمة التقوى، ولم تستطع الموعظة أن تنفذ إلى أنفسهم، فصار لزامًا على ولي الأمر أن يضع السيف بين المجرم وبين المجتمع..
ولعلنا لا نستطيع أن نُوفي هذا الموضوع حقه في كلمات، ولكن كل الذي نرجوه أن نفتح الباب أمام العاملين وفي حقل التشريع، والقائمين في المجالس التشريعية؛ حتى يتمكنوا من توجيه الناس وإرشادهم إلى الثروة الكبيرة التي تزخر بها شريعتنا.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل