العنوان مذكـرات السلطان عبد الحميد.. آخر خليفة إسلامي (الحلقة السادسة)
الكاتب محمد حرب عبد الحميد
تاريخ النشر الثلاثاء 14-أكتوبر-1975
مشاهدات 19
نشر في العدد 270
نشر في الصفحة 42
الثلاثاء 14-أكتوبر-1975
مذكـرات السلطان عبد الحميد
مذكرات آخر خليفة إسلامي (الحلقة السادسة)
7 مارت 1333
قصـــر بيلربي
يعني أنه «1» كان يتصـور أن الملك مرهون بوجــــوده، وأن الدولـــة العثمانية العظيمة ستغرق بمجـــرد ذهابه. فهل علم بأن لم يحدث شيء مما تصوره؟ لا الشعب ثار، بــل ولم يبحث عنه، ولا أحد من أقــرب الأقربين إليه رفع صــــوتًا، لكن الدول الخارجية -بالطبع- تأثرت بهذا، وحدث فيها رد فعل، فقامت الدنيا وقعدت في إنجلترا، وكتبــت الصحف هناك بأنه لا يمكن توقــــع شيء من إصـلاح الدولــة العثمانية بعد ذلك على الإطـلاق.
كنت أعرف أن هذا ســـيحدث، وكنت أتوقعه، فمن الطبيعي -وقد تعاون مدحت باشــا مـــع إنجلترا وأيدها- أن تعاونه وتؤيده. کــان الإنجليز يعرفون أن الإصلاحات التي يوصون بها من شأنها أن تغــــرق الدولة العثمانية ســـــريعًا، تمامًا مثلمــا أعرف أنا. فهل يا ترى كان مدحت باشا يعرف هذه الحقيقة؟
إذا كانت الإصلاحات هي الأمـــر الذي ينقذ الدولة العثمانية، فقــد أحيطت الدول الكبرى علمًا وكتابـــةً بالإصلاحات المتصــــور قيامهــا، والمعلنة في الدستور الأساسي، وذلك أثناء مباحثات هذه الدول في «الترسانة»، على هذا كان يجب على إنجلترا وهي تنظر إلى فم السفير الروسي ألا تطالبنا باستقلال بلغاريا وإعطـــاء الأرض للصـرب والجبل الأسود، لأننا قبلنا كل ما أوصت به وبدأنا تطبيقه.
والحقيقة أن الإنجليز كانوا أكثــر من الروس في إجبارنا على هـــــذه التوصيات المستحيلة، وقد سـحبوا مندوبيهم من إستانبول لأننا رفضنا اقتراحاتهم المهدرة للكيان، ودخلوا في حالة حرب، ثم أبدوا لنا صداقتهم بعدم إرسال قواتهم لمحاربتنا، مقابل تنفيذ رغباتهم، وهـــذا كل مــا استطاعوا عمله.
ولكن عندما يصل الأمر إلى إبعاد مدحت باشا -الذي يعتبرونه رجلهم- فإن الإصلاحات تكتسب فجـــأة أهمية خاصة، وكأنهم يقولون: إن إبعاد الرجل الأوحد الذي يستطـــيع النجاح في هذا العمل عن موقعــــه، يعتبر موتًا للدولة العثمانية.
سمعت ما قاله الذئب للحمل الذي يشرب الماء، وكنت أعرف أن الإنجليز ينظرون باشتهاء إلى مصــر. ليت صدري الأعظم مدحت باشا كان يعرف ذلك مثلما كنت أعرف!
حتى ولو كان يعرف، فهل سيتجه نحو إنجلترا مباشرةً ويكتب الخطابات من هناك، ويتدخل في شؤون الدولة لو عرف؟ وأهم من ذلك: لو عـــرف حدوده، فهل كان سيتكئ بذراعه على مائدة وزير الخارجية الإنجليزية أثناء مقابلته سفير الدولة العثمانيــة موسوروس باشا؟ آه.. المعرفــة أمر صعب، ولا ســـيما معرفــة الحدود، وكم هي مشكلة!
ولكني أردف قائلًا وفـــورًا: إن السلطان يعني العفو، ولا يعــــني توقيع الجزاء. وبهذا أيضًا أمر ديننا، فإن إصلاح إنسان، وجعله يسير في الطريق السوي، أسمى من ألـــف عمل خــير.
الواقع أن مدحت باشا لم يكــن مخطئًا من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، وإنما يرتكب الخطأ بين حين وآخر.. كانت فيه ميزة رجل الدولة.
كان يبرع في أداء بعض الأعمال، فقد تم اختباره في منصب الوالي وبيض وجه الدولة في الأماكن التي عين فيها، صدرت منه -وهو في المراكز العالية في الدولة- بعض الأعمال المحظورة، إلا أنه أمكن الإفادة منه ومن خبرته، ولم أكن أتصور أنه عميل للإنجليز، وإلا لما كنت أستدعيه وأعينه واليًا على سوريا، ثم أرسلته بعد ذلك إلى أزمـــير.
لو كنت أعرف أنه اشترك في قتل عمي ما كنت استدعيه من أوروبا، وما كنت أسند إليه وظائف جديدة، لكن تحقيقًا كنت أمرت به في هـــذا الموضوع، كشف عن اشتراك مدحت باشا في هذه العملية.. إن قتــل سلـطـان مخـلـوع لأسـبـاب شـخـصـيـة، أو مساعدة القتلة، أو حتى التستر على معلومات بشأنه، لجرم كبير ضـد الدولة وضـد الأسرة الحاكمة، ولم أستطع إغماض عيني، وأذنـــت بإجراء المحاكمة.
ليتني ما فعلت، وليتني حتى لم أستدعه من أوروبا إطلاقًا، لأنـــه بمجرد أن فهم أنه سيمثل أمام العدالة، نسي أنه وزير عثماني، وتصـــرف تصرفًا يظهره كمجـــرم عات رابط الجأش. اتجه مباشرةً إلى القنصلية الإنجليزية، وجد أن القنصل فــي عطلة، فلجأ إلى القنصلية الفرنسية واحتمى بها.
ولم يكن ثمة دليل أكثر إدانة، فإن وزیرًا عثمانيًا وواليًا، يفكر في اللجوء إلى سفارة أجنبية خوفًا من أن يمثل أمام المحكمة، لدليل واضح ووثيقة أكيدة تدمغه تمامًا.
لا يوجد مثيل لهذا في تاريخ دولتنا بكامله، هذه الحادثة أحنــت رأس العثماني أمام الصديق وأمام العدو. اغتمت نفســي وأحسـسـت بالمهانة عندما علمت بهذه الحادثة. ذلك لأن هذا التصرف الذي أقدم عليه أثقــل وطئًا من الجريمة المدعى عليه فيها.
إنه تصرف لا يمكن الصــفح عنه، وأمرت ناظر العدل فورًا بتتبع هــذه المسألة، إن الإنجليز الذين ولا بد أن يكونوا عارفين بأصل المســـألة، لــم يظاهروه، وقبل الفرنسيون تسليمه بعد اعتراض بسيط.
أخذت علمًا بسير المحكمة ونتيجتها.. أعفو عن مدحت باشا لاشتراكه في قتل عمي السلطان عبد العزيز، ولكني لا أستطيع العفو عن وزيــر وصدر أعظم عثماني يتعاون مع دولة أجنبية.
لا بد أن موقفه أثناء القبض عليه ورغبته اللجوء إلى القنصلية الإنجليزية، جعلاه يفصـح بوضوح عمن يثق بــه وعمن يخدمه.
ومع كل هذا، فإنــــي تذكرت خدماته التي قدمها للدولة أثناء مــا كان واليًا، وخففت حكم الإعــــدام الصادر ضده إلى السـجن.
يريدون أن يلقــوا علي تبعة مسؤولية موته. فليلقوا، فغـــدًا عندما نمثل أمام رب العالمين سيكون وجهي أبيضًأ، وجبهتي ناصعةً. ولو كنت سأحاسب في هذه المسألة، فإن ربي يمكن أن يحاسبني لأننـــي عفوت عن صدر أعظم أهان دولته، وإني راضٍ بجزاء اللــــه في هـذا الســـبيل.
9 مارت 1333
بيلربـــي
يعد كمال بك من بين الذين لـــم ينالوا مني حقهم كاملًا، ربما يكـــون في هذا بعض الحقيقة.
كان كمال بك أكثر من لفت انتباهي من بين عدة أشخاص، أطلقوا عـــلى أنفسهم «العثمانيون الجدد». كان إنسانًا مضطربًا جدًا، لا تتوافق حياته العائلية مع حياته الخاصــــة، ولا تتوافق حياته القلمية مع حياتـــــه الفكرية. يمكن وإلى حد كبير، أن تجزم بأن إنسانًا ما يستطيع عمل أمر مـــا أو لا يستطيع، لكنك لا تستطيــــع القطـع بهذا بشكل من الأشكال وأنت تفكر في كمال بك، ذلك لأنه هو نفسه لا يعرف نفسه. تستطيع القول إنه واحد من الأشخاص النادرين الذين يحيون حياتين مزدوجتين في حيـــاة، تختلف الواحدة عن الأخرى حســـب مزاجه. من يعرفونه عـن قـــرب يعرفون أنه عندما كان على وئام مع السراي، كتب «التاريخ العثماني»، وعندما فسدت هذه العلاقة، يعرفون أنه قطع رأس التنين بقوله: «كلب هو الذي يأمن لخدمة صياد غــــير منصف».. إنه إنسان متقلب، ربما كان إنسانًا مخلصًا جدًا، يمكنك خلال ساعات أن تجعله يفكر مثلــك، ولا يمكنك معرفة عدد الساعات أو الأيام التي سيحمل فيها هذه الأفكار.
عند كتابة القانون الأسـاسـي، تولى هو أيضًا إعداد مشروع له، كان مختلفًا مع مدحت باشـا في هــذا الموضوع، رغم صداقتهما الحميمة.
في البداية كنت أدهش له كثيرًا، لكني بعد ذلك فهمته كان يجــــل الأسرة العثمانية كثيرًا، ويريد لكل أفكــار الإصـــلاح أن تتم في إطارها، وكان في هذا على عـكـس مدحت باشـــا، فقد كان يفكر في تحين فرصـــــة من الفرص ينهي فيها حكم آل عثــــمان، ويحل هو محلها.
ما أعجب هذا! مدحت باشا يقول ذات ليلة: ماذا يحدث لو حـــل آل مدحت محل آل عثمان، وفي اليــوم التالي يأتيني كمال بك ويخبرني بذلك.
في الأيام التي كان يبحث فيهـــا القانون الأساسي في اللجنة، أتـــى كمال بك إلى السراى وطلب سرعـــة مقابلتي، أخبرني بهذا سعيد باشا، وكانت عندي بعض المشاغل فرغبت أن يقابلني في يوم آخر، أصـر علــى مقابلتي وقال: «يجب أن أراه بسرعة فما عندي أهم»، وقابلته.
كان في أشد حالات الاضطراب، وجهه أصفر، يداه ترتعشان، أدى الاحترامات الواجبة وقال:
- لا بد أن تتدخلوا في القانــون الأساسي الذي يعــد الآن، وإلا، فمعاذ اللـه ستنتهي الدولة العثمانية.
هدأت روعه قليلًا، وحكى لي أن مدحت باشا يضغط عليه بدافع من الصداقة الوطيدة بينهما، لكنه أصر على رأيه، وقد تفاهموا مع سليمان باشا، ويبدو أنهم سينقلون كل حقوق السلطان إلى المجلس.
لو نجحوا فيما يقوله فمعاذ اللـه ستنتهي الدولة. فكرت فيما يجــب عمله، وجدت أن لا بد لـــي من الاعتراض على هذه المحاولات.
ما قاله لي كمال بك كنت أعرفه، فقد كان عندي خبر به، وتتبعت هذه المحاولات وأنا أحس ببعض الأسـى، تلك الأيام كنت مخلصًا في مسألة إعلان القانون الأساسي، كان والدي المحترم السلطان عبد المجيد هو الذي أقنعني بهذه الفكرة، ولم أكن أختلف مع مدحت باشا إطلاقًا في هـــذا الموضوع، لكني كنت أرى أن يعاون السراي المجلس، ومدحت باشا يريد أن يضع السراى على الهامش.
في ذلك اليوم رأيت أن كمال بــك يفكر مثلي، ولا أستطيع أن أخفي أنني كنت ممتنًا جدًا لهذا.
ومع هذا، فإني لكي أجعله يتكلم أكثر، سألته عن أي مادة من المـــواد هي التي ذكرت هذا، اتسعت عيناه دهشة وحيرة، وقال:
- يا سيدنا، هذا المجلس سيشكل من عناصر مختلفة، وعلى قدر مــا يلزم من التفكير في الجانب الحســن في أمر من الأمور، على قدر ما ينبغي اتخاذ التدابير لجوانبه الســـيئة.
الدولة العثمانية موحدة في شخصـكم، وأنتم اليد الأمينة لصاحبها الحقيقي وهو جناب اللـه. فإذا كان في يـــد اقتداركم عقد المجلس في حالة ضرورة، فإنه من حكمة الدولة ضرورة أن يكون في يد تقديركم تعطيل هذه المباحثات.
فهمت مم يخاف، وأعترف أنه كان إنسانًا وطنيًا، كان يرى أن بقاء الملك فوق كل شيء.
لم أستطع أن أفهم كيف ســـادت رغبة إسقاطي من فوق عرشي وتنصيب أخي مراد مرة أخرى. هل لأن أخي السلطان مراد كان مثلـــه ماسونيًا، أم لأن التفكير أفضى به إلى أنه من السهل عليه أن يضــغــط على أخي مراد ويجعله ينفذ كل شيء؟! حتى الآن لا أستطيع تقدير هذا.
لا بد للتاريخ يومًا أن يفصـح عــن ماهية الذين سموا أنفسهم «الأتراك الشبان» أو «تركيا الفتاة» وعن ماسونيتهم. استطعت أن أعرف من تحقيقاتي أن كلهم تقريبًا من الماسون، وأنهم منتسبون إلى المحفل الماسوني الإنجليزي، وكانوا يتلقون معونات مادية من هذا المحفل، ولا بد للتاريخ أن يفصح عن هذه المعونات، وهـــل كانت معونات إنسانية أم سياسية.
وكما قلت من قبل، إن ذهـــاب كمال بك إلى ما جوسـا، وإرساله إلى ميديللي، كان بسبب عدم قدرتي على الإساءة إلى قلمه ووطنيته، وإلا فإنه كان سيشترك في أعمال توجب توقيع أنواع من العقاب أكثر ثقــلًا عليــه.
كان محظورًا أن يبقى في إستانبول، فالمحيطون به يحرضونه ويستخدمونه كما يريدون، ولذا حبسته، نفيته، لكن محبتي إليه لم تنتقص في يــوم من الأيام. ليكن في أي مكان، لكنه هو وأسرته كانوا يعيشون مرفهين، والخطابات التي أرسلها تعبر عــن امتنانه وشكره، وهي محفوظة بين أوراق يلديز، ولا بد أن توجد إذا ما بحث عنها، لأن المرحوم كان يعـــرف تصوره هذا جيدًا، عليه رحمة اللـه.
______________
«1» يعني مدحت باشا.
الرابط المختصر :
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل