العنوان مأساة «الإيرباص» الإيرانية تصعيد للعداء... أم فرصة للتطبيع
الكاتب صالح إبراهيم البليهي
تاريخ النشر الثلاثاء 12-يوليو-1988
مشاهدات 15
نشر في العدد 874
نشر في الصفحة 24
الثلاثاء 12-يوليو-1988
مهما اختلفت الروايات والتفسيرات لحادث إسقاط طائرة الخطوط الجوية الإيرانية يوم الأحد من الأسبوع الماضي فان الثابت يبقى أن هذا الحادث يمثل مأساة إنسانيه مروعة ذهب ضحيتها ما يقرب من ٣٠٠ راكب بريء، وانضم هذا الركب من الضحايا إلى مئات الألوف من القتلى والمفقودين نتيجة الحرب الشرسة المستمرة في الخليج منذ 8 سنوات دون بريق أمل في قرب نهايتها.
ويأتي هذا الحادث المروع في ظل حالة قصوى من التوتر يشهدها الخليج بعد سلسلة من العمليات البحرية العدائية بين إيران والولايات المتحدة، وبعد سلسلة من الهجمات العسكرية العراقية الناجحة على خطوط الجبهة، وفي الوقت الذي تشهد فيه العلاقات السعودية - الإيرانية توترًا شديدًا بسبب النوايا الإيرانية السيئة تجاه موسم الحج لهذا العام.
الحادث المأساة...
وقد وقعت هذه الفاجعة في صباح يوم الأحد الموافق ٣ يوليو الحالي عندما أقلعت طائرة من نوع «إيرباص ۳۰۰» تابعة للخطوط الجوية الإيرانية في رحلة من مدينة بندر عباس الإيرانية في مضيق هرمز الى مطار دبي الدولي بالإمارات العربية المتحدة، وكان على متن الطائرة ٢٩٠ شخصًا عندما حلقت فوق منطقة اشتباكات بحرية بين سفن حربية أمريكية وعدد من الزوارق الإيرانية، الأمر الذي أسفر عن إصابتها بنيران المدمرة الحربية الأمريكية «فينسنز» وتحطمها في البحر.
ووفقًا للرواية الأمريكية فإن المدمرة «فينستر» مع سفينة أخرى من الأسطول كانتا قد دخلتا إلى الخليج بعد الانتهاء من مرافقة قافلة من ناقلات النفط إلى خارجه، وقد تعرضت طائرة هليكوبتر تابعة للمدمرة «فينستز» إلى إطلاق نار من قبل زوارق إيرانية كانت تتجمع في المنطقة، وقد بادرت المدمرة المذكورة إلى التقدم إلى منطقة الزوارق واشتبكت معها وأغرقت بعض الزوارق وقد اكتشف طاقم «فينسنتر» خلال ذلك اقتراب طائرة من البحر الإيراني بسرعة عالية وعلى ارتفاع منخفض نسبيًّا، فوجهت المدمرة نداءات إلى الطائرة بالابتعاد، ولكن الطائرة لم ترد واستمرت في التقدم، عندلة الحد قائد السفينة الأمريكية قرارًا بإسقاطها، وتم إطلاق صاروخين من نوع سطح - جو أصاب أحدها الطائرة ونسفها في الجو.
وقد تناثرت جثث الضحايا من الركاب وحطام الطائرة فوق مياه الخليج؛ حيث لم ينج منهم أحد، وقامت زوارق إيرانية وطائرة هليكوبتر بانتشال جثت أكثر من ٢٠٠ من القتلى خلال اليومين التاليين للحادث.
وبادرت إیران فور وقوع الحادث إلى اتهام الولايات المتحدة بالواقعة الشنيعة وقد رفض الأمريكيون الاتهام في البداية وقالوا بأسقاط طائرة حربية إيرانية من نوع «إف - ١٤» غير أن البيانات التالية للمسؤولين الأمريكيين أظهرت صحة الاتهام الإيراني.
من المسؤول؟!!
وقد تبادل الأمريكان والإيرانيون الاتهامات حول عبء المسؤولية في الحادث، ففي حين تصل الاتهامات الإيرانية إلى حد وصف التصرف الأمريكي بأنه جريمة قتل جماعي متعمدة، فإن الأمريكان بدورهم يتهمون الإيرانيين بأنهم أقحموا طائرة مدنية في منطقة أعمال عسكرية بلا مبالاة... وقد ذكر الرئيس ريغان في بيانه حول الحادث بأن قائد السفينة «فينستز» كان في موقف دفاعي مفهوم، وأن تصرفه كان مبررًا على أساس جهله بطبيعة الطائرة الإيرانية، ولكن الرئيس وعد بإرسال فريق عسكري للتحقيق التفصيلي في الحادثة. وقد ذكرت التقارير الأمريكية بأن الطائرة انحرفت عن الخط الملاحي الدولي، وأنها كانت تحلق دون الارتفاع المعهود للطائرات المدنية، كما وأنها كانت تطلق إشارات إلكترونية تستخدم من الطائرات العسكرية عادة، وقد نفى الإيرانيون المعلومات الأمريكية وقالوا: بأن الطائرة كانت في خطها الملاحي الطبيعي لأي طائرة تجارية.
وسوف يمضي بعض الوقت قبل أن تكتمل الصورة حول ما حدث إبان إسقاط الطائرة وتحديد الأخطاء التي وقعت، لكن الراجح في الأمر أن كلًا من الأمريكان والإيرانيين يتحملون المسؤولية عن هذه الخسارة الفادحة في الأرواح.
فالأمريكان بتواجدهم العسكري الضخم في الخليج وبوجود عشرات من سفنهم الحربية المدججة بالأسلحة الفتاكة، وبمشاركتهم في أعمال عسكرية متكررة في مياه الخليج، ودون نمط واضح أو حدود مرسومة لهذه الأعمال يعطون الفرصة الكبيرة لوقوع حادث أليم كهذا، خاصة وأن سماء الخليج تكتظ بالطيران المدني بين أقطار المنطقة وبين مطارات أوروبا ومطارات الشرق الأقصى كذلك.
والإيرانيون بدورهم يتحملون قسطًا كبيرًا من المسؤولية، فاستمرارهم في الحرب وإصرارهم عليها كان السبب الأول في تواجد الأسطول الأمريكي وغيره من الأساطيل وفي استمرار القتال المدمر فوق مياه الخليج وعلى جبهة الحدود مع العراق، كما أن أسلوب القوات البحرية الإيرانية في ممارسة القرصنة والاعتداءات على السفن التجارية المحايدة عبر خطوط الملاحة في الخليج ساهم في توتير الأوضاع الى حد كبير، وخلق مبررات واضحة لسفن الأسطول الأمريكي لإطلاق النار على كل جسم يقترب منها دون حذر، ويظهر أن الفوضى السائدة في إيران وانعدام التفاهم والتنسيق بين زوارق القرصنة الإيرانية من جهة والطيران المدني الإيراني من جهة أخرى كان من الأسباب الواضحة للحادثة، وإلا كيف يرسل الإيرانيون طائرة مدنية فوق منطقة تشهد اقتتالًا عسكريًّا محمومًا؟!
الحادث... حقنة منشطة للنظام!
وتبقى آثار الحادث على الأوضاع داخل إيران من الأمور المهمة التي تحتاج إلى متابعة واستيعاب. فمن المعروف أن إيران كانت تعيش خلال الشهور الأخيرة الماضية حالة من انخفاض المعنويات بسبب الظروف الاقتصادية الناتجة عن الحرب وبسبب سلسلة من الإخفاقات على جبهة القتال على إثر نجاح العراق في استعادة ٣ مواقع مهمة هي الفاو والشلامجة وجزيرة مجنون.
ومن جهة أخرى فإن إیران تشهد أيضًا حالة من الانقسام السياسي في المؤسسة الحاكمة أمام المجموعة التي يتزعمها رفسنجاني والتي تصفها الصحافة الغربية بمجموعة «المعتدلين» وأمام المجموعة القوية الأخرى بقيادة أحمد الخميني التي توصف بالتشدد.
ومن المتوقع الآن أن يساهم الحادث في خدمة النظام الإيراني في إعادة صورة الجهاد ضد الإمبريالية الأمريكية إلى الواجهة الإعلامية وتجسيدها بحشد قدر أكبر من الطاقات الشعبية للمجهود العسكري؛ سواء فوق مياه الخليج أو على الجبهة مع العراق خاصة وأن مسؤولًا إيرانيًّا كان قد صرح مؤخرًا بأن سياسة الهجمات العسكرية الضيقة غير مجدية على الجبهة، وأنه يجب استبدالها بهجمات واسعة ومنسقة، وهذا يستدعي بالتأكيد حشد أعداد كبيرة من المتطوعين من الشعب الإيراني.
وقد يسهم الحادث في تقريب الأجنحة المتباينة في الحكومة الإيرانية أو يعطي النظام الحاكم على الأقل صورة ظاهرية للاتحاد والتماسك في وجه الهجمة الأمريكية على إيران.
التعويضات.. فرصة للتطبيع!
وعلى الرغم من أن التصريحات المتبادلة من الجانبين تعطي انطباعًا أولیًّا بأن إیران والولايات المتحدة على وشك الدخول في حرب، إلا أن ما قد يحدث بالفعل قد يكون العكس تمامًا بأن يكون الحادث المأساوي سببًا في مزيد من التقارب بين واشنطن وطهران.
فمن المفهوم أنه بالرغم من العداء العلني بين الدولتين إلا أنه وقع من الأحداث والتصرفات ما يدل على وجود اتصالات خفية بين الطرفين على قدر كبير من القوة، وقد انكشفت هذه الحقيقة بوضوح في مسألة الأسلحة الأمريكية السرية لإيران.
وتذكر المصادر أن الاتصالات بين الطرفين كانت مستمرة خلال السنوات الماضية، فكانت إیران ترسل برقياتها للأمريكان عن طريق الجزائر فيما ترسل واشنطن برقياتها للإيرانيين عن طريق سويسرا.
وقد صرح «بارليخ» وهو مسؤول في الإدارة الأمريكية ومختص بشؤون الشرق الأوسط بأن الإدارة الأمريكية تلقت إشارات من مسؤولين إيرانيين في الآونة الأخيرة تدل على رغبة إيرانية بتحسين العلاقات بين الطرفين، وقد جاء تصريح المسؤول الأمريكي بعد بضعة أيام فقط من حادث أسقاط الطائرة، وقال مراقبون: بأن ملاحظات «بارليخ» تعتبر إشارة بأن الولايات المتحدة ستستأنف الحوار مع إيران تحت «شروط مناسبة»، وبالرغم من التصريحات الأولية حول الانتقام من الحادث، فإن المسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم رفسنجاني اتسموا بالهدوء بصورة عامة، وطالبوا مجلس الأمن بعقد اجتماع بشأن الحادث، وهو ما يمثل نظرة إيرانية جديدة لمجلس الأمن بعد أن ظل الإيرانيون سنوات لا يعترفون بدور هذا المحفل الدولي في حل المشكلات السياسية. والمسألة الحساسة في شأن حادث الطائرة والتي قد تكون المدخل للتقارب الأمريكي الإيراني تتمثل في التعويضات التي قررت الإدارة الأمريكية تقديمها للإيرانيين عن ضحايا الطائرة وبدون انتظار نتائج التحقيق في الحادث خلال الأسبوع القادم.
وقد ذكر ناطق باسم البيت الأبيض في بيان حول دراسة حجم التعويضات التي سيقدرها محامون عن الحكومة إمكانية أن تكون قضية التعويض «فرصة» يمكن أن تؤدي الى تطبيع العلاقات بين الجهتين.
وقد أكد الناطق أن الإيرانيين قاموا قبل حادث الطائرة بجس نبض الولايات المتحدة لتحسين العلاقات بين البلدين، كما أشار إلى أن الحكومة الأمريكية كانت تعرب على الدوام عن استعدادها لإقامة اتصالات مع إيران متطلعة الى ما بعد عهد الخميني.
ومما يعزز هذا الاحتمال ما صرح به مسعود رجوي رئيس منظمة مجاهدي خلق وأبرز رجال المعارضة الإيرانية من أن الحادث يمثل خدمة كبيرة من الولايات المتحدة للنظام الإيراني، وفرصة مواتية لاستغلال دماء الأبرياء من ضحايا الطائرة في الاستمرار في تأجيج الحرب، وقد وجه رجوي تحذيرًا للحكومة الأمريكية من مغبة القيام بإيصال الإمدادات المباشرة أو غير المباشرة إلى النظام الإيراني بدعوى التعويض عن استهداف طائرة الركاب الإيرانية بطريق الخطأ من الأسطول الأمريكي.
فمن المحتمل أن تجد الولايات المتحدة الحادث فرصة للاستمرار في تنفيذ سياسة الدعم السري التي كشفت عنها فضيحة إيران - الكونترا داخل الإدارة الأمريكية. وهكذا فإن أزمة طائرة «الإيرباص» قد تؤدي إلى انفراج العلاقات على المستوى البعيد بدلًا من استمرار التأزم بين البلدين.
وقد قال «كيسنجر» وزير الخارجية الأمريكي السابق ذات مرة: وإذا أردت أن تنهي أزمة فعليك أولًا أن تدفعها إلى أقصى حالات التوتر، ثم تبدأ الحل من هذه النقطة!!
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل