; ما وراء الأحداث الأخيرة في كردستان العراق | مجلة المجتمع

العنوان ما وراء الأحداث الأخيرة في كردستان العراق

الكاتب د. علي محيي الدين القرة داغي

تاريخ النشر الثلاثاء 24-سبتمبر-1996

مشاهدات 41

نشر في العدد 1218

نشر في الصفحة 38

الثلاثاء 24-سبتمبر-1996

فوجئ أهل أربيل يوم السبت ١٩٩٦/٨/٣١م بدخول القوات العراقية عاصمة الإقليم مع قوات السيد «مسعود البارزاني» بعد مناوشات مع قوات حزب الإتحاد الوطني لم تستمر كثيرًا، ثم زحفت نحو السليمانية التي سقطت دون إراقة الدماء.

لم يكن ما حدث في كردستان العراق مفاجئًا لمن يتابع المنطقة عن كتب فكل الدلائل كانت تشير إلى أن الوضع متأزم، وأن ميزان القوى بدأ يختل الصالح الإتحاد الوطني بقيادة «جلال الطالباني» في المناوشات الأخيرة التي قيل إن إيران كان لها دور فيها، حيث أن المنطقة الكردية تحتاج إلى قوة رادعة تمنع الطامعين في أرض العراق، وهذه تتطلب قوة عسكرية متكافئة متحدة كان من المفروض أن يكونها الأكراد ويجعلونها الهدف الأول منذ أول يوم انسحبت فيه الإدارة العراقية والجيش العراقي عام ۱۹۹۱م، ولتحقيق ذلك الهدف كان على القيادة الكردية أن تعلن بكل صدق أن هدفها هو الحفاظ على المنطقة بعيدة عن الأطماع الإقليمية والدولية وأنها لا تفكر في الانفصال بل تحافظ على وحدة الأراضي العراقية وعدم التفريط فيها، وذلك حتى يطمئن العراقيون والدول المجاورة ولا يتوجسون خيفة من قوة الأكراد وانفصالهم عن دولتهم.

ولكن بدل هذا أختلف الحزبان الرئيسان اختلافًا شديدًا لم يتوقف عند الاختلاف النظري، بل تجاوز كل الحدود، حيث أشتد القتال بين الطرفين منذ عام ١٩٩٤م، وفشلت كل المحاولات الداخلية والخارجية في تحقيق صلح بينهما، وبالتالي انشغلت القوة الكردية بنفسها فذهبت ريحها وقوتها وانقسمت المنطقة بين الحزبين، كما انقسمت الإدارة والبرلمان بينهما، الأمر الذي أدى إلى حالة الشلل لكلا الطرفين.

وترتب على ذلك أن المنطقة الكردية أصبحت مكانًا خصبًا للتنافس الإقليمي والدولي، وأرضًا للتجارب السياسية، وميدانًا للصراع الداخلي والإقليمي، مما شجع دول المنطقة على شراء الذمم وكسب الولاءات والدخول فيها بقواتها متى شاءت وكيف شاءت دون رادع ولا حرمة لأهلها وسيادتها ومؤسساتها.

فدخلت تركيا أكثر من مرة وفي مسافات في عمق العراق بين خمسة كيلو مترات إلى ٢٥ كم، واستعملت مختلف الأسلحة ضد منظمة K.K.P وانتهكت القوانين الدولية وحرمة الجوار، ومع ذلك لم تعد بشيء يذكر فلم تقض على P.K.K ولا حققت الأمن كما ادعت.

ودخلت إيران كذلك، فقبل شهرين دخلت قوات حرس الحدود «باسداران» مسافة ٢٠٠ كيلو متر داخل الأراضي العراقية وضربت مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في مدينة كويسنجق.

إضافة إلى هذه التدخلات العسكرية أصبحت المنطقة مأوى لمكاتب التجسس العالمي، ففيها مقرات للمخابرات الأمريكية، والمخابرات الإيرانية والمخابرات التركية إضافة إلى دول أخرى، ناهيك عن وجود ٤٥ منظمة صليبية تعمل بكل طاقاتها للتنصير، وتستغل حاجة الناس من الفقر والحرمان ومن الجهل والمرض، كما تستغل حاجة اليتامى والأرامل لتحقيق أهدافها الخبيثة.

ثم جاءت الحرب الأخيرة بين أنصار «مسعود البارزاني» وأنصار «جلال الطالباني» لتكون بمثابة المسمار الأخير في نعش هذا الكيان الضعيف، حيث احتلت قوات «جلال الطالباني» مواقع إستراتيجية من قوات «مسعود البارزاني»، وتدخلت إيران بنفوذها ودعمها في مناطق الحاج عمران وجومان فاختل ميزان القوى مما دفع «مسعود البارزاني» إلى الاستعانة بالجيش العراقي لاستعادة أربيل في ١٩٩٦/٨/٣١م.

أهداف أمريكا

واستغلت أمريكا هذه الفرصة لضرب العراق مرة أخرى لعدة أهداف من أهمها:

1. تحقيق أهداف خاصة في معركته الانتخابية، حيث يحب الشعب الأمريكي استعراض العضلات والقوى، وقد اتهم «كلينتون» بعدم قدرته على اتخاذ قرارات عسكرية، فانتهز الفرصة لضرب العراق بصواريخه وطائراته مما زاد من شعبيته بين المجتمع الأمريكي.

۲- تهديد إيران وتخويفها من المزيد من التغلغل داخل كردستان العراق ضرب تركيا اقتصاديًا من خلال تأخير ضخ البترول عبر أراضيها، حيث تتضرر تركيا مليارات من الدولارات بسبب الحصار الاقتصادي على العراق ومنع تصدير البترول العراقي إلى الخارج.

٤- ضرب مشروع «أربكان» في حل المشكلة الكردية والمشكلة الاقتصادية، وذلك لأن مشروعه في حل المشكلة الكردية كان يقوم على حل سلمي إقليمي من خلال كسب ثقة الدول المجاورة وهي العراق وإيران وسورية ثم الضغط من قبل هذه الدول على حزب العمال الكردستاني P.K.K وطرد أفراده وغلق مقراته، ومنع نشاطاته.

هذا من جانب، ومن جانب آخر إعطاء بعض الحقوق للشعب الكردي داخل تركيا، وإعادة قراهم ومدنهم التي دمرتها الحرب خلال السنوات السابقة، ولكن الذي حدث هو أن القيادة التركية «بإيعاز من أمريكا أو بدون إيعاز» استغلت المشكلة الأخيرة في كردستان العراق وقررت إنشاء حزام أمنى على الحدود وفي الأراضي العراقية بعمق ٥ - ٢٠ كيلو مترًا.

وهذا المشروع الأخير قضى تمامًا على مشروع «أربكان»، حيث قضى على الثقة التي كانت الدول المتجاورة تعتمد عليها، إضافة إلى أن هذا المشروع قضى على فكرة الحل السلمي، والمشروع الأخير قد أعاد الدور الأكبر لعسكر الترك وجنرالاته بدلًا من دور الفكر والسياسة.

وأما مشروع «أربكان» الاقتصادي فقد تأثر هو الآخر بالحوادث الأخيرة، وبالأخص ما يسمى بالحزام الأمني التركي، حيث إن هذا الحزام سوف يكلف الحكومة التركية مليارات من الدولارات قد تكون أكثر مما كانت تتكبده في السابق، إذ لا يمكن للحكومة الحالية أن تستفيد اقتصاديًا، بل تخسر أكثر من السابق، وبالتالي لم توفر شيئًا من ميزانية العسكر الصالح التنمية الاقتصادية، إضافة إلى تضرر تركيا من تأخير مشروع النفط مقابل الغذاء ومن الحصار الاقتصادي على العراق، واستفاد النظام العراقي هذه المرة من هذه الضربات الأمريكية إعلاميًا وسياسيًا على المستوى الداخلي والخارجي.

فعلى الصعيد الداخلي نجح تدخل الجيش العراقي لصالح الحزب الديمقراطي الكردستاني حيث استطاع الحزب إلحاق هزيمة كبرى بحزب الإتحاد الكردستاني، مما دفع بالأخير إلى أن يترك كردستان العراق، أو معظمها.

وهذه في حقيقته يعد نصرًا كبيرًا للنظام العراقي الذي فقد سيطرته على المنطقة منذ حوالي خمس سنوات، وبهذا قد أعيد فعلًا شمال العراق إلى سيطرة الحكومة المركزية في بغداد، حتى لو تمتعت المنطقة بالحكم الذاتي.

لم يكن تحقيق هذا النصر للجيش العراقي سهلًا في ظل ظروف وحدة الحزبين وبقائهما متألفين كما حدث في عام ۱۹۹۱ م و۱۹۹۲ و ۱۹۹۳، وذلك لأن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا كانت تريد إبقاء المنطقة على هذه الحالة الغريبة التي لم تكن منفصلة رسميًا ولكنها كانت مثل المنفصلة من حيث الواقع، فكان بالإمكان استمرار هذه الحالة عدة سنوات أخرى.

وعلى الصعيد الخارجي حقق النظام العراقي تقاربًا مع بعض الحكومات العربية، مما لا يستبعد تأهيل النظام العراقي ليقوم بدور في الجامعة العربية ونسيان الماضي بكل ما فيه من شجون ومصائب، وبالأخص مع الإحساس بالحاجة إليه في ظل الموازنات الدولية والإقليمية.

وعمومًا كما قال أحد السياسيين الكبار إن المشكلة في أن الطبخة لا تجهز داخل البيت العربي، أو الإسلامي، وإنما تجهز في الخارج وعلينا أن نتناوله ونثني على الطباخ الماهر مهما كان طعمه وريحه، ولكن هل تستمر هذه الحالة؟

 ... هذا هو السؤال!

(*) رئيس الرابطة الإسلامية الكردية.

الرابط المختصر :