; مأساة "البوسنة والهرسك" في الشعر الإسلامي المعاصر | مجلة المجتمع

العنوان مأساة "البوسنة والهرسك" في الشعر الإسلامي المعاصر

الكاتب د. محمود خليل

تاريخ النشر الثلاثاء 15-يونيو-1993

مشاهدات 18

نشر في العدد 1053

نشر في الصفحة 54

الثلاثاء 15-يونيو-1993

  • التهامي والنحوي والعشماوي يرفعون صرخاته من بلاد "البوشناق".
  • يؤكد الشعراء الإسلاميون أن "البوسنة والهرسك" درس في البقاء والجهاد.

يقف الشعر الإسلامي - وكل فنون القول - عاجزة مأخوذة دون تصوير هذه المجزرة البشرية الرهيبة التي يتعرض لها إخواننا المسلمون في "البوسنة والهرسك"، وفي العديد من بقاع الحقد المجنون، التي يتزاحم فيه الأكلة الآثمون على قصعة المسلمين، التي أعدوها بأنفسهم لهؤلاء المجرمين عبر شريط طويل أليم من التراجع والانكماش والتخلي عن رسالة الإسلام الصحيحة التي تقوم على تخريج «خير أمة أخرجت للناس..».

ومنذ رفع الكردينال «دبيدر» الصليب على بيت الحكم الإسلامي "للأندلس" في 2 يناير 1492 وحتى الآن مرورًا بسقوط الخلافة الإسلامية في مارس 1924 و"فلسطين" عام 1948 وحتى مأساة "البلقان" التي بدأت "بالبوسنة والهرسك" وما زلنا في انتظار بقية الفصول الدامية هناك.

والشعر الإسلامي خلال هذه المسيرة الفاجعة.. لا يفتأ يغز ويؤز حينًا.. وينوح ويبكي حينًا آخر.. ويهمز المسلمين بمهماز من نار.. وينطق بالتي هي أحسن، ليظل دائمًا سِجِلًّا ناطقًا وصورة مكتملة الألوان والظلال تشهد علينا أمام الله والتاريخ.

ولقد صدق الشاعر الإسلامي الكبير "محمد التهامي" في تصوير تلك المأساة التي يزيد اليتم الإسلامي أهلها موتًا على الموت الذي يلاقونه.. حين يجأر مستجيرهم يستنهض المسلمين.. فلا يجد إلا الصدى المحزون.. والموات الوبيل.. وتنكشف فضيحة دونها كل عار.. فيقول «التهامي» له:

فضحتنا حين ضاقت حولك السبل           فصحت بالأهل تدعوهم وتبتهل

يا صاح أهلك قد فاتوا مضاربهم..          وشردوا في سواد الليل وارتحلوا

فاتوا معاقلهم شماء خالية                وفي مهاوي مهاوي الأرض قد نزلوا

ولكي يعلم ذلك المستنجد جدوى استغاثته بأمة أكل بعضها بعضًا.. أهلها رحماء على الكفار أشداء بينهم - والعياذ بالله - عليك أيها المستجير أن تعلم الآتي:

إن جئت تنشدهم يومًا لمكرمةٍ           فليس في نجدة من دارهم أمل

فهم مكبولون في أرضهم مسجونون في أوطانهم.. موحولون في طينهم.. ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم..

فكيف بالملح إن حلت به الغِيَرُ

قد يسمعون وقد تدمى قلوبهم               وقد تفيض بجاري دمعهم مقل

حتى إذا اشتعلت في صدرهم همم         يعوقهم أنهم في دارهم وحلوا

لا يفرغون لنار في دياركموا              لأنهم بدواهي نارهم شُغلوا

وليس أمام أهل "البوسنة والهرسك وفلسطين وبورما وكشمير" من سبيل.. سوى إعلان الطريق المقدس.. الجهاد حتى آخر رجل.. وأن يعلموا أن غاية النجدة.. أثواب ولقيمات.. إلا من رحم ربك.. فالمستصرخون لا يملكون مقومات النجدة.

فليس معتصم فيهم لينجدكم..                  ولم يعد في مدى أوطانهم رجل

ويؤكد هذه الحقيقة المرة الشاعر الكبير «عدنان النحوي» حيث يصور حال أمتنا الذبيحة فيقول في قصيدته «سراييفو»:

هنالك في "بورما" مذابح أمة             تدور وفي "كشمير" دفق من الدم

وفي ساحة "الأقصى" بلاء وفتنة        على خطر فوق الديار مخيم

یمد به الأعداء نابًا ومخلبًا              وثورة أطماع وكيد مدعم

لكن نوم أمتنا على جراحها طويل.. طويل... وتعطيلها لحواسها قد أصبح من صناعاتها الخاصة..

وما استيقظ الغافون من سكراتهم            ولا وثبوا للحق وثبة أحزم

فهل سدت الآذان؟ هل سكرت إذن          بصائرنا؟ هل من مجيب ومقدم

وليس بناج من يغط بنومه..          وليس بمجد بعد حسرة للظمى

والشاعر الموهوب المكلوم دائمًا بأحزان أمته «الدكتور عبد الرحمن العشماوي».. يرفع هذه الصرخة من بلاد البوشناق حيث تدك بيوت الله ويقتل العلماء وأهل القرآن ليسمع من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.. ماذا يقول أطفال "سراييفو":

نناديكم وقد كثر النحيب              نناديكم ولكن من يجيب؟

محاريبي تدك وقد تهاوى          على جدرانها القصف الرهيب

نناديكم وآهات الثكالى              تحدثكم بما اقترف الصليب

أراكم تنظرون وأي جدوى        لنظرتكم إذا غفت القلوب

ستطحنكم مؤامرة الأعادي        إذا لم يفطن الرجل الأريب

وينعى الشاعر «محمد أمين الشيخ» حاله في حال أمته فيقول:

قد تهون الخطوب يومًا ولكن        أبدًا ما تهون في أوطاني

إنما يصبح القوي ضعيفًا             إن خبت فيه شعلة الإيمان

ماذا يقول أطفالهم؟

فيا أيها المسلمون المتشرذمون على الدروب، ويا أهل القرآن الذين اتخدتموه مهجورًا.. يجأر إليكم أطفالكم الرضع من هذا الجحيم المسعر.. ويصور الشاعر "عبد الرحمن العشماوي" هذه البكائية الذابحة فيقول:

لكم دار «مشيدة» وظل                يظللكم به غصن رطيب

لدى أطفالكم لعب وحلوى             وعند نسائكم ذهب وطيب

وما والله نحسدكم ولكن!!            نقول أما لإخوتكم نصيب؟

بنات المسلمين هنا سبايا              وشمس المكرمات هنا تغيب

ويستمر «العشماوي» في ندائه الباكي العميق فيقول في قصيدته «صرخة مسلمة من بلاد البوسنة والهرسك»:

أطفالنا بيعوا وأوروبا التي              تشري ففيها راجت الأسواق

أطفالنا ناموا على أحلامهم           وعلى لهيب القاذفات أفاقوا

ويشارك الشاعر «محمد عبد الجواد» هذا الطفل حاله العصيب.. فيقول في «رسالة طفل من البوسنة»:

النوم خاصمني وجفني قد جفاه المضجع

كم ذا ركبت الهول والإعصار لا أتمنع

ونظيري المحبوب يركب لعبة.. يتربع

كم ذا طعمت الذل ألوانًا ومنه أرضع

ونظيري الحلوى على فمه بدت تتطلع

أصحو على صوت القنابل والمدافع تصدع

وسواي توقظه البلابل قد رعاها المرضع

وماذا تقول نساؤهم؟

وأمام هذه الوحشية الصربية الصليبية الحقود الكنود التي لم تكتف بتشريد أكثر من 2 مليون مسلم ومسلمة من البوسنة وقتلت ما يزيد على 60 ألفًا كذلك والبقية الباقية لا زالت تحت المحارق والمجازر.. لم تكتف هذه الذئاب الجائعة بذلك بل بلغت الهمجية والغل الدفين بها إلى أن تقوم بتقطيع أوصال هؤلاء الأطفال وطحنهم علفًا للماشية.. وتقطيع أثداء النساء بعد انتهاك أعراضهم.. ويكاد المسلم يتميز غيظًا أمام هذا الإطراق المخزي الذي ضرب بظلامه الكئيب على بلاد المسلمين.. ويستجير "العشماوي" على لسان هذه الأخت المفزعة في شرفها وزوجها وولدها.. فيقول:

أنا أيها الأحباب مسلمة لها                قلب إلى شرع الهدى تواق

أنا أيها الأحباب مسلمة طوى            أحلامها الأوباش والفساق

أخذوا صغيري وهو يرفع صوته      «أمي» وفي نظراته إشفاق

ولدي، ويصفعني الدعي ويكتوي         قلبي ويحكم بابي الإغلاق

ويجرني وغد إلى سردابه..              قسرًا وتظلم حولي الآفاق

ويئن في صدري العفاف ويشتكي             طهري وتغمض عينها الأخلاق

عرضي يدنس !! أین شيمتكم؟ أما           فيكم أبي! قلبه خفاق

أنا لا أريد طعامكم وشرابكم                   فدمي هنا يا مسلمون يراق

هذه الأخت المسلمة.. ومعها ملايين المسلمات كل منهن كما يقول الشاعر الدكتور «عدنان النحوي»:

تلفت أين المسلمون وأين ما دعوا              من شارات الوفاء المرجم

فكم كاعب ردت على الطهر خدرها           تناش بوحش مجرم الطبع مرغم

تلفت أين المسلمون عل حُماتها                يطلون من أفق هنالك مظلم

وعلى هذه الأخت أن تعلم الحقيقة المروعة..

أختاه أمتنا التي تدعونها                     صارت على درب الخضوع تساق

فلما علمت ذات العفاف المروع مأساتها في حُماتها القاعدين، طوت يداها على جراحها.. وابتلعت غصتها المرة.

فردت على الذل المروع طرفها            وطوت على الأحناء غصة أيم

ومثلها ذلك البريء الذي أطل على الدنيا بإسلامه.. فوجد سكين الجزار المجرم الخؤون على عنقه.. ووجد الصرب المتوحشين يلعبون برأس أبيه الكرة بعد ذبحه وتمزيقه.. كما يقول «النحوي»:

تلفت كي يلقى أباه مضرجًا          تهاوى على سيل الرصاص المدمدم

ووجد هؤلاء الكفرة الفجرة ينهشون عرض أمه التي:

قضت ويداها لم تزالا كأنها           دعاء إلى مولى أبر وأرحم

ولكن ماذا يقول العالم؟؟

في هذه الدماء والأشلاء التي يتخوض فيها العالم.. لا نجد غير الصمت المريب.. أو الاستنكار اللطيف.. الذي لا يحرك ساكنًا.. فأين المتشدقون المتفيهقون..

وأين «مجلس الأمن» وأين السلام العالمي.. وكأني بالمسلمين بالبلقان.. وكل اللصوص معهم على موعد واحد.. لذلك يصيح الشاعر عبد الرحمن العشماوي مستهزئًا:

ياء «مجلس الخوف» الذي في ظله           كسر الأمان وضيع الميثاق

أو ما يحركك الذي يجري لنا                  أو ما يثيرك جرحنا الدفاق

أين السلام العالمي لقد بدا                      كذب السلام وزاغت الأحداق

أين «النظام العالمي» أما له                   أثر، ألم تعصف به الأبواق

سرج العدالة مال فوق حصانه               ولوى العنان إلى الوراء نفاق

فاصبروا وصابروا ورابطوا

ومع هذا الحال الجاثم كمدًا بين قتيل أعزل تكالبت عليه وحوش البشرية.. لا لشيء إلا أنه يقول «ربي الله» وبين قاتل متذئب كاسر.. يرفع الصليب الكذوب.. وقد برئ الله والنبيون منه.. مع هذا كله.. فإن مأساة البوسنة والهرسك كما يرى كثير من المراقبين سوف تكون درسًا في البقاء والثبات.. ونحن مع الشاعر الكبير «كامل أمين» نقول:

لا تحسبوا في «البوسنة» الإسلاما         «والهرسك» اليوم انتهى بل داما

مهما تمادى «الصرب» في إجرامهم        وتوهموا في واده الأوهاما

لا بد للطاغوت من يوم يرى                  فيه دماء الأبرياء ضراما

مسخًا تطارده العدالة إن صحا                وتروعه أرواحهم إن ناما

ومن ارتضى الإسلام دين «البوسنة»     لا بد من أن ينصر الإسلاما

وما أروع تشبث طفل "البوسنة" بأرضه، ورفضه التهجير وإفراغ الدار، والله من قبل ومن بعد، له سنن لا بد أن يجريها عز وجل.. في هذا يقول الشاعر «حسين المرصفي» على لسان ذلك الفتى المجاهد الذي يمثل الجيل القادم على الطريق، الذين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك..

لا تخرجوني من بلادي المسلمة             إني أشكك في قرار المحكمة

لا تقلعوني من جذوري إنني                 باق هنا لأخوض أشرف ملحمة

لن يطفئوا نور الإله بحقدهم                    فالفجر آت والبشائر قادمة

وبعد.. فلعل القارئ الحبيب يلحظ أننا لم نتوقف كثيرًا أمام لمحات التصوير والتعبير في هذه القصائد.. لعل ذلك ييسره الله في لقاء آخر.. ولكن.. هذه ليست سوى صرخة عالية من هذا الجرح الإسلامي الغائر، رفعها «الشعر الإسلامي» وسط الرهاج والهياج.

قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

حُداءُ الشِّعْرِ محمودُ

نشر في العدد 2121

28

الأحد 01-يوليو-2018

حضارتُنا عِلْمٌ وإبداعٌ

نشر في العدد 2114

18

الجمعة 01-ديسمبر-2017

رِسَالَةٌ إِلَى الْحَجِيج (شعر)

نشر في العدد 42

152

الثلاثاء 05-يناير-1971