; محمد الشاذلي النيفر .. من أعلام الزيتونة | مجلة المجتمع

العنوان محمد الشاذلي النيفر .. من أعلام الزيتونة

الكاتب قيس بن محمد آل الشيخ مبارك

تاريخ النشر السبت 08-ديسمبر-2001

مشاهدات 15

نشر في العدد 1480

نشر في الصفحة 48

السبت 08-ديسمبر-2001

  • كان مناضلًا شجاعًا مشاركًا في صناعة الأحداث التاريخية ضد الاستعمار فناله من الابتلاء ما ناله

  • أقام صلة قوية مع مختلف أقطار العالم الإسلامي وتشهد له بذلك أبحاثه القيمة التي قدمها أمام العديد من الملتقيات الإسلامية

أصيب العالم الإسلامي في 4/8/١٤١٨هـ بوفاة أحد صدور العلماء فيه وهو العالم الجليل المحقق الفقيه البحاثة المؤرخ الأديب الشاعر المتفنن في جملة من العلوم العقلية والنقلية الا وهو الشيخ محمد الشاذلي ابن العلامة قاضي الجماعة بتونس الشيخ محمد الصادق النيفر الحسيني نسبة إلى سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما. نزح سلفه آل النيفر من الأندلس مع الجالية التي الجاها الإسبان إلى الهجرة سنة ١٠١٦هـ واستقروا بمدينة صفاقس ثم رحلوا منها إلى تونس نحو سنة ۱۱۲۰هـ واستقروا بها إلى اليوم. 

وقد أخبرني الشيخ- رحمه الله تعالى- في آخر زيارة له بداره بتونس قبل ثلاثة أسابيع من وفاته أنه عندما زار باكستان لحضور أحد المؤتمرات التقى أحد الساسة الإسبان وأظنه سفير إسبانيا بباكستان فلما رأى لقب "النيفر" مكتوبًا على البطاقة المعلقة على ثوبه قال له: «إن هذا اللقب موجود عندنا بإسبانيا بمقاطعة نفار (NAVAR). 

ولد الشيخ- رحمه الله- سنة ١٩١١م بمدينة تونس في بيت علم و فضل، ونشأ في رعاية والده أحد أعلام الزيتونيين فأحسن تربيته على القيم الإسلامية الرفيعة والآداب العالية. 

شهادة التطوع

ففي بيته تعلم مبادئ العلوم الشرعيةواللغة العربية ثم التحق بالمدرسة القرآنية وفي عام ١٩٢٤م التحق بجامع الزيتونة المواصلة دراسته الثانوية متدرجًا في مراحلها بنجاح مميز حتى أحرز شهادة ختم الدروس الثانوية سنة ١٩٣٠م، وهي شهادة تؤهل صاحبها للتدريس بجامع الزيتونة بصفة متطوع، ولذلك تسمى شهادة التطويع وكان من جملة شيوخه بالزيتونة شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط- رحمه الله تعالى- ت (۱۹۳۷م) وقاضي الجماعة العلامة الشيخ محمد البشير النيفر- رحمه الله تعالى- ت ١٩٧٤م) وحصل على إجازة من العلامة الشهير شيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور- رحمه الله تعالى- ت (۱۹۷۳م. وفي سنة ١٩٣٤م باشر الشيخ محمد الشاذلي النيفر-رحمه الله- التدريس بجامع الزيتونة والمعاهد التابعة له، ولم يزل كذلك حتى سنة ۱۹۹۰م حيث أقعده المرض وقد كانت دروسه عذبة لطيفة في إشاراتها فصيحة في عباراتها، وكان لواسع علمه يأتي بالعجب العجاب لسامعيه فهو بحر علم يَعْبُ عُبابه ويغب ميزابه، وقد أكرمني الله بمشاهدة هديه وسماع كلامه وامتلأت عيني وأذني منه. 

وفي سنة ١٩٣٦م شارك في تأسيس جمعية الزيتونيين التي أنشئت لإعداد النشرات وتنظيم المحاضرات والاحتفالات بالمناسبات الدينية، وقد تولى- رحمه الله خطة الكاتب العام لهذه الجمعية. 

وفي سنة ١٩٣٧م ساهم في تأسيس الشبيبة الزيتونية التي ترمي إلى توحيد كلمة أبناء الجامع الأعظم. 

وفي سنة (١٣٦٥هـ / ١٩٤٦م) أكرمه الله بالحج إلى بيت الله الحرام، وكانت فرصة للقاء عدد من علماء المسلمين جمعهم هذا الموسم العظيم. وفي هذه المناسبة فكر الشيخ في دعوة حكومة المملكة العربية السعودية إلى حمل الجامعة العربية على الاشتغال بقضية الشمال الأفريقي بواسطة الشيخ حسن البنا- رحمه الله- فزاره زيارة خاصة، وحادثه في ذلك الشأن فقال الشيخ حسن: إن الملك عبد العزيز- رحمه الله- عين لي غدًا موعدًا للقائه. يقول الشيخ محمد الشاذلي: «فرجوته أن يبلغ ما رغبت من حمل الحكومة السعودية للجامعة العربية على النظر في قضية الشمال الإفريقي بجدية، فواعدني بذلك وعين لي أن أتي إليه ليخبرني بنتيجة لقائه فأتيته من الغد فأجابني بقبول الرغبة من الملك عبد العزيز- رحمه الله تعالى.

جريدة الزيتونة

وفي سنة ١٩٥٣م أسس الشيخ جريدة الزيتونة الأسبوعية واختص بتحرير افتتاحيتها ليكتب عن هموم الأمة والمطالبة بإصلاح الزيتونة والذب عنها مما عرضها للإيقاف عن الصدور ،مرتين وفي الثالثة أوقفت نهائيًّا، وذلك في سنة ١٩٥٧م. كان- رحمه الله- طيلة حياته مناضلًا شجاعًا يدفعه إيمانه بما يعتقد أن يقف مواقف الرجال في أحلك الفترات، فكانت له مشاركات في الأحداث التاريخية التي وقعت أثناء فترة الاستعمار، فكان فاعلًا للأحداث صانعًا لها ولذلك لم يكن مستغربًا أن يناله الابتلاء وذلك حين تولى إدارة المدارس الزيتونية لسكنى الطلبة فاستاءت منه السلطة الاستعمارية فتعرض بيته للتفتيش، وألقي عليه القبض ثم وضع رهن الإقامة الجبرية. وبعد الاستقلال شارك في الحياة السياسية، حيث انتخب سنة ١٩٥٩م نائبًا بمجلس الأمة الأول وترأس الجلسات الافتتاحية في دورات عدة، وكان محل إكبار الجميع لمواقفه الثابتة وشجاعته غير أن كفاح الشيخ لم يشغله عن مهامه الدعوية والإرشادية والتعليمية، فقد تولى الإمامة والخطابة بجامع باب الأقواس بتونس منذ سنة ١٩٤٦م، وظل داعيًا إلى الله مرشدًا وموجهًا آمرًا وناهيًا، وكان لخطبه الأثر الكبير في نفوس المصلين فلم يترك الخطابة بهذا الجامع حتى أيامه الأخيرة وفي سنة ۱۹۷۷م انتخب عميدًا للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين فأظهر براعة فائقة في حسن الإدارة بهمة عالية وعمل دؤوب، فاجتمعت القلوب عليه فأعيد انتخابه مرة أخرى. 

وكان نشاطه موزعًا بين العمل الإداري والتدريس وإلقاء المحاضرات خارج الكلية في المناسبات المتنوعة، وقد تسلم عمادة الكلية وبها أربعمائة طالب فقط، فارتفع العدد إلى ألف ومائتي طالب وطالبة، أغلبهم من تونس وفيهم طلاب من مختلف البلاد الإسلامية وقد تولى- رحمه الله- تجديد البرامج التعليمية، بحيث أصبحت تتناسب مع المستوى التعلمي للطلبة الحاصلين على شهادة الثانوية عامة بعد أن انقرضت طبقة الشبابالزيتوني. ثم إنه وسع دائرة التعليم في الكلية وأنشأ أقسامًا جديدة أثرى بها الكلية، ولم تكن الكلية يومها تسير وفق قانون رسمي ينظم الدراسة بها فبادر إلى وضع هذا القانون واستصدر أمرًا ينص على اعتبار الكلية الزيتونية مؤسسة جامعية تعنى بالدراسات والبحوث الإسلامية وفي سنة ١٤٠٠هـ أقام مهرجانًا علميًّا كبيرًا بمناسبة مرور ثلاثة عشر قرنًا على تأسيس جامع الزيتونة، حيث ألقيت بحوث قيمة بهذه المناسبة 

وقد أكرم الله الشيخ بأن حبب إليه العناية بالقرآن الكريم، فأولاه عناية خاصة، حيث رأس الجمعية القومية للمحافظة على القرآن كريم قبل أكثر من خمس وعشرين سنة، فكان يسعى في توفير الاعتمادات المالية لها من تونس وخارجها. وكان يطوف بنفسه للإشراف على الإملاءات الليلية التي تنظمها الجمعيات القرآنية بمختلف مساجد تونس وأنشأ ملاءات قرآنية صيفية صباحية لتلاميذ السنتين الخامسة والسادسة من التعليم الابتدائي وكامل مراحل التعليم الثانوي وكانت هذه الإملاءات تختتم بامتحان في الحفظ والتلاوة توزع فيه الجوائز للفائزين وقد نظم- رحمه الله- مباراة قومية سنوية لحفظ كتاب الله تعالى يقام لها حفل كبير ينتظم في العاصمة تونس خلال شهر رمضان المعظم إلى اليوم. 

أقطار العالم الإسلامي

وكان- رحمه الله- على صلة قوية بمختلف اقطار العالم الإسلامي، حيث يحرص على المشاركة في الملتقيات الإسلامية تشهد له بذلك أبحاثه ومداخلاته القيمة، وكان محل إكبار وتقدير وإجلال، فهو عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه التابع لها، وقد شارك في أغلب ندواتها أما جهوده العلمية، فتتمثل في المصنفات 

التي نافت على العشرين بين تأليف وتحقيق. 

فمنها تفسير مدرسي لجزء عم وتبارك. ومنها شرح همزية الإمام البوصيري 

ومنها حكم التجنس قال عنه : ذهبت فيه إلى أن الأمم الإسلامية إذا وقع البعض منها تحت حكم الكفر لا يبارحون ديارهم، لأن ذلك مؤد إلى إقرار الكفرة في ديارهم كما وقع في الأندلس ومنها تقديم وتحقيق كتابمسامرات الظريف بحسن التعريف للشيخ أبي عبد الله محمد بن عثمان السنوسي، وهو كتاب ألم بالحياة العلمية والأدبية بتونس في أربعة أجزاء 

ومنها تقديم وتحقيق أول شرح الصحيح مسلم وهو كتاب "المعلم بفوائد "مسلم" للإمام أبي عبد الله المازري- رحمه الله تعالى- في ثلاثة أجزاء، وقد صدره بدراسة مستفيضة ظهر من خلالها عظيم قدر الشيخ في الفقه والحديث والعقائد والتاريخ وله ما يزيد على خمسين بحثًا في شتى العلوم. 

فمنها أحاديث في فضل إفريقية ومنها عناية أهل المغرب بصحيح مسلم ومنها تفتح الفقه الإسلامي على الحياة الإنسانية، وله ديوان شعر في جزأين يدل على أنه شاعر من الطراز الأول. 

فيقول في مطلع قصيدة نبوية يخاطب حضرة المصطفى- صلوات ربي وسلامه عليه- 

وأشرق في مدح الجناب طلوعها                     أتتك القوافي قد حداها نزوعها
 أعز القوافي إنني لا أضيعها                          أنزه شعري أن أشيد بغيركم
 

وكان للشيخ- رحمه الله . ولع شديد بجمع نوادر الكتب من مخطوط ومطبوع حتى بلغ ما لديه اثني عشر ألف كتاب مطبوع وثمانمائة مخطوط منها مالا يوجد في غير هذه المكتبة. 

ومن نُبل هذا الإمام وكرمه وفضله أن حرص على حفظ هذه الكتب وتسهيل الوصول إليها للباحثين فبني من حر ماله بناء جميلًا، جعله بيتًا لهذه الكتب، ثم استأجر من يقوم بترتيبها وفهرستها واستعان بالحاسب الآلي في ذلك، وجعل لها من يقوم عليها تيسيرًا للمطالعة فيها لمن شاء من الباحثين. وقد تم افتتاح هذه المكتبة في الثاني من جمادى الآخرة من عام ١٤١٢هـ، وأقيم في ذلك حفل بحضور عدد كبير من رجال العلم والفكر والأدب. 

هذه ومضات يسيرة من سيرة هذا العلم المفرد، وإن في حياته جوانب مضيئة أخرى لو تركت للقلم مجالًا. رحم الله فقيد الأمة وجبر مصابها فيه ..

الرابط المختصر :