; مسارات جديدة لإصلاح التعليم.. قراءة في تقرير مؤسسة «كارنيجي» | مجلة المجتمع

العنوان مسارات جديدة لإصلاح التعليم.. قراءة في تقرير مؤسسة «كارنيجي»

الكاتب د. فاطمة حافظ

تاريخ النشر الجمعة 01-سبتمبر-2023

مشاهدات 33

نشر في العدد 2183

نشر في الصفحة 18

الجمعة 01-سبتمبر-2023

اهتم الإصلاحيون المسلمون منذ زمن بعيد بقضية التعليم اهتماماً بالغاً، حيث تواترت جهودهم النظرية والعملية في هذا المجال، وخلفت عدداً ضخماً من الكتابات والتجارب التربوية التي كان مصيرها الإهمال أو التجاهل من القادة والسياسيين في مرحلة ما بعد الاستقلال.

انفردت الدولة عبر عقود بإدارة ملف التعليم دون الاستعانة بالقوى الاجتماعية أو المفكرين الإصلاحيين، وكانت المحصلة الختامية أن صارت «نوعية التعليم رديئة»، حسب توصيف التنمية الإنسانية العربية الصادر في عام 2016م، وفي ظل هذا الإخفاق التعليمي، صدرت عدة تقارير دولية تناقش دواعي تدني التعليم، وتقترح بعض الإجراءات الضرورية لإصلاح الخلل التعليمي، ومن بينها مؤسسة «كارنيجي» التي قدمت تقريراً في العام الماضي بعنوان «على خطى الإصلاح: البحث عن مسارات مبتكرة للإصلاح التربوي العربي»، شارك في إعداده عدد من الخبراء التربويين، واستعرض بضع تجارب تربوية ناجحة في البلاد العربية.

ويُستهل التقرير بمقدمة تشير إلى أن أزمة التعليم تعود جذورها إلى منتصف القرن الماضي، حيث انصرف اهتمام الدولة في مرحلة ما بعد الاستقلال إلى بناء أعداد متزايدة من المدارس لتغطية كافة المناطق، واستيعاب أعداد متزايدة من الطلاب، دون الالتفات إلى جودة التعليم؛ وهو ما أدى إلى تدهور العملية التعليمية نتيجة التركيز على الامتحانات؛ وعليه كانت نتائج الطلاب العرب تأتي مخيبة في الاختبارات الدولية أو على مستوى اكتساب المهارات في عالم يتغير اقتصادياً بسرعة.

ويشير التقرير إلى أن أزمة التعليم تعمقت في ظل التطور الرقمي الحاصل، لافتاً إلى أن الطلاب انخرطوا وتفاعلوا بشكل فردي مع العصر الرقمي، على حين ظلت المدرسة بمنأى عن الرقمية والتغيرات العالمية، ولذلك كان وقع أزمة وباء «كورونا» كاشفاً عن تردي المنظومة التعليمية وعجزها عن مواجهة التحديات، رغم الثورة التكنولوجية، وإلمام الطلاب بكيفية التعامل مع الأجهزة الرقمية.

أثار إخفاق معظم البلدان العربية في التعامل مع الجائحة اهتمام بعض مؤسسات المجتمع الدولي التي أصدرت تقارير مشابهة حول مستقبل التعليم العربي؛ ومنها تقرير منظمة «اليونسكو» الصادر عام 2022م، الذي أدان السياسات التعليمية في العالم العربي، مشيراً إلى أن الإنفاق على التعليم الرسمي لا يستوفي الحد الأدنى من المعايير، وأن هناك تراجعاً في حجم الإنفاق على التعليم ضمن الموازنات الرسمية.

خطوط عريضة بالإصلاح

لا يقدم التقرير خارطة شاملة بالإصلاح، بل هذا تحديداً ما لا يريده انطلاقاً من أنه ليس هناك نموذج وحيد يمكن اتباعه بحيث يشكل بديلاً مناسباً للنظم التعليمية القائمة، وأن الإصلاح مرتبط بالبيئة المحلية لكل دولة، وإنما هناك بضع معايير وقواعد ينبغي مراعاتها حال توافرت الرغبة في الإصلاح، وهذه القواعد أتت موزعة في بنية التقرير، ولم يفرد لها بنداً محدداً، ويمكن استخلاصها على النحو التالي:

1- يكمن نجاح العملية التعليمية في الابتكار والتجربة بين عدة نماذج بدلاً من فرض نموذج وطني أو دولي واحد، أو حتى مجموعة معايير، وهو ما يغاير الفلسفة القائمة على ضرورة توحيد التعليم لجميع الطلاب لخلق هوية واحدة لجميع الطلاب.

2- المقاربة الإصلاحية ينبغي أن تنطلق من الأسفل إلى الأعلى؛ أي من المؤسسة المدرسية والمجتمع، وهذا لا يعني استبعاد الحكومات، وإنما بناء جسور التعاون والتشاور معها، ولكن من دون أن تكون محكومة بالتفكير السلطوي القديم.

3- غاية الإصلاح التعليمي المفترض ليست نقل المهارات أو تعزيز المهارات المؤهلة للانخراط في سوق العمل، وإنما ترسيخ فكرة المواطنة وإزالة المخاوف الاجتماعية والدينية بشأنها، وإيجاد توافق عام حول قيم المواطنة من قبول للآخر والأفكار المغايرة.

4- يحتل الفرد مكانة محورية في العملية التعليمية؛ لذا يجب مراعاة الفروق الفردية والاختلافات بين الطلاب؛ وهو ما يعني التخلي عن فكرة توحيد نظم التعليم.

5- العمل على تعزيز التفكير النقدي، وإرساء قواعد التفكير الحر؛ هما من أولويات الإصلاح التعليمي؛ إذ من دون المساس بالعقائد والقيم العليا ينبغي ألا تبقى الموروثات الفكرية والثقافية في منأى عن الانتقاد والتغيير إذا ما أثبت التحليل العلمي خطأها وقصورها.

انطلاقاً من هذه القواعد، يقدم التقرير أجندة للإصلاح قابلة للتطبيق تستند إلى أربعة محاور، وهي:

أولاً: المدرسة؛ وفيها يتم إشراك الطلاب والمدرسين في إحداث تحول بالنموذج التعليمي يضع المواطنة في صلب عملية التعلم.

ثانياً: الدولة؛ ودورها يتمثل في إعادة تشكيل وزارات التربية والتعليم، بحيث لا تصبح هي المهيمنة على العملية التعليمية، وإنما ميسِّرة لها ومصممة للقواعد والمعايير التعليمية.

ثالثاً: المجتمع ينبغي أن يمارس دوراً في عملية التعليم من خلال التفاعل مع المدرسة.

رابعاً: بلورة رؤية تعليمية جديدة تعترف أن جوهر المشكلة ليس في أن النظم التعليمية لا تنتج الأعداد المتوقعة من العمال المهرة، بل أنها لا تنتج متعلمين أكفاء أو مواطنين صالحين.

ختاماً، يمكن القول: إن التقرير اتسم بالشجاعة والجرأة في الطرح حين اعتبر قضية الإصلاح سياسية وليست تقنية، وقدم مقترحات جيدة في مجملها لإصلاح العملية التعليمية، إلا أننا نتحفظ فيها على مسألتين؛ الأولى: انتقاصه من فكرة إكساب الطلاب مهارات تؤهلهم لسوق العمل، وهي مسألة تشكل أولوية قصوى للمجتمعات العربية، ولا يمكن جعل المواطنة بديلاً عنها مهما كانت الذرائع والحجج؛ لأن المجتمعات العربية خبرت المواطنة ومارستها منذ القدم، ولم تعرف الإقصاء والتهميش الذي عرفته بعض المجتمعات الأخرى، وبالتالي فإن الادعاء بوجود أزمة مواطنة لا تدعمه القرائن.

والتحفظ الآخر أن الإصلاح الذي يقترحه التقرير ربما يثير الحساسية الثقافية، ففي التجربة القطرية أدى اعتماد المجلس الأعلى للتعليم اللغة الإنجليزية لغة إلزامية لتعليم الرياضيات والعلوم في الصفوف الأولية حساسيات ثقافية ودينية؛ إذ أدى ذلك إلى تقليص عدد الحصص المخصصة للغة العربية والدراسات الإسلامية، وهي نتيجة غير متوقعة، بل غير مرغوب فيها؛ إذ يفترض أن يؤدي الإصلاح إلى تعزيز الهوية عوضاً عن تقويضها.

 

الرابط المختصر :