العنوان ماذا يحدث في روسيا؟ مصير الماركسية
الكاتب عبيد الأمين
تاريخ النشر الثلاثاء 12-يوليو-1988
مشاهدات 18
نشر في العدد 874
نشر في الصفحة 16
الثلاثاء 12-يوليو-1988
أبدت المحافل السياسية في الغرب اهتمامًا بالغًا بالمؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي، لدرجة وصفها له بالمؤتمر التاريخي... وليس في ذلك أدنى مبالغة، فالمؤتمر الذي اختتم أعماله في مطلع الشهر الجاري كان شيئًا آخر بكل المقاييس، فلم يشهد العالم ولا شعوب الاتحاد السوفياتي وضعًا مثله، وعلى حد قول السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي غورباتشوف: «إنه لم يحدث أمر كهذا في بلادنا منذ ما يقرب من ستة عقود، فالمؤتمر جاء بعد فترة انقطاع بلغت ٤٧ عامًا؛ حيث انعقد المؤتمر الثامن عشر عام ١٩٤١ في ظلال القبضة الدموية لسياسة عبادة الفرد الستالينية... وعلى غير العادة فقد كانت الإجراءات التنظيمية والمداولات تتم على مرأى من أجهزة الإعلام المختلفة، وفي الوقت نفسه اتسمت تلك المداولات بقدر وافر من الصراحة والنقد الذاتي خلافًا للسابق، فلم تكن المؤتمرات السوفياتية بمختلف مسمياتها لتنعقد إلا داخل الغرف المعتمة، ولا أحد يعلم ما يدور خلف دهاليزها الباردة… أما عن الأجندة فقد كان المؤتمر هو أولى خطوات البرنامج الإصلاحي وصولًا لتحقيق «إعادة البناء» والتي يمكن أن يطلق عليها بكل الدقة «الانتفاضة الإدارية»، وربما تجاوزت تطلعات غورباتشوف مقررات المؤتمر إلى إحداث التغييرات اللازمة في النهج الاقتصادي المتبع ويشير في بعض أقواله دون التصريح إلى ثورته القادمة: «إن السنوات القليلة القادمة ستحدد مصير بلدنا الذي قادته القوى البيروقراطية والأوامر الفوقية إلى حافة الهاوية؟! فهو هنا يبشر بالحركة المستقبلية التي لا بُدَّ أن تأتي؛ حتى لا يسقط الاتحاد السوفياتي في الهاوية. أما صناع السقوط فهم البيروقراطيين وأوامر الحزب الفوقية... بيد أن التغيير لا يحتاج فقط إلى دعاة وقادة وإنما يحتاج أيضًا إلى منهاج ووعي حركي قادر على استيعاب المراحل وتطوراتها.
حصاد المر:
إن حماس النخبة المثقفة من السوفيات لبرنامج غورباتشوف من أجل إعادة بناء «الدولة البتريسترويكا» قد عبر عن ذاته أثناء انعقاد المؤتمر، فقد حملت الصحافة الروسية الرسمية كثيرًا من الانتقادات للعهد السابق، ووصفه بعض الكتاب السوفيات بعصر «الركود والجمود»، كما وصف حكامه «بالطغمة»، وهي لغة لم يعرف الروس من قبل مفرداتها... غير أن هذا الحماس ليس وقفًا على النخبة وإنما قطاعات واسعة من السوفيات يجدون أن بعد ٧١ عامًا على قيام الثورة البلشفية وترديد الشعارات البراقة من كل حسب طاقته إلى كل حسب حاجته، أنهم عاشوا الزيف بكل أشكاله، وحصاد كل ذلك هو السوق السوداء والغلاء الفاحش وافتقاد السلع الأساسية واحتشاد الطوابير أمام المجمعات الاستهلاكية، والتي ما عادت تحتوي على متطلبات الشعب، والأزمة السكانية المتفاقمة. وقد تساءل الأديب والكاتب «فيتوشتكو» من المسؤول عن اختفاء السكر؟ اللجنة المركزية... أم مجلس الوزراء؟ إنهم بلا شك يتحملون قسطًا من المسؤولية... لقد تسامحنا في اختفاء مادة ثم مادة، فلماذا نفاجأ باختفاء أشياء بسيطة... ما دمنا قد تسامحنا حتى الأمس القريب عن اختفاء أعداد لا تحصى ولا تعد من الناس» إن المواطن السوفياتي العادي قد يعنيه حقًا أن تصبح بلاده دولة عظمى عسكريًّا ودوليًّا لكن عنايته تلك لا تغنيه شيئًا إذا هو لم يجد متطلباته وحاجاته الأساسية في متناول يده، وإلا فما معنى أن تصبح الدولة غنية ومواطنها في حاجة لأبسط أنواع الأساسيات الاقتصادية من مأكل ومليس وكهرباء وسكن... إن الحزب الشيوعي السوفياتي يرى نفسه أنه قد حقق رغبات أعضائه والذين يفترض فيهم أنهم كل الطبقة العاملة غير أن الطبقة العاملة وحدها تتحمل كل تلك الدعاوى المضللة، وفي الوقت نفسه تدفع كل ما لديها من أجل تأمين لقمة الخبز، وهو ما لا يعيشه رصفائها في الدول الرأسمالية؛ حيث المفترض أن تكون دولة البرولوتاريا أكثر عدالة في التوزيع.... وثورة غورباتشوف القادمة تجد أدواتها في التعاطف الشعبي الواسع، على الرغم من أن الشعوب الروسية لم تحيا في يوم ما حياة تعددية، ولم يعل صوت الشعب فيها على صوت القصر... فهل تستطيع البيريسترويكا أن تحيي روح الجماهير؛ لتطالب بدورها المغيب طيلة العهود السابقة؟
طبعة الحزب المنقحة:
امتاز خطاب غورباتشوف في المؤتمر بالهدوء والديبلوماسية، فهو على الرغم من تلمسه الحي لأسباب الجمود والرجعية في النظام القائم إلا أن نقاط الاتهام لم توضع على الحروف، حتى لا تتسع هيمنة الدوائر المناولة السياسة «إعادة البناء» والمقصود الأول في قيادة التقصير السياسي والانهيار الاقتصادي الذي وصلت له دول الجمهوريات السوفياتية هو الحزب الشيوعي والنهج البيروقراطي الذي خيم على المؤسسات والأجهزة الإنتاجية وخلق طبقة إدارية ذات أساليب موغلة في العقم والمكتبية المركزية مما عقد طرق الإنتاجية وقتل كل بادرة مبادأة لقيادة المؤسسة الاقتصادية المباشرة... وأكبر دليل هو هذا الانحطاط الاقتصادي الذي تعاني منه الدولة، فالاتحاد السوفياتي اقتصاديًّا فهو ليس الدولة الثابتة، فقد تجاوزت اليابان خطه الفاصل بالرغم من أنه ينتج 12.5 مليون برميل يوميًّا من النفط أي أنه ينتج 2/3 من إنتاج دول الأوبك مجتمعة، ويمتلك من الأراضي ما يساوي ثلاث أمثال الأرض الأمريكية، ومع ذلك لا يحقق الاكتفاء الذاتي من السلع الزراعية بما في ذلك القمح... لذا كانت ثورة غورباتشوف لتحطيم الجهاز الحاكم وعلى رأسه الحزب الشيوعي، ومن هنا كانت دعوته في اتباع السبل التي تكفل تحجيم سلطة الحزب، ومن تلك الخطوات كانت:
١- زيادة سلطات البرلمانات القومية والمحلية:
ويأتي هذا على حساب السلطة المباشرة للحزب سواء في الإدارة المحلية أو الإدارة المركزية للدولة ويستغل غورباتشوف في ذلك الحركات الاحتجاجية للقوميات المختلفة على الرغم من تأكيده على عدم الاستجابة لتطلعاتها القومية.
٢ - الدعوة لإقامة نظام رئاسي تحول بموجبه السلطة الرئاسية في الحزب والدولة للمرشح الفائز على أن تكون المدة الرئاسية لا تتجاوز ١٠ سنوات، وبذلك تكون القوة الداعمة للرئيس ليست الحزب وحده، وإنما تشاركه القواعد الجماهيرية عبر البرلمانات القومية.
٣- الدعوة إلى سيادة القانون وتحديد السلطات وتعرض الكل للمسؤولية التقصيرية والمحاسبة عند وقوع الأخطاء، وهو ما لم تشهده طيلة العهود السابقة أروقة الحزب المتسلط، والذي يمتلك سلطات عليا غير قابلة للمساءلة والتحقيق.
٤- انتقاد الأوضاع السائدة، وهي نتائج واقعية لسياسة الحزب، والانتقاد يعني في المقام الأول المراجعة،- والمراجعة تقضي تحديد الأسس، كما أن انتقاد الأوضاع القائمة يهز الثقة في الحزب، ويحطم ما ابتناه جورًا من قدسية شعبية حول نفسه وحول قراراته وسياسته.
فإذا ما نجح غورباتشوف في ثورته على الحزب، وتحقيق تلك الخطوات والتي حدد لتنفيذها العام القادم ۱۹۸۹ فإن ثورة حقيقية قد أطلت من داخل القيادة على الاتحاد السوفياتي.. كل خطوة من تلك الخطوات تزلزل الأرض الماركسية تمامًا تحت أقدام التحول الليبرالي.. فهل يتخلى الابن البكر عن الماركسية؟
- الآتي المجهول:
بعض المراقبين في الغرب يراهنون على أن الانسلاخ الفلسفي آتٍ للدولة الروسية بعد أن أثبتت تجارب السبعين عامًا الماضية أن الماركسية لم تكن سوى غلالة مهترئة فشلت في حجب القيح الدكتاتوري لوجه الثورة البلشفية، ومما لا شك فيه حول علاقة الماركسية بالواقع السوفياتي أن كليهما مارس لعبة الأخذ والعطاء مع الكيف المرحلي إلا أن الماركسية بعد كل ما أصابها من دورات تنشيط لدورتها الدموية وسريان التيارات الصناعية في أوصالها المتصلبة لم تقدم النموذج على الوجه المقبول، ناهيك عن التطلع لأحداث الشيوعية المثالثة ودعاويها حول مجتمع العدل، والكفاية، والحرية الاجتماعية، والتساوي المطلق بين الطبقات وتذويب الفوارق، فقد كانت آثار التجربة شيئًا مفزعًا؛ خاصة في مجال حقوق الإنسان - بمعناها الأشمل وليس بالمعنى الذي يريده اليهود وحليفهم ريغان - فالإنسان السوفياتي لا يعرف معنى النقد الذاتي الذي طالما تشدق به الحزب، وهو مكبوت التفكير ليس له أن يبدي رأيًا عقائديًّا أيًا كان نوعه ما لم تنص عليه فلسفة الحزب، ولهذا فإن المنشقين عن أطر الحزب كان جزاؤهم دومًا النفي والإعدام، وبمجيء غورباتشوف كان لا بد من مراجعة تلك الشركة المثقلة وإبداء الرأي حول إصلاح بعض الآيل للسقوط فيها ولو مؤقتًا، فغورباتشوف يعد نسبيًا من جيل ما بعد الثورة، بمعنى أنه لم يعب من أخطائها، كما فعل سلفه، ولذلك فهو أقرب إلى روح الإصلاح من الذين استولى العمى العقائدي على عقولهم، فأوردوا قومهم دار البوار - الاقتصادي والسياسي - وربما تكون القناعة السوفياتية أن الماركسية لم تعد تمتلك المزيد إلا أنها تبقى الفكر السائد، وإن كان بصورة شكلية، فالمجتمع قد أشبع بمفاهيم لا يمكن الإقلاع عنها ما لم يؤخذ عنصر الزمن في ذلك، والفراغ الفلسفي ليس بالضرورة تهديم نظرية وإنما هو أيضًا نبذ سلوكيات، والأزمة هنا تبقى حادة الزاوية، والانفراج يعني التوجه نحو الغرب الرأسمالي، والغرب لم يعد هو الآخر يحتوي شيئًا، ونظرياته الفلسفية هي الأخرى انطوت من الساحة بعد تورمات الآلة على حساب الإنسان.. الوعي.... والفكر... والأخلاق، وليس أدل على ذلك من الأوضاع السياسية السائدة في غرب أوروبا عمومًا، وفي فرنسا التي تحاول مزج الاشتراكية مع الرأسمالية لتفادي التطرف المزدوج... إنها حالة العجز البشري والفراغ الروحي والعقائدي، ونحن المسلمون أتباع الحق الإلهي وشهداء الله على العالمين نعيش عجزنا في الإمكانية القاصرة عن بناء النموذج المشع والحضاري للبشرية حيث إقامة العدالة الاجتماعية والسياسية وتحقيق إنسانية الإنسان في الحرية والكرامة وإشادة مجتمع الكفاية والعدل... فهل تتقد في نفوسنا بعض إشعاعات الحق.. فنخرج أنفسنا من دائرة العجز وننشد الحق لغيرنا؟
- قوميات ومسلمون:
يعبر السوفيات عن المسلمين عادة بالقوميات، وهم في ذلك يتحاشون الربط العقائدي ويستبدلونه بالأعراق، ولذا قامت الجمهوريات الجنوبية ذات الأكثرية من المسلمين على نظم قبلية «فجمهورية الأوزبكستان» هي دولة الأوزبك «وجمهورية تركستان» هي دولة الترك وهكذا، فالقومية استخدمت من أجل التذويب العقائدي وإقامة حواجز نفسية وعرقية بين المسلمين، وتحتوي تلك الجمهوريات الإسلامية على ٣٠٪ من سكان الاتحاد السوفياتي أي ما يقارب ٧٠ مليون نسمة، وقد تحمل المسلمون قدرًا وافرًا من الاضطهاد والتشريد على يد الطغمة الماركسية، وخاصة في عهد ستالين غير أن الوعي الإسلامي ظل كامنًا في ثقافتهم، وإدراكهم للحقائق التلبسية للنظام الماركسي المتسلط، وقد كان الحذر قائمًا على الدوام من التفجير العقائدي للمسلمين؛ لذا مارست المخابرات السوفياتية أقصى أنواع التجسس على حركتهم اليومية، وكانت الدولة باستمرار تعمل على طمس هويتهم الإسلامية غير أن واقع التجارب أثبت أن كل تلك المجهودات ذهبت أدراج الشعور الثابت في نفس المسلم وما كانت إقالة «دين محمدوف» من اللجنة المركزية وقيادة الأوزبكستان إلا جزءًا من الإفراز العقائدي لنفسية المسلم، وكذلك حيدر علييف والذي كان ينافس غورباتشوف في مجلس السوفيات الأعلى.. ذات الشيء حدث عندما بعثت قوات الغزو السوفياتية لأفغانستان، فقد انضم بعض الجنود المسلمين الروس إلى صفوف المجاهدين، كما أن هناك علاقات ودية نشأت بين الجنود المسلمين الروس وبين الأفغان عامة مما أحدث حركة تهريب للمصاحف والكتب الإسلامية... وحدا ذلك بالسوفيات لتغيير وإرجاع كل الجنود المسلمين من أفغانستان، وبالرغم من أن البيرو يسترويكا لم تعد بإعطاء القوميات المختلفة بما فيها المسلمين أي نوع من التطلعات القومية أو التعددية الحزبية والعقائدية، فإن دلالات الحال تقول: بأن زيادة سلطات البرلمانات المحلية على حساب الحزب الشيوعي قد ينشأ معه وضع متحسن للمسلمين مقارنة بالأوضاع السائدة، لا سيما وأن المسلمين يمتلكون أعدادًا كبيرةً في الجيش، كما أن وجودهم في منطقة جغرافية واحدة يساعد كثيرًا في نجاحهم في اتخاذ المزيد من الخطوات التحررية، وعلى كل فإن خطوات برنامج غورباتشوف في مجموعها ودعوتها الانتقادية تفتح المجال على مصراعيه لتجمعات المسلمين، للاستفادة من الرخاوة المتوقعة في النفوذ الحزبي للشيوعيين.... من جانب آخر فإن الصحوة الإسلامية قد مدت جذورها إلى هناك، ويكفي أن تعلم أن الروس انصاعوا لأكثر من مرة تحت الضغط الإسلامي بإقامة المؤتمرات الإسلامية في باكو وطشقند وبخارى في السنوات الأخيرة الماضية... ويبقى المستقبل بيد إرادة التغيير والتي هي من إرادة الله عز وجل... ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
وأخيرًا: لقد آثر السكرتير العام للحزب الشيوعي أن يصرح في ختام المؤتمر لإحدى الصحف الصينية بأن السعي يجب أن يكرس لخلق مجتمع يحكم ذاتيًّا واشتراكيًّا.. من قبل الشعب، وذو ديمقراطية عميقة متماسكة وأن يسود فيه حكم القانون، وفي ذلك دلالة واضحة على أن غورباتشوف معجب بالنهج الصيني الذي انطلق بعيدًا عن النصوص الماركسية الجامعة والتفسيرات السلفية لها… وكل ذلك يؤكد أن ماركس ولينين ومثالين قد يتحولون إلى المتحف السوفياتي قريبًا مع بقايا مخلفات قصر آل رومانوف..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
العلاقات الروسية الأفريقية تحت المِجهَر.. ماذا يريد «بوتين» من أفريقيــا؟
نشر في العدد 2176
39
الأربعاء 01-فبراير-2023