العنوان مسألة الوفاء بالعهد بين انتظام عقد الجماعة ومصلحة الدولة
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 19-سبتمبر-1978
مشاهدات 9
نشر في العدد 412
نشر في الصفحة 10
الثلاثاء 19-سبتمبر-1978
- البر والتقوى والمعروف في الله شرط لكل معاهدة في الإسلام
المجتمع المسلم مجتمع متميز عن غيره من المجتمعات الأخرى، وقد أراد الله سبحانه لهذا المجتمع أن يقوم على الفضيلة القويمة التي انفرط عقد المجتمعات السابقة للإسلام بسبب تخلي الناس عنها آنذاك، ولعل العهد والميثاق الذين اتصف بنو إسرائيل بنقضهما دائمًا جيلًا بعد جيل، هو السبب في هلاك الفضيلة في مجتمعاتهم، لذلك فقد تشدد الدين الإسلامي بمسألة العهود والعقود والمواثيق تشددًا يكفل لهذه الأمة تحقيق المهمة المنوطة بها، وقد صور القرآن الكريم مسألة نقض العهد بصورة تصيب ناقض العهد بالتحقير والتسفيه، سواء أكان ذلك العهد بين فرد وفرد، أو بين الفرد والدولة المسلمة، أو بين جماعة وجماعة أو دولة ودولة.
- الوفاء بالعهد وانتظام عقد الجماعة
وللعهد أثر كبير في انتظام أمر الجماعة المسلمة، سواء أكان ذلك العهد بيعة أم غير ذلك، وقد اعتبر الإسلام ذلك عهدًا لله سبحانه ونقضه يكون بالتالي تطاولًا على ما عاهد المسلم ربه عليه؛ قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (النحل: 91).
ونستطيع أن نقول: إن العهد هنا يشمل فيما يشمل بيعة المسلمين الأوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه يشمل بيعة المسلمين لأميرهم أو الخليفة الحاكم بكتاب الله وسنته، كما يشمل كل عهد معروف یأمر به الله سبحانه، وللوفاء بالعهد قوة فاعلة في المجتمع المسلم، فهو يحمل في مقصوده الذي أراده الله بقاء عنصر الثقة كعلاقة بين المتعاهدين، ومن ثم في التعامل بين الناس جميعًا؛ وذلك أنه بانعدام هذه الثقة لا يقوم مجتمع أبدًا، ولا تقوم إنسانية ولا تقوم حضارة، وقد أكد الله سبحانه في الآية الكريمة السابقة على مسألة الوفاء بالعهد، حتى أن روحها ونصها يخجل المتعاهدين أن ينقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلوا الله كفيلًا عليهم وأشهدوه عهدهم، وجعلوه كافلًا للوفاء بها، وفي قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ تحذير وتهديد خفي لمن يقطع عهده الذي عاهده، أو ينكث ببيعته التي بايع، وله مع ربه حساب في اليوم الآخر، وبهذا التشدد أمر الإسلام بالمحافظة على العهد دونما تسامح؛ لأن هذه المسألة هي قاعدة الثقة الاجتماعية التي ينفرط بدونها عقد الجماعة وينهدم بناؤها، وقد قبح القرآن الكريم نكث العهد والانقلاب على صاحبه، وصور ذلك بصورة تثير في النفس كراهية فعل المسلم لذلك؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (النحل: 92).
ففي هذه الصورة القرآنية بشبه الله من ينقض العهد بامرأة حمقاء في عقلها لوثة، تتصف بضعف العزيمة والرأي، تقتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعًا منكوثة ومحلولة ومفككة، وهنا يقف المسلم ليتأمل هذه الصورة، فتنأی نفسه عن فعل ما يشابهها وهي نقض العهد؛ لأن كل جزئية من جزئيات صنيع المرأة كما هذه المرأة الضعيفة في إرادتها، بالتحقير وتوحي بالترذيل، وهي سوه الأمر في النفوس، وتقبحه في القلوب، وهذا هو المقصود، فالإنسان كريم لا يرضى لنفسه أن يكون مثله مثل هذه المرأة الضعيفة في إرادتها، لكناثة في عقلها، التي تقضي حياتها عبثًا فيما لا غناء فيه.
وإذا كان قوله تعالى في الآية سائلية: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ (النحل: 92) جاء ردًّا على بعض الناس الذين وقفوا من الدعوة الإسلامية الأولى موقف الجبان خائف من الهلاك الذي قد يلحق به بسبب دخوله في الإسلام، فإن وحي يرد أيضًا على كل فرد يتقصى الجماعة المسلمة العاملة لجعل كلمة الله هي العليا، ذلك أننا في هذا العصر نجد كثيرًا من ضعفاء الإيمان يتجنبون العمل الإسلامي، ويبتعدون عن الانخراط في صفوف جماعته السلطان، وخوفًا من أولى البطش الذين يستضعفون المسلمين بشأن أسلافهم من الطواغيت والجبابرة الذين اعتدوا على حق الله سبحانه في حكم الناس بالقسطاس المستقيم أن الموقف التبريري الذي نجده عند بعضهم كالخوف على المال أو الولد أو الوطن وما إلى ذلك، ليس مقبولًا في میزان الإسلام، ويكون الأمر أشد صعوبة إذا تخلى الانسان عن بيعة بايعها لوجه الله، واذا كانت الصفوف الإسلامية تعاني أحيانًا من بعض الأفراد الذين يهربون من بيعة سموها في أعناقهم، فإن الآية الكريمة تحكي لهم موقف أمثالهم أيام الدعوة الإسلامية زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك بأن محمدًا ومن معه قلة ضعيفة لا تقوى على الصمود أو الاستمرارية في دعوتها، فما قريش كثرة قوية، وقوة ضاربة ذي من يلحق بمحمد ودعوته، وقد نبه القرآن إلى أن هذا الموقف ما هو خديعة يتخذها أمثال هؤلاء لتغطية مصالحهم أو حمايتها. ومتى كانت المصلحة هي التي تحدد موقف الإنسان من دعوة ما؟
إن الدعوات التي تقوم على المصلحة الخاصة دون مصلحة هذا الدين لا حياة لها أبدًا، وأحرى بأصحابها أن يحثوا على رءوسهم التراب.
- مسألة نقض العهود ومصلحة الدولة:
والمتفحص في الآية السابقة يرى أن قوله تعالى يشمل الجماعات والدولة فضلًا عما ذكرناه من النقض الفردي للعهد، وبالتحديد فإنه يدخل في النص أن يكون نقض العهد تحقيقًا لما يسمى الآن -مصلحة الدولة- حيث تعقد دولة ما معاهدة مع دولة أو عدد من الدول أو الجماعات، ثم تنقض معاهدتها هذه بسبب أن هناك دولة أربى، أو هناك مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقًا لمصلحة الدولة، فالإسلام لا يقر هذا المبرر ولا يقبله أبدًا، بل على العكس، فإنه يجزم بالوفاء بالعهد، وينهى أيضًا عن اتخاذ الأيمان ذريعة للغش ووسيلة للخداع، وفي مقابل هذا فإن الإسلام لا يقر معاهدة أو ميثاقًا أو تعاونًا يقوم على غير البر والتقوى والمعروف في الله، ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون قائم على الإثم والفسوق والعصيان وأكل حقوق الناس بالباطل، واستغلال مقدرات الأمة والشعوب، أو السيطرة على أرزاق الدول وأسباب حياتها، وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية، وعليه أيضًا قام بناء الدولة المسلمة التي عمت بمبادئها كل أرض وكل شعب وصلت اليه، فنعم العالم آنذاك بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية، وذاك يوم أن كانت قيادة البشرية للإسلام الحقيقي، وليس إسلام اليسار أو اليمين. وإذا كان رب هذا الكون لا يقبل المعاهدة التي تقوم على غير البر والتقوى والمعروف به، فكيف يقبل بعض أولي الأمر في هذا الزمان التعاهد مع أسفل أمة وأخرى مجتمع سلب أرضنا ومقدساتنا في فلسطين؟
إن المعاهدات التي يركض ويلهث وراءها أصحاب الدعوة إلى الحل السلمي إنما هي معاهدات لا يقبلها الله أبدًا؛ لأنه لا يراد بها وجهه، وليس فيها شيء من صفات البر والتقوى والمعروف في الله سبحانه، فضلًا عن أن الفريق الثاني -اليهود، كما حدثنا كتابنا الخالد القرآن الكريم- لا يحفظون إلًّا ولا ذمة، ولا يرعون عهدًا أو معاهدًا، ولا يؤمنون أصلًا بوجود طرف فاعل للأحداث غيرهم، ومعاهدة مع يهود المراوغة والمخاتلة والكذب والمكر، إنما هي معاهدة مع الشيطان.
ولعل المسلم لا يكون مبالغًا إذا اعتقد أن معاهدة مع يهود أوصافها وأشكالها معروفة سلفًا، إنما هي نقض لبيعتنا مع ربنا، وعهدنا معه على الجهاد المطلوب الذي لا يكتمل الإسلام إلا به؛ لأنه هو ذروة سنام الإسلام، كما جاء في الحديث الصحيح، ونحن لا نريد أن نطيل هنا؛ لأن موقف الإسلام من هذه المسألة بين واضح معروف.
على أن الأمر الإلهي بالتحذير من كل ما يخالف العهد مع الله يظل قائمًا حتى تقوم الساعة، ولعل مسألة تنبيه الله سبحانه إلى أن قيام مثل هذه الحالة - ﴿أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ﴾- كان ابتلاء من الله لأولئك الذين روعتهم الآية، وامتحانًا لإرادتهم ووفائهم وكرامتهم على أنفسهم، وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه، إنما يبلوكم الله به.
أما أمر الخلافات بين الجماعات وما ينشب بينهم من تصادم، فإن المسلم يكل أمرها إلى الله للفصل بها يوم القيامة دون أن يتحيز للأمة أو الجماعة الأقوى أو الأشد والأكبر، أن يوم القيامة هو يوم الفصل، ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (النحل: 92). وبهذا يمهد الله سبحانه لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة إذا كان العهد لا يمس بعقيدة المسلم، وسلوكه، وسيادته على أرضه ووطنه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 93).
إن الله خالق هذا الكون، وخالق البشر جميعه، لو شاء لخلق الناس باستعداد واحد، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة، نسخًا غير مكررة ولا معادة، وجعل نواميس الهدى والضلال تمضي بها مشيئته في الناس، وكل مسئول عما يعمل، والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات، وهذه قمة في نظافة التعامل والسماحة الدينية، لم يحققها إلا الإسلام، ولم يسر على نهجها إلا نظام الدولة الإسلامية.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالقيم العلمية والأخلاقية في الحضارة الإسلامية.. الدين والحياة وجهان لعملة واحدة
نشر في العدد 1811
42
السبت 19-يوليو-2008
العادات الاجتماعية بالدول العربية وتأثيرها على زواج الشباب
نشر في العدد 2180
150
الخميس 01-يونيو-2023