; مذكرات صفحات من دفتر الذكريات (٦١) تونس زيارة ثالثة في عام ١٩٦٦م | مجلة المجتمع

العنوان مذكرات صفحات من دفتر الذكريات (٦١) تونس زيارة ثالثة في عام ١٩٦٦م

الكاتب الدكتور توفيق الشاوي

تاريخ النشر الثلاثاء 22-أغسطس-1995

مشاهدات 39

نشر في العدد 1163

نشر في الصفحة 48

الثلاثاء 22-أغسطس-1995

  • الهجوم على الإسلاميين ساهمت فيه، ومهدت له واستفادت من قوى أجنبية عالمية وصهيونية.. ونفذته الحكومات المحلية

لم أكن بمصر عندما بدأت محنة «الإخوان المسلمون» على يد السعديين في عام ١٩٤٨م، لكن هناك دلائل كثيرة أكتشفتها فيما بعد، وأقنعتني بأن الهجوم على الإخوان في مصر عام ١٩٤٨م ثم في عام ١٩٥٤، وعام ١٩٦٥م قد ساهمت فيه، ومهدت له، واستفادت منه قوى أجنبية عالمية متعددة أولها الصهيونية، فلم يكن حادثًا محليًا من صنع عبد الرحمن عمار، أو إبراهيم عبد الهادي، أو جمال عبد الناصر، أو علي صبري، أو غيرهم ممن يُوقعون على قرارات بحل «الإخوان المسلمون» ما زلت أعتقد أنها قد أعدت في أروقة المخابرات الأجنبية المعادية للإسلام، ودهاليز مخابرات بعض الحكومات والدول الأوروبية أو الأمريكية، ولم يكن الذين وقعوها أو أعلنوها من الحكام إلا أدوات لتنفيذها سواء علموا أو لم يعلموا، وسواء كانوا مخدوعين أو متواطئين مع تلك القوى الأجنبية مثلها في ذلك مثل قرارات إلغاء الجامعات الإسلامية في ليبيا والسودان وفاس - أو ما يسمى «تطويرها» في الأزهر.

في عامي ١٩٦٥م، ١٩٦٦م، أعلنت الحكومة العسكرية الناصرية الحملة على الإخوان للمرة الثالثة في خطاب ألقاه عبد الناصر في «موسكو»، وليس معنى ذلك أنها كانت لصالح الكتلة السوفييتية وحدها، بل إن القوى الاستعمارية الغربية والصهيونية قامت بدور كبير في التمهيد لها وتشجيعها وتدبيرها والاستفادة منها، وإنها دفعت أعوانها في كثير من الحكومات العربية الموالية لها للمساهمة فيها - وما زالت تفعل ذلك للآن.

مستشار يهودي وراء خروجي من المغرب

وقد لاحظت ذلك في المغرب الذي كنت أقيم فيه بعيدًا عن مصر، حيث رُسِمت خطة إخراجي منه بواسطة الجنرال أوفقير والمستشار اليهودي المغربي مكسيم اوزلاي، رغم عدم علم الملك أو الحكومة بذلك، مما أضطرني للبحث عن بلد آخر أعمل به، وقد أتجهت إلى التعاقد مع ليبيا بعد أن دعاني لذلك وشجعني صديقي الدكتور محمود أبو السعود الذي سبقني إلى ليبيا، كما سبقني من قبل إلى المغرب – وتحمس لذلك بحُسن نية صديقي السيد: منصور قدارة، الذي كان سفيرًا بالمغرب، ثم صار وزيرًا للمالية في ذلك الوقت، ودعاني لزيارة ليبيا، وقدمني إلى عدد من الوزراء الذين كانوا حريصين على التعاقد معي، ومع ذلك لم يتم التعاقد، لكن بعضهم أسر إليّ في حديث خاص أن الأمر انتهى إلى رفض ترشيحي، وأن مصادر خارجية غامضة هي التي أوعزت بذلك، فهمت أن لها علاقة بمخابرات وسلطات مصرية وأجنبية، واستسلم بعض حكام ليبيا في ذلك الوقت لتوجيهاتها، فخرجت منها غاضبًا ساخطًا على نفاق بعض حكامها، وأخشى أن أكون قد دعوت عليهم فابتلاهم الله بمن هو أسوأ من عبد الناصر، وقاسوا منه الأمرين، وأذكر أنني دعوت بعد ذلك على اللبنانيين عام ١٩٦٦م، بعد أن رأيت منهم ما رأيت، فانتقم الله منهم بهذه الفتن والحروب الأهلية التي لا تنتهي، لأنهم باعوا ضمائرهم وتخلوا عن جميع القيم الأصيلة، وقام فريق منهم باعتقالي والتآمر عليّ من أجل المال الذي كانت المخابرات الناصرية تنفقه بغير حساب لشراء العملاء لها في لبنان.

أخترت في صيف عام ١٩٦٥م التعاقد مع السعودية، وأنتقلت إليها فعلًا، ولكن بعض القوى الخفية استطاعت الإيقاع بي عند مروري في بيروت، حيث أعتُقلت تمهيدًا لنقلي إلى مصر بوسيلة غامضة من أجل تعطيل ما أقوم به لمتابعة محاكمات سيد قطب وإخوانه في مصر، والتعاقد مع محامين للدفاع عنهم. 

وقد نجاني الله من هذا الكمين الذي خصصت له كتيبًا آخر، لكنني بعد خروجي من سجن  بيروت، ذهبت إلى أوروبا أبحث عن موطئ قدم أستطيع أن أواصل مهمتي، لكي أقوم بشيء لصالح هؤلاء المعتقلين في مصر، فاقترح عليّ بعض أصدقائي أن أذهب إلى تونس؛ لأنها في ذلك الوقت كانت في أسوأ علاقاتها مع حكام مصر العسكريين، ولكنك مضطر إلى الذهاب إليهم؛ لأنهم يعارضون سياسة حكام مصر، وأنت لم تعد مرغوبًا فيك بالمغرب ولا بالجزائر، ومصر تطاردك، وسوريا كذلك، ولبنان قد أخرجتك بعد السجن، وحكمت عليك بالحبس غيابيًا.

فكل الشواطئ العربية مغلقة في وجهك، وتونس هي الثغرة الوحيدة التي تستطيع أن تمر فيها، ومع ذلك فلن تستطيع الذهاب إليها إلا من أوروبا. ولن تستطيع السفر من السعودية إلى أوروبا إلا عن طريق اسطنبول، فلا تقلق على نفسك من هذه الزيارة، لأن الجميع يعرفون أن سياسة بورقيبة علمانية، لا دينية، فلن تُتهم بالتحالف معه أو العمل لحسابه.

بورقيبة يعتقل الإسلاميين

زرت تونس للمرة الثالثة في شهر يوليو ١٩٦٦م الذي كانت فيه محاكمات سید قطب وإخوانه في أسوأ مراحلها، فالمحامون المغاربة الذين أعتمدت عليهم لم يستطيعوا الذهاب إلى مصر بسبب إعتقالي في بيروت، لكن ذهب فعلًا ثلاثة محامون من السودان فطرودا وأُخرجوا من المحكمة إلى المطار بالقوة البوليسية، ومُنعوا بذلك من حضور الجلسة، لكن مندوب منظمة العفو الدولية حضر الجلسة، وقدم تقريرًا أدان فيه وسائل التعذيب والإرهاب التي أُستُعملت في التحقيق، والصحافة العربية الوحيدة التي نشرت هذا التقرير وشهّرت بأساليب الحكم العسكري المستعملة ضد الإخوان هي الصحافة التونسية، وزادت حملتها على دكتاتورية عبد الناصر ودفاعها عن سيد قطب بعد وصولي لتونس، إذ صدر بيانات بهذا المعنى من مجلس النواب ومن الحزب البورقيبي، واستقبلني بورقيبة وأعلن تضامنه هو وحزبه وبلاده مع الإخوان في مقاومتهم للحكم العسكري الناصري، وأُرسلت برقيات بهذا المعنى إلى مصر، ومن تونس ذهبتُ للمغرب لأعمل ما أستطيع لإنقاذ سيد قطب من تنفيذ الحكم عليه بعد أن صدر الحكم بإعدام سيد قطب وعدد من زملائه وأنا في طريقي للمغرب، ولكني لم أيأس، وسعيت في المغرب محاولًا أن يتوسط بعض قادتها لمنع تنفيذ الحكم، ولكني بكل أسف سمعت نبأ تنفيذ الحكم وأنا في المغرب، فبكيت وبكى كثيرون آخرون.. فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ورغم أن وقوف حكام تونس بجانبنا في هذه المحنة، لم يأت بأية نتيجة لصالح الإخوان في مصر في ذلك الوقت، إلا أنني أستفدت من ذلك وأعتمدت عليه عندما ذهبت إلى تونس للمرة الرابعة والخامسة في محاولة للتوسط لدى المسئولين هناك لصالح الشيخ راشد الغنوشي، والشيخ عبد الفتاح مورو، وغيرهما من زعماء التيار الإسلامي الذين تنكر لهم بورقيبة وأعلن عليهم حربًا لا تقل ضراوة عن الحرب التي أعلنها عبد الناصر وغيره من حكام مصر على الإخوان.

لقد قلت لبورقيبة عندما حدثته بشأنهم: «إنك كنت مؤيدًا للإخوان، ومدافعًا عن سيد قطب في عام ١٩٦٦م، والآن تعتقل أعضاء الاتجاه الإسلامي متهمًا إياهم بأنهم من الإخوان أو «إخوانجية» على حد تعبير الصحافة عندكم......»

قلت له: «إن صحافته تصف المنتمين إلى الاتجاه الإسلامي بأنهم «إخوانجية» وهي نفس العبارة الغوغائية التي استعملتها بعض أجهزة الإعلام في مصر أثناء حملتها على الإخوان» فرد علي قائلًا: «إن الإخوان في مصر متنورون، أما دعاة الاتجاه الإسلامي في تونس فهم جماعة رجعية يحركها مشايخ الزيتونة التقليديون».

ولم أذهب للجزائر، ولكن جماعة القيم قامت بحملة كبيرة للدفاع عن الإخوان بعد اتصالي برئيسها صديقي الأستاذ الهاشمي التيجاني- وبعد شهر واحد- من إعدام سيد قطب قررت حكومة بومدين حل جمعية «القيم (۱) [1]التي كانت المنظمة الإسلامية الوحيدة في بحر الحكم الشمولي الاشتراكي الذي بدأه بن بيلا في حكومته الأولى بعد الاستقلال.

بومدين يحل جمعية القيم الجزائرية

وفي عام ۱۹۷۰ (۲[2]) أعادت الحكومة الجزائرية برئاسة بومدين إصدار قرار حل جمعية «القيم»، ومنع نشاطها في جميع أنحاء الجزائر، بعد أن استطاعت تطبيع علاقاتها مع الناصريين، وبذلك تم حصار الحركة الإسلامية في العالم العربي الذي رسمت له ونفذته حكومات وطنية بتحريض وتشجيع قوى أجنبية من أجل تنفيذ خططها الاستعمارية؛ ومن أجل تدعيم إسرائيل والنفوذ الصهيوني في الشرق الأوسط، وإذا كانت قد نفذته حكومات عربية محلية، فقد كان ذلك لغرض وقتي أناني محلي محدود هو الحصول على رضا هذه القوى الأجنبية الذي كان في نظرهم شرطًا لبقائها في السلطة أو فرض دكتاتوريتها رغم إرادة شعوبها معتمدة على المساعدات والقروض والدعم السياسي للقوى الأجنبية التي تعلم وتصرح بأن لها مصلحة أكيدة في القضاء على الإخوان ومقاومة الاتجاه الإسلامي، وكان أولها فرنسا التي كانت تخشى الصحوة الإسلامية في الأقطار الأفريقية الخاضعة لها أو التي لها نفوذ ثقافي واقتصادي وسياسي فيها.

بورقيبة يفرض شرب النبيذ

بعد اغتيال صالح بن يوسف، نجح بورقيبة في تصفية كل من عارضه داخل تونس وخارجها، وتمت له السيطرة على شعب تونس بصورة كاملة، حتى أنه عدّل الدستور في ١٠ مارس عام ۱۹۷۵م، ليكون رئيسًا لتونس مدى الحياة، واعتقد هو وأنصاره أن كل تراب تونس ورمالها وشجرها ونباتها يسبح بحمده أو يسجد له، وأنه لا يوجد في أرض تونس شخص واحد يجرؤ على تحدي زعامته أو نقد سياسته فطغي وتجبر، حتى أن مستشاري السوء زينوا له أن يتطلع إلى مقام النبوة والقداسة، وأصبحت مهمة الإذاعة التونسية أن تفرض على مستمعيها أغلب الوقت خطبه وتصريحاته ومدائحه، وفي صباح كل يوم بعد أن تقدم الإذاعة التونسية دقائق معدودة من فرقة تغني إحدى المدائح النبوية في مدح الرسول الكريم إذا بنفس الفرقة تشنف أسماعهم مدة نصف ساعة بمدح «بورقيبة» وذكر أمجاده وبطولاته بأغاني وأناشيد وتُسمي ذلك: «مدائح وطنية» ولم يكتف بالدعوة لإفطار رمضان بل أحل للناس شرب النبيذ، وفرضه عليهم بحجة أنه مصنوع في تونس، ولأن فرنسا أوقفت استيراده في فترة من الفترات للضغط على الحكومة التونسية، فرأى بورقيبة أن يدعو شعب تونس إلى شربه حتى لا يضطر لإلقائه في البحر، فأصبح شرب النبيذ في دعاية حزبًا وطنيًا لصالح الاقتصاد الوطني مثل الإفطار في رمضان.

 

  1. صدر بهذا الحل قرار من محافظ ولاية العاصمة الجزائرية في 12/9/1966

  2. صدر بهذا الحل الشامل لجميع إقليم الجزائر، قرار وزاري في 17/3/1970

الرابط المختصر :