العنوان محمد إقبال في ذكراه المئوية
الكاتب أبو الحسن علي الحسني الندوي
تاريخ النشر الثلاثاء 27-ديسمبر-1977
مشاهدات 16
نشر في العدد 380
نشر في الصفحة 24
الثلاثاء 27-ديسمبر-1977
كلمة
قبل أيام، احتفل العالم عامة، والعالـم الإسلامي خاصة، بذكرى مرور مئة عام على مولد الشاعر الإسلامي المفكر الدكتور محمد إقبال.
ويعجب المرء، حين يتلفت في أنحاء العالم العربي، يبحث عن مهرجان يقام تكريمًا لهذا الشاعر المسلم فلا يجد، ويقلب عشرات المجلات، الثقافية والفكرية والأدبية فلا يظفر بواحدة منها أصدرت عددًا خاصًا عن إقبال، بل وكثير منها أغفلت ذكره، وكأنها لا تنتمي إلى هذه الأمة ولا تتحدث عن فكرها وأدبها.
كتب - توماس كارلايل - عام ١٨٤١ يقول: لو أجبرنا نحن الإنجليز أن نختار بين التنازل عن إمبراطورية الهند أو الشاعر شكسبير لاخترنا الاحتفاظ بشكسبير، إن الإمبراطورية الهندية ستذهب في يوم من الأيام، ولكن شكسبير سيبقى معنا إلى الأبد، إننا لا نستطيع التخلي عن شكسبير، ولكننا - نحن المسلمين - نتخلى عن إقبال دون أن نخير بينه وبين غيره.
يقول محمد علي جناح - لو خيرت بين الرئاسة العليا للدولة وكتب إقبال، لاخترت كتب إقبال.
وإذا كان المفكرون والأدباء العرب قد بهرهم بريق الغرب وعلومه فغشيت أبصارهم عن رؤية أدباء أمتهم ومفكريها، فإن إقبالا يقول لهم:
- لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي ويعشي بصري لأنني اكتحلت بنور المدينة المنورة.
رحم الله إقبالًا، وأيقظ أدباء العرب ومفكريهم من رقدتهم.
أيها السفراء والقناصل تعلموا من إقبال
أرادت الحكومة الهندية ذات مرة أن تبعثه إلى أفريقية الجنوبية كممثل لها، وعُرض عليه هذا المنصب المحترم رسميًا، شريطة أن لا تحافظ زوجته على الحجاب وترافقه في جميع المناسبات الرسمية سافرة، ولكن إقبالًا رفض هذا المنصب، وصرح للحاكم الإنكليزي - ولنجدن - قائلًا: إنني رجل مذنب ولا شك، مقصر في أداء أحكام الشريعة، غير إنني لا أبلغ من الوقاحة إلى حد أتجاوز فيه حدود الشريعة لمجرد أن تقلدوني منصبًا من مناصب الدنيا.
ترى أعينهم تفيض من الدمع
الشائع عن إقبال أنه كان مسلمًا عقائديًا لا علاقة له بالعمل ولعل مصدر هذه الظنة هو نفسه، لأنه كان يتجه إلى إخفاء حاله الحقيقية، والتظاهر بحياة منطلقة، وهو يستلذ في ذلك، لقد كان شغوفًا بتلاوة القرآن ويقرؤه بترتيل جيد كل صباح. ولما تقدم به السن بلغ من رقة القلب إلى أنه لم يكن يبدأ قراءة القرآن إلا ويأخذه البكاء فيبكي ويجهش كما كان يخشع في الصلاة بالغ الخشوع.. وكل ذلك في خفاء لا يدريه الناس، بل كانوا يرونه رجلًا مقصرًا في أداء أحكام الشريعة.
أحرقوا الكتب
قليل من الناس يعرفون أن إقبالاً انقطع عن كل كتاب إلى دراسة القرآن في آخر حياته. وقد توصل بعد عكوفه الطويل على دراسة كتب العلوم والفنون - إلى أن العلم الحقيقي إنما هو القرآن، فمن أدركه استغنى عن كل كتاب في العالم.
أيها الاشتراكيون تعلموا من إقبال
دعا أحد أثرياء البنجاب ذات مرة محمد إقبال والمحامي سر فضل حسين وبعض كبار المحامين للاستشارة في قضية قانونية، وأنزلهم في قصره الفخم، فلما أراد إقبال أن ينام في الليل ودخل غرفته التي جهزت له.. رأى أسباب النعمة والراحة وأدوات الترف والزينة موجودة في الغرفة، ووجد تحته فراشًا وثيرًا ناعمًا فإذا بخاطر يخطر على قلبه ويزعجه: لقد تمثلت له حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان ينام على الحصير، وهنالك لم يملك عينيه وبدأ يبكي ويبكي وما استطاع البقاء في ذلك الفراش، فنهض ودخل الحمام حيث جلس على كرسي وتمادى في البكاء ولما هدأت نفسه نادى الخادم وأمر بإحضار سريره وفراشه المتواضعين وظل ينام عليهما في الحمام مدة إقامته في القصر. كان الناس يرونه في بذلته وما كانت أنظارهم تنفذ إلى المؤمن الذي كان يختفي وراء أثوابه، إنه لم يكن كأولئك الاشتراكيين الذين يتظاهرون بالفقر والسذاجة ويتألمون للفقراء، لممارسة سياستهم الاشتراكية في الجماهير، ولكنهم يعيشون عيشة الأثرياء والملوك عندما يختفون عن أنظار الشعب.
أبو الأعلى المودودي
نظرة محمد إقبال إلى الآداب
الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي
للدكتور محمد إقبال آراء حصيفة في العلوم والآداب والشعر، هي عصارة تفكيره وتجاربه، منها أن الأدب موهبة كبيرة من مواهب الله وقوة عظيمة، يحدث به صاحبه انقلابًا في المجتمع، وثورة فكرية يضرب به الأوضاع الفاسدة الضربة القاضية، ويشعل القلوب حماسة وغضبًا، ويشعل البلاد نارًا وثورة، ويملأ النفوس قلقًا واضطرابًا، وتذمرًا من الشر، وتطلعًا إلى الخير فلا بد أن يكون في قلم الأديب والشاعر التأثير الذي كان في عصا موسى، وأن يؤدي رسالته في العالم.
وكل أدب استغل لجمع المادة، أو إرضاء الأغنياء والأثرياء، أو إثارة الشهوات، أو على الأقل كان أداة للهو والتسلية والتذوق بالجمال والتغني به، فهو أدب ضائع، مظلوم استعمل لغير ما خلق له، ولغير ما وهب له، يقول في بيت: «أنا لا أعارض التذوق بالجمال والشعور به، فذلك أمر طبيعي، ولكن أية فائدة للمجتمع من علم لم يكن تأثيره في المجتمع كتأثير عصا موسى في الحجر والبحر».
ويعتقد محمد إقبال أن الأدب لا يصل إلى حد الإعجاز حتى يستمد حياته وقوته من أعماق القلب الحي، ويسقى بدمه.
ويرى محمد إقبال أن الأدب في الشرق الإسلامي قد أصبح تتحكم فيه المرأة، فأصبح لا يتحدث إلا عنها، ولا يتغنى إلا بها، ولا يبحث إلا فيها ولا يصور إلا إياها، ولا يرى في الكون إلا ظلها وجمالها، وهذه عقيدة جديدة في «وحدة الوجود»! التي يمكن أن تسمى الوجودية الأدبية، وكان الأدب المصري ينادي بلسان حاله، (لا موجود إلا المرأة) أو (لا موجود إلا الفتاة) يقول محمد إقبال:
«أسفًا للشعراء والرسامين وكتاب القصة في بلادنا، لقد استولت على أعصابهم المرأة» ولا شك أنه تصوير صادق للاتجاه الأدبي العام في الشرق الإسلامي، واندفاع الأدب المتهور وراء المرأة، وهيامه بها، وإعراضه عما سواها.
وله في الفلسفة وعلوم الحكمة كذلك رأي خاص، فهو يرى أن الفلسفة لا تعيش إلا بالجهاد والتضحية، وأن الفلسفة التي تقتصر على الدراسات والبحوث العلمية، وتتلهى بالمناقشات اللفظية ومباحث ما بعد الطبيعة ولا تدخل في صميم الحياة ولا تتعرض للمجتمع، وتعيش في العزلة عن العالم، إنما هي فلسفة منهارة لا تستطيع أن تعيش، يقول في بيت «إن الفلسفة التي لم تكتب بدم القلب فلسفة ميتة أو محتضرة».
وجه إليه أحد الرجال يومًا، أسئلة من الفلسفة وطلب منه الإجابة، فكان جلساؤه ينتظرون منه أن يفتح خزانات الكتب ويبحث عن حلولها في بطون الكتب الضخمة، ولكنهم قضوا من العجب حينما رأوا الخزانات ظلت مقفلة، وجلس إقبال يملي الإجابة عن تلك الأسئلة من القرآن.
ربانيون
لم يزل حب النبي صلى الله عليه وسلم يزيد ويقوى مع الأيام في قلب إقبال حتى كان في آخر عمره إذا جرى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه أو ذكرت المدينة على منورها ألف سلام - فاضت عينه ولم يملك دمعه. وقد ألهمه هذا الحب العميق، معاني شعرية عجيبة. منها قوله وهو يخاطب الله سبحانه وتعالى: «أنت غني عن العالمين وأنا عبدك الفقير، فأقبل معذرتي يوم الحشر. وإن كان لابد من حسابي، فأرجوك يا رب أن تحاسبني بنجوة من المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإني استحي أن أنتسب إليه وأكون في أمته، واقترف هذه الذنوب والمعاصي».
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل